ناظم الغزالي... صوت العراق وسفير أغنيته «1-6»
• ولد فقيراً وعاش طفلاً يتيماً وبدأ حياته الفنية ممثلاً يافعاً على المسرح
ولد ناظم أحمد خضر الغزالي في عام 1921 في حي “الحيدر خانة” المعروف بأنه أحد أكثر الأحياء القديمة في بغداد فقرا، ويشكل هذا الحي بتاريخه العريق رمزية كبيرة بالنسبة للعراقيين.
يقع “الحيدر خانة” في بداية شارع الرشيد من جانب الميدان برصافة بغداد وقد شهد أحداثا سياسية واجتماعية عدة كان مسرحا مهما لها أهمها ثورة العشرين عام (1920) ضد الاحتلال البريطاني.
حقي الشبلي |
رائد الحركة المسرحية في العراق الفنان حقي الشبلي ولد في بغداد عام 1913، درس المسرح في فرنسا عام 1934 ثم عاد إلى بغداد بعد خمسة أعوام ليؤسس قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة سنة 1940، فأصبح رئيساً لقسم المسرح ومدرساً فيه ثم عميداً لمعهد الفنون الجميلة، واستمر في عطائه حتى تقاعده سنة 1979. كُرم في تونس عام 1983 كرائد عربي من رواد فن المسرح. وفي الكويت رشحته فرقة مسرحية كويتية كنقيب لفناني أقطار الخليج سنة 1984، قدمت فرقة الشبلي عدداً كبيرا من الروايات بين عامي (1927 – 1934)، قدر بحوالي 120 رواية مختلفة، وكان أول عرض مسرحي للفرقة (جزاء الشهامة) ثم (في سبيل التاج)، ثم (صلاح الدين الأيوبي)، (يوليوس قيصر)، (دموع بائسة)، (وحيدة) وأعمال أخرى. توفي في يونيو سنة 1985. |
ولا بد أن نذكر أن شخصيات كبيرة ومهمة سكنت الحي المذكور منها نوري سعيد وسعيد قزاز وعدد من الشعراء أمثال معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي. حيث ألقى أيضا الشاعر محمد مهدي البصير قصيدته المشهورة عن بغداد في جامع الحيدر خانة الأثري، كما كان الشاعر محمد رضا الشبيبي والصحافي المعروف نوري ثابت من رواد الجامع. إضافة لكل ذلك فقد سكن اليهود هذا الحي فترة طويلة من الزمن وكان لهم تأثيرهم في الحي وفي حياة ناظم الغزالي لاحقا. تقول بعض المصادر إن نسب ناظم أحمد ناصر خضير الجبوري يعود إلى مدينة سامراء شمال بغداد، أما لقب الغزالي فلحقه من جده لأمه (جهاد) الذي كان يلقب بالغزال لرشاقته وطوله وسرعته في الحركة والمشي.
وفاة والديه
لم تكن حياة الطفل المولود حديثا مختلفة عن الكثير من أطفال الحي لولا أن الحياة ضاعفت قسوتها عليه. فقد عاش الفقر والعوز معه في سريره الصغير وحُرم الرضيع من والده (الذي كان يعمل خياطا) حيث توفي في سنوات ناظم الأولى. أما الحرمان الأكبر فكان من دفء أحضان والدته (اسمها جهادية) التي ذاقت مرارة الأيام ضريرةً مغلقة العينين لتترك الطفل الصغير ناظم الذي عانده القدر مرات عدة يتيما وحيدا بسنواته الأربع وتلحق بوالده.
ثم تكفلت به خالته (مسعودة) والتي لم تكن أوفر حظا من والديه فقد عانت كما عانيا من الفقر المدقع بتربية الطفل الصغير اليتيم وإلحاقه بالمدرسة المأمونية، ويقال رغم شح المصادر إن خالته مسعودة تعرفت على أسرة ثرية تبنت الفتى الواعد ومهدت له الطريق ليكمل تعليمه ودراسته وكانت هذه الأسرة الثرية عاشقة للفن والجمال محبة لوطنها العراق، وفي الوقت نفسه كان ناظم تحت رعاية عمه محمد الذي اصطحبه إلى المجالس الدينية وما يسمى “الجالغيات” أي (الفرق الموسيقية العراقية التقليدية) التي كانت تقام في المقاهي وبيوت الأغنياء المشهورين، خلقت هذه الطقوس التي يتداخل فيها الموسيقي بالاجتماعي حالة نضج عند ناظم وميلا إليها بشكل كبير.
تابع على نفس المنوال إلى أن بلغ العاشرة من عمره تحديدا عام 1931 حيث باشر ناظم الغزالي الدراسة في «المدرسة المأمونية الابتدائية»، لذا فإن الفضل في تقديم الطفل لمعرفة وحب الموسيقى ولفت انتباهه إلى جمالها خصوصا موسيقى بلده بمقاماتها الأصيلة من خلال الاحتفالات والموالد النبوية يعود إلى عمه محمد. عُرف الطفل ناظم وقتها بصوته الجميل وبحسن تقليده لرائد المقام العراقي محمد القبانجي، وبدأ يقارب الغناء وفقا لألحان صاغ بعضا منها معلم النشيد في المدرسة وهو رجاء الله الزغبي.
وُلِد ناظم في الحيدرخانة أعرق أحياء العراق وأكثرها فقراً
صحيح أن مدرسة الحياة صقلت موهبة الغزالي الطفل الذكي وكانت الحياة الشعبية القاسية معلمه الأول إلا أن الحركة الكشفية في العراق كانت معلمه الثاني حيث التحق بالكشافة أثناء الدراسة بمدارس بغداد وبسرعة لفت نظر معلم الموسيقى بصوته الجميل والأداء المتقن للمقام العراقي الذي كان يقدمه في حفلات المدرسة. وفي الخامسة عشرة من عمره عام 1936 أقيم معسكر كشفي لطلاب المدرسة. وكان أحد المشرفين عليه مدرس الموسيقى رجاء الله الزغبي المعجب بصوت ناظم، فلحن له في المعسكر أغنيات كشفية ليتغنى بها ويرددها معه أفراد الفرقة الكشفية ولشدة إيمان الزغبي بموهبة تلميذه كان يقول له: اليوم تغني من ألحاني في المدرسة والمعسكرات وغدا تغني لكل العراق، وصدقت نبوءة الرجل.
يقول الباحث العراقي الأستاذ كمال لطيف سالم عن تلك المرحلة من حياة الغزالي: لقد كان طالبا مجتهدا يستمع إلى المدائح النبوية وإلى المقامات البغدادية المشهورة في الفضل وباب الشيخ لأن المنتديات في المقاهي كانت المتنفس الوحيد للعراقيين للاستماع إلى المقامات، أما حميد السامرائي وهو متابع لشؤون المقام العراقي فيصف الغزالي بالمستمع الشغوف وأن أكثر من أعجبه كان رائد المقام العراقي محمد القبانجي حيث تبعه ناظم وأينما تجد القبانجي تجد ناظم مستمعا ومراقبا له. فمن هو القابنجي، ولماذا يكثر ذكره عند الباحثين الموسيقيين وعند المطربين أنفسهم في العراق؟
محمد القبانجي
ولد محمد القبانجي حسب العديد من المصادرعام 1901 في بغداد وبالتحديد في محله سوق الغزل لُقب (بالقبانجي أو الكبنجي) نسبة إلى العمل بالتجارة ومهنة كيل المواد خصوصا الغذائية منها بالقبان أو ما يسميه العراقيون (الكبان) عند معظم رجال آل القابنجي.
فقد والديه قبل بلوغه الخامسة وتكفلت به خالته الفقيرة ثم عمه
تعلم المقامات صغيرا من والده عبد الرزاق القبانجي قارئ المقامات، وفي خان الشبندر بالشورجة تردد على مقهًى صاحبُه قدوري العيشة، وأغلب رواده من المغنين والموسيقيين المشهورين في بغداد من بينهم قدوري العيشة نفسه وسيد ولي ورشيد القندرجي ومحمود الخياط. بدأ القبانجي مجالسة هؤلاء والاستماع اليهم بشغف والإنصات لأدائهم، وثّق صداقته مع العيشة المتميز عن بقية قراء المقام من جيله بالقراءة والكتابة. وفي ذلك قال القبانجي: “كان العيشة يدندن ويلحن ويغني وأنا أقرأ له الشعر الذي أنظمه فيستفيد مني بهذا المجال فيما حفظته من الشعر مما جعلني أستزيد من حفظ الشعر قبل الغناء وصولاً لتحقيق حلمي في أن أكون مغنيا وقارئا للمقام على أساس جديد”. لقد اعجب قدوري العيشة بالشاب محمد القبانجي لسببين وهما جمال صوته وحفظه مئات الأبيات من قصائد الشعر المقفى والجميل، فقدمه قدوري لمشاهير المطربين والمغنين من قراء المقام الذين لم يبخلوا عليه بالتدريب وشرح اصول الغناء والموسيقى في مقابل أن يقرأ عليهم القصائد التي يحفظها لكبار الشعراء.
تقابل الشاعر والقارئ والأديب الموسيقي الملا عثمان الموصللي مع القبانجي عندما كان الأخير فتى يافعاً في زيارة للموصللي إلى بغداد بعد جولة بين حلب وإسطنبول والاسكندرية وبغداد، وفي إحدى الجلسات بينما كان والد القبانجي يقرأ المقام بحضور ابنه الذي وجه له الملا سؤالا حول معرفته بغناء المقام فرد القبانجي بنعم. ليأتي مباشرة طلب الملا له بالغناء. غنى الفتى بشكل مغاير لما هو معروف عن القراءة وسط محاولة البعض التقليل من قدرته على الغناء الجيد وفوجأ الجميع برأي الموصللي، حيث قال: “إن محمد القبانجي سيكون المطرب الأول وسيتفوق على الجميع لو استمر» وفعلاً هذا ما حصل.
القبانجي ملهم ناظم للاستماع إلى المقامات العراقية
تلقى القبانجي دعوة من شركة في برلين ألمانيا تدعى بيضافون عام 1928 لتسجيل جميع المقامات العراقية والأغاني التي تسمى “بستات” في أكثر من سبعين اسطوانة بصوته فقط دون الاعتماد على مطربين آخرين حيث كان عمره آنذاك سبعة وعشرين عاما. واعتمد في تسجيلاته على فريق موسيقي حديث بديل للجالغي البغدادي التقليدي الذي اقتصرت آلاته على (السنطور والجوزة والرق والطبلة والنقارة)، ابتكارا من محمد بهدف توسيع التصرف في الأداء، مما عرضه لانتقادات واسعة من الفرقة المحافظة، متهمين إياه بالمس بمكانة الجالغي البغدادي الأصيل عبر إدخال تجديدات كالآلات الحديثة على الجوقة المرافقة للمقام.
يعتبره بعض الباحثين مكتشفا لمقامات جديدة أبرزها مقام اللامي ومقام القطر ويحسب له برأي بعضهم إدخال نغمة من الابراهيمي الى مقام الحسيني، ونغمة من النهاوند في مقام البيات، ونغمة القطر في الحكيمي وغيرها الكثير. شارك في المؤتمر الأول للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 وفاز وقتها مع الفريق العراقي بالمركز الأول من بين عشر فرق عربية وحظي بإعجاب كبير من قبل الجمهور العربي.
من أبرز أغانيه: ربيتك زغيرون – غنية ياغنية – مني اشبده – هيا بنا – عن حالتي لا تسل – لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم – يا راهب الدير – أنا في البستان وحدي – حجبوها عن الرياح – ون يا قلب ون – عيني تنام – يا حلو يا بو السدارة – صاحي لو سكران – ويل ويلي – زين الله جابك – ما ريد السفر.
ومن أهم أغانيه التراثية العراقية أغنية «قدم لي برهانك» والتي تقول:
قدم لي برهانك وانفيلي بهتانك
يا من لك سنين تواعدني بإحسانك
قدامي تحشي زين وتحشي ورايا شين
يا أسود العينين شوية احفظ لسانك
غنى القبانجي لعدد كبير من الشعراء، أمثال: معروف الرصافي، وأحمد شوقي، وحيدر الحلي، وعمر بن الفارض، وأحمد رامي، والشريف الرضي وأبو فراس الحمداني وعبد الكريم العلاف وغيرهم. إذ قال له الرصافي: “يا كريم اللسان يا كريم اليد فما أشد إعجابي بك”.
من جهته، قال الأديب المصري د. زكي مبارك في كتاب “ليلى المريضة في العراق” والذي شاركه في تأليفه الدكتور الخلوفي محمد الصغير: “حضرت سهرة أقامها السيد عبد الأمير فوق سطح فندق (العالم العربي) على نهر دجله غنى فيها القبانجي مقامات عراقية حتى أهاج ما في دجلة من سمكات”.
نال القبانجي عام 1967 وسام الكومندور الفرنسي تقديرا لجهوده الفنية وابتكاره نغما جديدا وهو “مقام اللامي” والذي أقر سنة 1964 في المؤتمر الثاني للموسيقى العربية في بغداد.
الشبلي تبناه في المعهد العالي للفنون الجميلة وقدم له الدعم
وفي عام 1978 خصصت وزارة الثقافة والإعلام جائزة أطلقت عليها “جائزة القبانجي” لقراء المقام للشباب المتفوقين، وهو أول مطرب عراقي يطلق اسمه على جائزة. وفي عام 1980 نال وسام اليونسكو كأعظم فنان في آسيا.
اعتزل الفن سنة 1969 وتوفي في سنة 1989.
معهد الفنون الجميلة
أحب الغزالي الفن الذي يقدمه القبانجي وتعلق به كثيرا، متابعا رحلة حياته وسط معاناة كبيرة مع الفقر، فأنهى ناظم دراسته الابتدائية والمتوسطة، وبعد المرحلة الثانوية التحق مع المشاركين بالانتساب إلى معهد الفنون الجميلة، وعلى عكس المتوقع كانت بدايته في قسم التمثيل، ورأى بعض الباحثين الموسيقيين أن تردد الغزالي على المعهد كان بهدف دراسة المسرح فعليا واللافت أن الأستاذ المسرحي العراقي الكبير حقي الشبلي ساعده بالانتساب مقدما له كل الدعم والمساندة في كل ما يحتاجه فقد وجد فيه مُمثلًا واعدًا يمتلك القدرة على أن يكون نجمًا مسرحيًّا، إلا أن ظروف ناظم الصعبة من الناحية المادية التي مازال يعاني منها حالت دون تحقيق حلمه في إكمال المعهد واضطر إلى تركه بعد سنتين.
ناظم الموظف
عُيّن ناظم بعد مغادرة معهد الفنون الجميلة مجبرا كمراقب في مشروع الطحين الصمون في أمانة العاصمة أثناء الحرب العالمية الثانية ثم مشرفًا على الملاهي والكازينوهات والسينمات حيث تعرف في تلك الفترة على رفيق دربه بعد ذلك الملحن وعازف القانون “سالم الحسين” حين جمعهما إعجابهما بصوت المطربة المصريَّة آمال حسين.
يقول الموسيقي الحسين عن تلك الفترة: لقد كنت موظفا أيضا في أمانة العاصمة عَمَلُنا متعلق بالرسوم والطوابع الخاصة بالملاهي والسينما كما كنت مراقبا للملاهي الليلية والسينما، وفي إحدى الليالي كنا نستمع إلى المطربة العربية المصرية آمال حسين، وعندما انتشت بالنغم العالي صرخت تلقائيا بعفوية «الله الله»، فسمع ناظم الكلمة مع التصفيق الحار فسألني مباشرة: ماذا تعمل؟ قلت له: أنا فنان أعزف على آلة العود، وذلك قبل دخولي المعهد العالي للفنون، ليرد علي: أنا أيضا فنان ولدي صوت جميل، لكن لا أملك الجرأة كي أعلن عن نفسي أو أدخل الإذاعة.
مقلب طريف بأول مسرحية لناظم... ردّه بآخر
قدم ناظم الغزالي عام 1947 أول مسرحية له على مسرح قاعة الشعب في معهد الفنون الجميلة مع فخري الزبيدي وناجي الراوي وحامد الأطرقجي وخليل شوقي ومحمود قطان.
أثناء التمثيل دبر فخري مقلباً له كعقاب على رغبته في الغناء ومعارضة أصدقائه له، وقد أسند إلى ناظم دور المريض الذي سيجري له فخري العملية، وخلال التمثيل قام فخري بارتجال الحوار وألف مشهداً يمكّنه من تجربة إجراء عملية لناظم على المسرح. وبينما يتمدد ناظم على الأرض مرتدياً لباس العمليات أخضر اللون، بدأ فخري بشد شعر صدر المريض محاولاً إيقاظه، فبقي ناظم مدة عشر دقائق يتحمل ويكابر على ألمه، وهو يقول “فدوة فخري استر علي وشتريد أني حاضر”، إلا أن فخري استمر في شد شعره.
الغزالي ترك معهد الفنون مجبراً وعمل مراقباً بمؤسسة الطحين
في مقابل هذا المقلب المؤلم والمضحك دبر الغزالي مقلبا أكبر لصديقه عندما عقد قرانه، حيث جاء ناظم ليلتها متأخراً في سيارة أجرة، وأبقاها واقفة أمام البيت مبررا ذلك بأنه سيعود بها إلى عمله، ولكن المفاجأة كانت بعد انتهاء عقد القران .
حيث انسحب ناظم بسرعة إلى سيارة التاكسي، وأخرج صندوقاً كبيراً وتركه أمام المأذون والمعازيم وركض مغادرا المكان، وحينما فتحه العريس فخري وجد بداخله “حجلة للأطفال” وقال: كانت نكتة الموسم في الوسط الفني آنذاك لأنني عندما تزوجت كان عمري 29 سنة وزوجتي عمرها 13 سنة، والحجلة كانت ترمز إلى أن زوجتي طفلة تحتاج إلى (حجلة).