إن دراسة التاريخ وجغرافيا الشعوب وعلم الأنثروبولجيا في حقب زمنية تمتد قروناً تزوّدنا بحقائق ونماذج مكررة من الأنماط البشرية، بتفكيرها وثقافتها، وتعاملها وولاءاتها وارتباطاتها، وجميعها تستحق التمعّن والدراسة، للوقوف على أبعادها، وفهم مسلكها، واستيعاب انعكاساتها، وحصافة التعامل مع ارتباطاتها وتبدّل ولاءاتها.

فالمدينة والحاضرة، كما يراها ابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع والتاريخ، هي دلالة الاستقرار وتعمير الأرض في حال تكوُّن وشائج الارتباط، وهو حاجة إنسانية وسلوك اجتماعي، ينقسم إليه الناس إلى قسمين.

Ad

القسم الأول، وهو الغالب، يميل إلى الاستقرار والتعمير والاشتغال بحرف ومهن مستوطنة، ولا تستوجب الترحال بحثاً عن العيش والرزق، أو بسبب الميل إلى الحياة البدائية، والأخيرة هي جوهر حياة الترحال والبُعد عن الاشتغال بالصنعة أو الحرف أو المهن المستوطنة، وهذه هي ثقافة الترحال التي يسلكها أهل البادية والأرياف والغابات وبعض مَن يرغب في العزلة والانغلاق.

وهكذا تنشأ ضمن المكونات الإنسانية في مختلف البلدان، وبتفاوت الثقافات والموروثات، طائفتان من الناس، أهل الحاضرة والمدن والتعمير، وأهل الترحال والرعي والانتقال، لكل منهما تفكيره وثقافته، وأنماط حياته ومنحى سلوكه وتعامله وولاءاته وارتباطاته.

وينطبق ذلك على المجتمع الكويتي الذي توجد فيه هاتان الفئتان، لكنّ هناك اختلافاً وخصوصية رجّحا كفّة أهل الحاضرة والمدن كمًّا ونوعاً وارتباطها بالأرض، وهما جوهر المواطنة التي تميَّز بها المجتمع الكويتي، في مقابل ضآلة وندرة حياة البداوة والترحال حتى اضمحلت من الوجود بشكل كامل، حيث انتقل كل أهل البادية والترحال لحياة الحاضرة والمدن، واختفى البدو الرُّحَّل في المجتمع الكويتي، فقد كانت حرف ومهن وأشغال الحياة المعيشية سبباً جوهرياً لهذا التحول الكامل، فالناس كانت تشتغل بالبحر غوصاً أو صيداً أو تجارة أو حرفاً تخدم كل تلك الأشغال والمهن، وقد ساهم في ذلك بشكل مباشر صغر مساحة البادية الكويتية، وقساوة أجوائها وشدة حرارة مناخها وجفافه، بسبب ندرة الأمطار، فكان ذلك سبباً لهجر معيشة التنقل والرعي، واختفاء الترحال الداخلي.

وهكذا مضت الأعوام من 1856 وحتى 1946 دون أن يُسجل أيّ وجود لبدو رحَّل في داخل البادية الكويتية، فقد استوطن الكويتيون المدينة، سواء داخل السور أو في القرى خارجه شمالاً بالجهراء وجنوباً في الفحيحيل والفنطاس وأبوحليفة، وتحوّل الجميع إلى الاستيطان الكامل مع بدء إنتاج النفط وعوائده.

وفي الأعوام من 1955 - 1962 بدأت تظهر ادعاءات الانتماء لبادية الكويت لأغراض الحصول على المواطنة الكويتية والاستفادة من المزايا المالية، وهي في حقيقتها هجرات حديثة من بادية الدول المجاورة، أملاً في اكتساب مواطَنة جديدة تمنحهم حياة ومزايا مالية أفضل من دولهم، فظهرت ادّعاءات مَن يسمّون أبناء بادية الكويت، وهي ادعاءات واهية تدحضها حقائق التاريخ والجغرافيا البشرية والبيانات الرسمية (فقد سجلت لجان الجنسية ذلك عام 1962 في ختام أعمالها، وأنه لا يوجد في بادية الكويت من رعاياها أحد).

والحقائق السابقة تبرهن على اختفاء حياة البادية في الكويت لزمن طويل وصل إلى نحو تسعين عاماً، وهو الحقيقة الحاسمة، في هذه المسألة المفصلية بمعرفة وتمحيص تاريخ الكويت ومكونات شعبه.

وعلى ذلك، فالسؤال الملحّ هو: متى وكيف ظهر مَن يدّعي أنه من فئة البدون؟

من المؤسف أن يكون ذلك تدافعاً غير مشروع من أبناء دول الجوار أملاً في تحسين معيشتهم، والحصول على مزايا مالية وحياتية تقدّمها الحكومة الكويتية، ليس للكويتيين فقط، وإنما أيضاً لمن (يدّعي أنه بدون)، فحدث ذلك التدافع والهجرات الحديثة تحت هذا المسمى، وإخفاء الوثائق والهويات الحقيقية، وقد كان التساهل في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي سبباً لتزايد هذه الفئة وتضخّمها بصورة غير مشروعة، وهو ما رصدته أجهزة الدولة الرسمية، وكذلك الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير مشروعة، وهو ما يستوجب حسم هذا الملف وطيّه إلى الأبد.