تتطلب الحوكمة التشريعية وجود سياسة تشريعية واضحة ومتجانسة تستهدف إصدار سلة قوانين ولوائح، متكاملة في أحكامها ومتسقة في غاياتها، ويكون من شأن تطبيقها التصدي لمسألة أو عدة مسائل تقع في صلب اهتمامات ومصالح المجتمع من جانب اجتماعي أو مالي أو اقتصادي أو تنموي أو بيئي وحتى دولي، وهي تعد جزءاً من السياسات العامة بمختلف مجالاتها وأهدافها الكلية والجزئية، حيث تمثل العملية التشريعية منهجية لترجمة السياسات العامة إلى مجموعة من النصوص القانونية التي تتصف بالتجرد والموضوعية والإلزام.
وبالمقابل، يمكن تعريف التشريع السياسي بأنه النشاط التشريعي الذي يستهدف التأثير على الشأن العام من منطلقات سياسية قد تنحرف أحياناً عن مسار المصلحة العامة، ويترافق ذلك عادة مع مجموعة من الضغوط والتدخلات والمناكفات وردات الفعل والتعامل مع الشؤون العامة بمنظور فئوي أو حزبي أو ذاتي ضيق.
التشريع لأغراض سياسية لا قانونية يهز ركائز الديموقراطية ويشكل خللاً في المنظومة الدستورية والنظام السياسي، ويهدد الحقوق والحريات العامة والخاصة، كما أنه لا يستجيب بشكل موضوعي وحقيقي لمطالب الشعوب وتطلعات الأجيال، في حين أن السياسة التشريعية تؤدي- في حال ضبطت شروط تحقيقها وتناسق أداء العاملين عليها- الى تحقيق الأمن القانوني واستقرار المراكز القانونية.
من الخطأ وقد يكون من الطوباية محاولة الفصل التام بين العمل السياسي والعملية التشريعية، إذ إن التشريع الوضعي بكل درجاته وأنواعه يتم اقتراحه وصياغته وإقراره من العاملين في الشأن العام ومن أركان السلطات الدستورية، وعليه فإن التكامل بين السياسة والتشريع يقتضي احترام بعض الضوابط التي نذكر منها دون ترتيب في الأولوية والأهمية:
• التخطيط التشريعي الذي يسهم في التعرف على الحاجات المجتمعية، وكشف الثغرات ومقاربة المشاكل ومحاولة اقتراح الحلول المناسبة لها.
• إجراء تقييم للمخاطر وإدارتها وإعداد استراتيجيات متعلقة بها بغرض إعداد النصوص الملائمة وتنفيذها بفعالية وكفاءة.
• وضع آليات وإنشاء وحدات تختص بالسهر على جودة وشفافية إجراءات السياسة التشريعية ومدى تحقيق أهدافها.
• التنبه الى بعض الخصوصيات المجتمعية أو الفئوية واحترام ثوابتها وتقاليدها الأساسية، بما في ذلك تطلعات الفئات الأكثر عزلة أو ضعفاً أو حاجة للتدخل التشريعي.
• عدم ربط التشريع بالحماسة الشعبوية الآنية وجعله أداة لتلبية المتطلبات المستحقة.
• النأي عن المصالح الخاصة والفئوية والحرص على عدم تضارب المصالح بغرض رفع مستوى الثقة بالعملية التشريعية وحيادية وتجرّد مخرجاتها.
• الشفافية في الإجراءات التشريعية، بما من شأنه مشاركة الرأي العام والمتخصصين من كل القطاعات الحكومية والأهلية في صناعة التشريع وصياغة القوانين واللوائح.
• تركيز متطلبات الحوكمة التشريعية بما يشمل التمكين من البحث العلمي واعتماد الأتمتة والتخصصية والمنهجية في العملية التشريعية.
• تبني أفضل الممارسات العالمية في الصياغة التشريعية ووضع أسس موحدة لها، ضماناً لتناسق التشريعات ومواءمتها للسياسة التشريعية ومراعاتها للأولويات الوطنية.
• المحافظة على الثوابت الدستورية وتجنب المساس بالحقوق الأساسية والحريات العامة.
• احترام مبدأ فصل السلطات وعدم تجاوز السلطة لاختصاصات الأخرى، مع الحرص على التعاون والتكامل التنسيقي بين مختلف السلطات والأجهزة التشريعية والتنفيذية، وذلك بغرض توحيد الاتجاهات وتفادي الازدواجية أو التضارب في الأنظمة والنصوص.
• احترام أحكام السلطة القضائية وصياغة نصوص «صديقة للقضاة» وتستجيب لمتطلبات العدالة وإحقاق الحق.
• احترام المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية الجماعية والثنائية، والالتزام بالتعاون التشريعي الدولي الذي يفرض مبادئ والتزامات عابرة للحدود.
• اعتماد منهجية قياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي والمالي والسياسي والإداري والبيئي للتشريعات قبل وبعد إصدارها بغية كفالة تحقيقها للغايات التي شرعت من أجلها بفعالية وواقعية وبعدالة وشفافية.
• المراجعة الدورية للتشريعات والمستجدات التي تهم المجتمع أو تحقق مطالبه وتيسر شؤونه.
وفي السياق، ونظراً للأهمية المتزايدة للسياسة التشريعية، فقد أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توصيات ومبادئ يؤدي احترامها الى خروج العملية التشريعية بنصوص متينة، متناسقة، مبنية على الأدلة والبراهين وتلبي المصلحة الوطنية العامة، حيث يقوم التشريع الجيد وتقاس فاعليته وكفاءته استناداً الى آلية الموازنة بين المنافع والتكاليف بكل أشكالها المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بما يحقق الرخاء والمساواة وخلق الفرص والرفاهية للجميع، وهي جميعها من الركائز الأساسية لعمل المنظمة المذكورة.
ومن هذا المنطلق تم التركيز بشكل رئيس على التشريعات ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي، حيث يؤدي إعمال السياسة التشريعية بشكل جيد ومدروس الى تنسيق ضروري بين الجهات العامة والخاصة بما يأخذ بالاعتبار مفردات واتجاهات الخطط التنموية والأولويات التي من شأنها تطوير القطاعات المختلفة وتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الشاملة، في حين يؤدي التشريع السياسي الى تخبط وربما تصيّد وتقصّد يربك القطاعات الاقتصادية ويعرقل العملية الإنتاجية ويحول دون تحقيق الاكتفاء الذاتي، ويضع عوائق أمام الحلول التكنولوجية والحوكمة بما يؤثر سلباً في رفاهية المجتمع وفي تلبية تطلعات أجياله.
* كاتب ومستشار قانوني.