زوّار الديوانية

نشر في 17-03-2023
آخر تحديث 16-03-2023 | 18:38
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

إن الإنسان كائن اجتماعي بفطرته، يحتاج للتواصل بكل أشكاله، كالتواصل الفكري والبصري والعاطفي، وهو تعبيري بطبعه، يحتاج أن يعبر عن ذاته وطبيعة تفكيره، إما بالكلام أو الغناء أو الرسم أو الحركة، وهو أيضا تحليلي، يحب أن يفسر ويحلل ما يراه من حوله، ويحرر هذه التصورات والخواطر على شكل حوارات، تتحول إلى نقاشات حية، واقعية، فيها الشد والجذب، وفيها الظرافة واللطافة، وكذلك الإنسان بحاجة للشعور بالتقدير الذي يشعره بأهميته ومكانته بين الناس، وهو بحاجة للشعور بالانتماء والقبول من قبل الآخرين.

إن ما يميز «الديوانية» أنها تلبي كل هذه الاحتياجات الإنسانية وزيادة، فهي الملتقى الاجتماعي للتعارف والتآلف، والضحك، والمواساة، والتحاور، والتخابر، والانتماء، والأخذ والعطاء، والتفكير والتقدير، والحرية في التعبير، وفيها القريب والبعيد، والمؤيد والمخالف.

وأما مفهوم الناس للديوانية واحتياجهم لها فيختلف من شخص لآخر، والناس فيما يعشقون مذاهب! فمنهم من يرى أنها بيته الثاني، وملاذه الذي يحتويه، ويلقي فيه جميع همومه، ومنهم من يرى أنها مكسب اجتماعي وذخيرة من المعارف والأصحاب، ومنهم من يريدها أن تكون استراحة أو مقهى خاصا لحضرة جنابه! وللناس طباع وأمزجة تتقلب يوميا، ولا ندري أين يرسو بهم المزاج في هذا المساء!

منهم من يزور الديوانية لينفّس عن ضيقه، ويبحث عمن يواسيه، وأحيانا يبحث عمن يؤيد رأيه، وهناك من يتلذذ فيمن يخالف رأيه، ليخرج مهاراته في الإقناع، وهناك من يطرح الموضوع بكل جدية، ويتحدث بانفعالية، ومنهم من يتفنن في تحويل النقاشات لمواقف فكاهية! ويعشق المشاكسات الكلامية، ويرى أنها متعة الحياة، ومنهم من يسأل عن أخبار البلد وأحواله، ويهتم بتفاصيلها، وهناك من يشتكي الحال، ويستهويه الجدال، ويعشق القيل والقال، ومنهم من يريد أن يهرب من متاعبه وهمومه، فيختبئ في زحمة الأصحاب، والمشوّق في الديوانية أنها كالمسرح اليومي، الذي يستقبل أمزجة الناس، التي لا تنتهي!

وعلى صاحب الديوانية مراعاة تفاوت هذه الأمزجة والطباع والأفهام قدر المستطاع للحفاظ على توازن المجلس، حتى لا يطغى جانب على آخر، وحتى لا تُصبغَ الديوانية بصبغة صبيانية لا تراعي الأصول، أو متزمتة لا تراعي أدب الخلاف.

يقال في الأمثال إن «المجالس مدارس»، وأنا شخصيا أعتبر أن الديوانية هي المدرسة الخصوصية المرنة، التي تسمح لروادها بالمشاركة في بناء هويتها ومزاجها العام، فلذلك أحيي كل ديوانية طورت من طبيعتها وارتقت بروادها، ولم تكتف أن تكون مجرد ملتقى اجتماعي عادي، بل خصصت أياما لاستضافة شخصيات مثقفة ومتخصصة في مختلف المجالات العلمية، لإقامة ندوات توعوية ودروس علمية نافعة، لا تخلو من السلوى والفائدة والحوارات الشيّقة، كما عهدناه في كثير من دواوين الكويت الحبيبة.

back to top