شهدت جلسة مجلس الأمة المخصصة لمناقشة الميزانية العامة للدولة، أمس الأول، تطوراً لافتاً على صعيد العلاقة بين جناحَي الإدارة العامة في البلاد (الحكومة والبرلمان)، تمثّل في اتفاق السلطتين على تأجيل النظر بمشروعات قوانين ميزانيات الوزارات والجهات الحكومية، لدراسة ملاحظات النواب، تمهيداً لعقد جلسة أخرى بداية الشهر المقبل، تقرّ فيها الميزانية العامة للدولة على أسس يفترض أنها جديدة.

فبعد تمرير ميزانية السنة المالية 2021 /2022، بلا مناقشة، ضمن أزمة سياسية شهدتها البلاد وقتها أدّت الى تصويت الوزراء وقوفاً عند مدخل قاعة عبدالله السالم، وقبلها بسنوات كانت مناقشة الميزانية العامة للدولة اشبه بالشكلية، جاءت جلسة مناقشة ميزانية السنة المالية 2022 /2023 لتشهد مناقشة عامة لم تكن في حقيقة الأمر على درجة عالية من الاحترافية، لكنّها أيضا كانت ضرورية كبداية جيدة في التعامل مع ميزانية عامة تقدّر بـ 23.1 مليار دينار، بزيادة عن الميزانية السابقة بـ 0.2 بالمئة.

تحدٍّ ومعايير
Ad


وتجاوزا لجدية التعامل مع الميزانية، مقارنة بالسنوات السابقة، فإن التحدي القادم أمام السلطتين يتعلق بالجودة في التعامل مع ملفات الإنفاق العام، حيث تكرس مجموعة من المعايير التي تضمن كفاءة الإنفاق، ناهيك بتنمية الإيرادات.

فالنقاش حول الميزانية وإقرارها يجب أن يرتكزا على المعايير الاقتصادية بما توفّره من تحفيز في بيئة الأعمال وفرص العمل وتنوّع في الإيرادات العامة، وليس فقط نقاشاً مرتبطاً بالجوانب المحاسبية، مع تأكيد أن اختلالات الميزانية - وأولها الارتفاع القياسي في كلفة التوظيف البالغة 12.8 مليار دينار، بما يوازي 55.4 بالمئة من إجمالي المصروفات - تتطلب جهدا إصلاحيا على مدى سنوات، لكن يجب البدء فيه.

سقف الإنفاق

وأول هذه المعايير يتمثّل في العمل على تطبيق توصية مجلس الوزراء في شهر سبتمبر الماضي بشأن مقترح تحديد أسقف الإنفاق في الميزانية العامة للدولة للسنوات المالية الثلاث المقبلة، وهي في الحقيقة ليست التوصية الأولى من نوعها، بل سبقتها في حكومات ماضية توصيات بوضع سقف للإنفاق لم يصمد سنة مالية واحدة، مما يحتّم العمل على اعتبار سقف المصروفات هدفا للسلطتين يُقاس من خلاله مدى الانضباط المالي في البلاد.

استقطاع 10%

كذلك من المهم إعادة استقطاع 10 في المئة من الإيرادات النفطية لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال القادمة، بعد توقّف الاستقطاع مع تدهور أسعار النفط خلال جائحة كورونا، وتسجيل ميزانية الدولة عجوزات قياسية، الى جانب تنمية السيولة النقدية لصندوق الاحتياطي العام؛ التي استُهلكت بالكامل منذ بداية تراجع أسعار النفط نهاية عام 2014 حتى الجائحة، خصوصا أن التوقعات ترجّح أن ميزانية الكويت لعام 2022/ 2023 في طريقها لتحقيق أول فوائض سنوية منذ 8 سنوات، مدعومة بارتفاع في أسعار النفط العالمية.

التحوط

ولعلّ الحكومة والمجلس وقبلهما مُعِدّة الميزانية (وزارة المالية) أمام اختبار التعامل مع سعر برميل نفط متحوّط، لا سيما أن الأسعار الحالية المرتفعة مرتبطة بتطورات استثنائية تتعلق بأزمة الطاقة العالمية وتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وارتفاع تكاليف الشحن والإمداد والتأمين، الأمر الذي يجعل رفع سعر التعادل في الميزانية من 65 دولاراً للبرميل إلى 79 دولارا أمرا يحفّز على زيادة الإنفاق.

وبالطبع يظل بند الإيرادات غير النفطية المقدّر عند 9 في المئة من إجمالي الإيرادات العامة شهادة على إخفاق اقتصادي ومالي، وإنذارا بشأن أي سياسات مستدامة، خصوصا أن دروس انخفاض أسعار النفط منذ عام 2014 إلى أزمة كورونا وما صاحبهما من نفاد للاحتياطي العام والعجوزات المليارية وشحّ سيولة المالية العامة يفترض أن تكون ماثلة أمام السلطتين، وهو وضع يجعل تقديم مقترحات ذات جدوى اقتصادية لتنمية الإيرادات غير النفطية على المدى الطويل أمرا في أعلى مستويات الضرورة والأهمية.

غربلة المصروفات

ولا شك في أن غربلة المصروفات غير الضرورية أمر بالغ الأهمية، حتى وإن امتدت هذه العملية لأكثر من عام، وهي أغلبها يتعلق بهدر صريح، الى جانب بيانات غامضة تصل قيمتهما الإجمالية الى نحو 2.7 مليار دينار، أي ما يوازي 12.5 بالمئة من إجمالي مصروفات ميزانية 2020/ 2021 - آخر حساب ختامي - مرتبطة بمصروفات خاصة، وأخرى تحت خدمات متنوعة وأنشطة مختلفة، ناهيك بمهمات وضيافة ومؤتمرات وغيرها، فضلا عن تكاليف بمئات الملايين تتعلق بالعلاج في الخارج أو تأمين «المتقاعدين» في دولة تنفق أصلا مئات الملايين لتوفير الرعاية الصحية لمواطنيها مجانا.

ترشيد المشروعات

ومن المهم أن يشمل نقاش الميزانية ترشيدا ليس فقط في الإنفاق على المشروعات الرأسمالية من خلال تنمية قدرتها على تحقيق نمو في العائدات غير النفطية للميزانية، وتوفير فرص عمل وتطوير نظم مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بما يخفف من أعباء المناقصات العامة على الدولة، فضلا عن إعادة النظر في إجمالي الدعوم التي تكلف الدولة نحو 3.5 مليارات دينار من حيث إعادة هيكلتها لتصل إلى مستحقيها من الطبقة المتوسطة فما دون الشركات، لا سيما في القطاعات الخاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي والدوائي ومختلف الخدمات الضرورية، كذلك ربما تحتاج السلطة التنفيذية إلى آلية قياس مدى تحقّق الأهداف مقابل الإنفاق المالي، لا سيما في التعليم والصحة والخدمات العامة.

تحدي الشعبوية

لا شك ان احد اهم التحديات امام الميزانية العامة للدولة يتعلق بمنافسة مجلسي الامة والوزراء في تقديم المقترحات الشعبوية لا سيما تلك المكلفة ماليا على المدى الطويل، وهذه لا يمكن مواجهتها إلا من خلال تحقيق تقدم في ملف رفاهية المجتمع من جودة التعليم والصحة والسكن والطرق والتضخم والبيئة والحياة العامة، إذ ان الاخفاق في هذه الملفات ستتبعه مطالبات ريعية مالية لا تنتهي يكون اثرها السلبي على الاقتصاد والميزانية، وربما العملة الوطنية.

عمل أصيل

في الحقيقة، إن مناقشة الميزانيات تعدّ عملا أصيلا لأي برلمان في العالم، وقد شابت هذه العملية خلال السنوات الماضية العديد من التشوهات والانحرافات كإطلاق يد السلطة التنفيذية في إعداد الميزانية واعتمادها من دون رقابة حقيقية، أو تحميلها أعباء المشروعات الشعبوية الانتخابية اعتبارا لمخاطر المستقبل، وهو الأمر الذي يجب العمل على تغييره بدءاً من المجلس الحالي.