وضع الشاب المجتهد ناظم الغزالي قدميه على خطوات الشهرة وأصبح معروفا في أنحاء العراق بل وفي مناطق عدة خارجه بعد أن تعمق في أسلوب دراسته للمقامات ونهل علما موسيقيا من خيرة الموسيقيين بدءا من محمد القبانجي ومرورا بالأستاذ الكبير علي الدرويش إلى أن تعرف على الثلاثي (الملحنين جميل بشير وناظم النعيم والشاعر جبوري النجار) ومع انطلاق شهرته الكبيرة مترافقة في التجديد والحداثة خصوصا في أداء المقام بدأت أصوات أخرى تعارض فن الغزالي وتنتقد أسلوبه الجديد بل شككت في قدراته الغنائية.
الإذاعة
بعد انضمامه عام 1947 إلى فرقة الموشحات إثر اجتيازه اختبار الإذاعة بإشراف الشيخ علي الدرويش، أصبح محط اهتمام وأنظار الموسيقيين والنقاد على حد سواء حيث صنف الناقد الموسيقي عادل الهاشمي في كتابه «الأصوات العراقية» صوت الغزالي في خانة الأصوات الرجولية الحادة (التينور) وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية» حسب ما قال عنه.
أمَّا مجاله الصوتي فيراوح بين أوكتاف ونصف إلى أوكتافين، وتنحصر حلاوة الأماكن في صوته بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين، بهذا الشكل تكون مساحة صوته تزيد على 14 درجة في السلم الموسيقي. ومع انفتاح حنجرته، كانت قدرته غير عادية على إجادة الموال وتوصيل النوتات بوضوح، بجوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها، وساعده في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها، فضلا عن انفتاح حنجرته وصفائها.
انطلاقة جديدة للنجم العراقي كما نستطيع أن نسميه الآن، جاءته مع بداية خمسينيات القرن الماضي حيث وقف ناظم الغزالي الواثق والثابت مما تعلمه، خلف ميكروفون إذاعة بغداد يؤدي على الهواء مباشرة أول مقاماته: «يا صاح جف الدمع هب لي دمع جـاري» وأغنية «على جسر المسيب»، وفور انتهائه من وصلته الغنائية القصيرة للمرة الأولى انهالت عليه عبارات وكلمات الإطـراء والإعجاب والتشجيع من قبل جمهور العاملين في الإذاعة، فضلا عن رائد المقام العراقي صاحب مدرسة المقام الأولى المطرب محمد القبانجـي، ثم واصل الغزالي بعدها حفلاته الأسبوعية بشكل متصاعد لأعلى مستويات النجاح. ونتيجة ذلك ذاع صيت الشاب النجم وعُرف اسمه، وعلا نجمه في المشهد الغنائي العراقي الذي ظهرت فيه وقتها مواهب عديدة حقيقية، تماما كما عُرف المؤدي لفنون المقام العراقي كـ»قارئ» وبحساسية مختلفة «علي عبد الأمير عجام».المطرب الناجح
يخطر في بال الجيمع سؤال ذو أهمية بالغة: لماذا استطاع ناظم الغزالي الإبقاء على قدرته في أن يكون خلاقا للفرح والأمل رغم ظروفه الصعبة آنذاك؟ تلك القدرة جاءت عبر تدريب حياتي مستمر وطويل دون انقطاع وهذه خطوة أولى. صحيح أنه ولد يتمياً، لكن ذلك لم يمنع الغزالي من حفر أغوار عميقة في شخصيته ليصل إلى معرفة حقيقية فيها، في أن يكون على مستوى من الحضور الدافئ بين الناس رغم الحياة القاسية التي عاشها. حقق ذلك عبر اندماجه السريع في العمل الوظيفي بأمانة العاصمة وغيرها من الأعمال الأخرى بعد توقفه عن الدراسة. رافق ناظم دائما إحساس عميق لم يتولد من فراغ بأن القادم أفضل وأن مواسمه السعيدة على الطريق لا محالة. ولم يكن الغزالي وحده في تلك الحالة بل كانت حالة عامة لكل الشباب العراقي الشغوف والطموح من أبناء جيله. الجميع مؤمن بأن خروجهم من شقاء الحياة وارد وممكن، ما دام الكل يعمل بجهد متواصل مدعومين بالتحصيل العلمي، وتأتي هنا الخطوة الثانية وهي الثقة المطلقة بموهبته والنهج الثابت الذي اتبعه في صقل تلك الموهبة عبر العمل والدراسة. مما ولّد إحساسه العميق بالتفاؤل فبدا ذلك منطقيا وطبيعيا، مما يفسر تغلب روح المرح والتفاؤل على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية، فالجميع يتحدث عن ناظم الكريم والخلوق.
الغزالي ملحناً ومدوناًتمتع النجم الغزالي بحساسية عالية وإدراك عميق بقدرته على تغيير موهبته الصوتية لتتجاوز الغناء وحده وتصبح غناء ولونا موسيقيا ينطلق الى آفاق تعبيرية أكثر اتساعا، ليبتعد ناظم أكثر مع حلمه ويبدأ جديا بدراسة «الصولفيج» (قراءة وكتابة النوتة الموسيقية) فضلا عن حرصه على تعلم العزف على آلة العود والمثابرة الجادة على التدريب الصوتي. تلقى المطرب كل ما يحتاجه من المعرفة والثقافة الموسيقية التي مكنته من وضع الألحان لعدد من أغانيه. أما تعلمه قراءة النوتة الموسيقية، فقد مكن الغزالي من تدوين ما يستطيع تدوينه من الأغاني التراثية. كل هذه العوامل مجتمعة خلقت عنده مشروعا جديدا وتحديا كبيرا وهو «الباحث الموسيقي».
معروف عنه أنه عند تفرغه من تمارينه الخاصة كان يدون ملاحظاته الكثيرة المتعلقة بالنوتة والأغنية والمغني أيضا، والجدير ذكره عن هذه المرحلة وجود مدون كبير في مكتبة الفنان الراحل منير بشير، وضعه نجمنا الغزالي، يحمل عنوان «طبقات العازفين والموسيقيين 1900 ـ 1962». وخير ما بدأ فيه هو الحديث عن كوكبة كبيرة من رواد الموسيقى والغناء أمثال: خضر الياس ورضا علي وناظم نعيم ومحمد القبانجي وآخرين.
تدوين التراث الموسيقي
عام 1952 كبرت أحلامه واتجه إلى نشر سلسلة من المقالات في مجلة تدعى «النديم» تحت عنوان «أشهر المغنين العرب».
اللافت جدا هو اهتمام الغزالي بالفن والغناء العراقي متميزا عن كثير من المطربين، فقد دوّن في كرّاس كبير وُجد في مكتبته ما أدته جميع المطربات العراقيات من أغنيات خلال أربعين عاماً بين عامي 1910 -1950، ووضع فهرسا لأغاني أستاذه محمد القبانجي ونعلم جميعا مدى إعجابه الحقيقي به، احتوى الفهرس على نصوص لأربع وستين أغنية مع ذكر السنة التي سجلت فيها تلك الأغاني على الأسطوانات.
لم يتوقف الأمر عند ذلك فقام الغزالي بتدوين عناوين أشهر المخطوطات العربية في علم الموسيقى والغناء تلك الموجودة في محتويات مكتبة المتحف العراقي في دفتر آخر مع ذكر أرقامها وبعض الملاحظات حول كل مخطوط. أما ما يخص التراث العراقي فقد دوّن الغزالي معلومات عن الأغنيات التي أدّاها «الجالغي البغدادي» على مدى سبعين عاماً من 1870 -1940، مع معلومات تشير إلى عدد الذين أدوا كل أغنية وما كان منها مسجلاً على الاسطوانات.
أما المقامات العراقية المؤداة وطريقة غناء كل منها والتي كانت محور عمله فقد كتبها في سجل يعتبر الأكبر بين تدويناته كافة. كل ماذكرناه سابقا جعل من الغزالي حالة متفردة لدى العراقيين عامة والفن العراقي بشكل خاص فكان رحيله لاحقا يعتبر خسارة مؤثرة لصوت عذب متعلم في أفضل مراحل نضجه، وترك غيابه فراغا وفقدانا من جهة الدراسة والبحث، لذلك يترحم العديد من العراقيين من أبناء جيله والأجيال اللاحقة على أيامه خصوصا أنهم يعتبرون أن هذا العصر هو عصر تدمير الذاكرة العراقية التي برز ناظم بجهوده الكبيرة كالشمس في مشهدها الغنائي سابقا وترك أثرا قلما يستطيع أحد تركه.يحسب لناظم الغزالي أنه أول مطرب عراقي يغني برفقة فرقة موسيقية خاصة به، كيف لا وهو المطرب المشهور بوعيه الفني الموسيقي المرهف والرفيع في وقت واحد، أضف إلى ذلك أنه وجد إلى جانب قلة من المفكرين الموسيقيين في «الأوركسترا» الكبيرة قدرة على إظهار التفاصيل النغمية في الألحان، وهنا بادر إلى إدخال الآلات التقليدية إلى جانب الآلات الهوائية مثل: السكسفون، الكلارنيت، والآلات الوترية الغليظة مثل التشيلو والكونتر باص، والإيقاعية مثل «البانغوز» و» الكونغا». والنتيجة الحتمية لكل ما ذكرناه أن فرقته الموسيقية الملازمة له في حفلاته داخل العراق وخارجه شكلت تجمعا لأفضل الموسيقيين العراقيين والعازفين الكبار ونذكر منهم: جميل بشير، منير بشير، غانم حداد، سالم حسين، خضر الياس، روحي الخماش فضلا عن واضع ألحان عدد من أغنياته، الملحن ناظم نعيم.
وفي شكل الأداء، وضع الغزالي لمسات ظلت دالة عليه لجهة حركاته وإيماءاته اثناء الغناء، وجاءت تلك الحركات منسجمة مع النسيج الوجداني والنغمي للأغنيات، ولم تكن استعراضات خارجية، وبدت تلك الإيماءات تعبيرا صادقا عن التفاعل الإنساني والوجداني الذي يبديه الغزالي مع جمالية النغم وتأثير المفردة الغنائية.
بدأت رحلات الغزالي إلى الوطن العربي في الخمسينيات وبجهد شخصي بحت، ليبدأ معها صوته بالانتشار في كل مكان.
يؤكد الصحفي العراقي علي عبد الأمير عجام أن عناصر «الحداثة» في تجربة الغزالي مطربا وصاحب مدرسة غنائية، لم تكن استعارة خارجية، بل إن تيار التحديث الذي كان يعيد بناء المجتمع العراقي (وبشكل خاص قبل يوليو 1958) في مجالات المعرفة العلمية والثقافية والفكرية، هو الذي شكل الإطار الطبيعي والمتناغم مع ألحان أغانيه وموضوعاتها القائمة على تجاوز التكرار والتتابع السائدين في اللحنية العراقية، فضلا عن مقاربته وجدانيات لم تكن الأغنية العراقية قاربتها، لنأخذ مثالا على ذلك أغنية «تصبح على خير»، سنجد عالما جديدا يكثر فيه التفاؤل والأمل، عالما يحض على الجمال المطبوع بحياة نظيفة تتسع لطيف عاطفي واسع، وليس»عاطفة المرأة والرجل» بالضرورة.
ومن الملامح التي لا يمكن إغفالها في «الظاهرة» الغنائية التي شكلها ناظم الغزالي، هي تلك الانتقالات من أعمال غنائية «عادية» الى مرحلة الصياغات الرقيقة في نصوص اعتمدت انتقاء المفردة الجميلة الذكية الراقية التي تدعو إلى الحب والجمال واللقاء بعيدا عن «البكائية» والنواح التقليديين في الأغنية العراقية. وعبر مثل تلك النصوص الغنائية من المفردات «الدارجة» العراقية والأقرب الى العربية الفصيحة، تمكن الغزالي من عبور «المحلية» ووصل إلى قطاع عريض من الجمهور العربي.
«رجوبة الزبانية » ساذج وثقيل اللسان
يتحدث الكاتب اللبناني مجدي فهمي في إحدى مقالاته المعروفة عن سيرة حياة ناظم الغزالي عامة وعن جزئية متعلقة بالتمثيل في زاوية خاصة ويقول نقلا عن صديقه عازف القانون سالم الحسين بعد لقاء بينهما: لقد تخرج ناظم من المعهد في عام 1948 ليصبح بشكل رسمي ممثلا، مبيناً أن الخريج الجديد خلال بحثه عن طموحه انضم إلى فرقة كوميدية، تختار نوعا خاصا من الروايات لتقدمه للجمهور وهو الساخر والناقد وعرفت الفرقة باسم «الزبانية»، حيث كان من بين أعضائها الحاج ناجي الراوي وفخري الزبيدي، وحميد المحل، ومحمد القيسي وجميل الخاصكي وحامد الأطرقجي.ويضيف الحسين أن الدور الذي اشتهر به ناظم وقام بأدائه فكان لشخصية أطلق عليها اسم «رجوبة» وهو إنسان تميز بصفة عامة بأنه ساذج، إذ يُخرج لسانه ما في أعماقه، وإن كان يخرج بصعوبة، لأن «رجوبة» وفقا لحدود الشخصية كان مصابا بثقل في اللسان، فكانت العبارات تخرج متقطعة متباعدة. على النحو الذي يعرف بالتأتأة.
ونستطيع القول أن ناظم بدأ بهذا الشكل، واحدا من الزبانية، تلك الفرقة التي أحدثت أيامها، ضجة كبيرة، ولقيت نجاحا باهرا، ومن بين الروايات التي قدمتها «فتاح الفال» و»الشوك» و»تعال نتفاهم» و»شقاوات بغدادية» و»شلتاغ».
روحي الخماش علّمه الصولفيج وحفّظه الشعر
كانت الأغاني تبث على الهواء مباشرة في أولى انطلاق الإذاعة في العراق، ولم تكن بعد الآلات الخاصة بالتسجيل قد زودت بها المحطة العراقية، وبالتالي فإن اعتماد المطرب يكون على فرقته الموسيقية التي تعزف على الهواء مباشرة، أما فرقة ناظم الغزالي فقد كانت مكونة من مجموعة من أشهر العازفين.روحي الخماش كان يعزف على العود وسالم حسين يدغدغ بأصابعه أوتار القانون وخضر الياس يتولى العزف على الناي، أما حسين عبد الله فكان ضابطا للإيقاع.
كلهم كانوا مقربين من ناظم وبالنسبة لروحي الخماش الذي كان معجبا بالغزالي قرر عدم الاكتفاء بالعزف ليصبح في أوقات الفراغ معلما له، ويقول الخماش الموسيقي العراقي الكبير في ذلك: كنت أدرسه العزف على العود والصولفيج، وكان استعداده كبيرا لكليهما فما كان يحفظه الطالب العادي في شهر كان ناظم يتمه في أسبوع، من هنا برز ناظم وتفوق فقد ظل ينهل من نبع الدراسة الفنية حتى بعد أن ذاع واشتهر وأصبح مطرب الصالات الأول.
من جهة أخرى يصعب على كثير من الفنانين غناء الشعر القديم فألفاظه صعبة جدا وتحتاج لمران طويل والسؤال هنا، كيف استطاع الغزالي تبسيط الأمر، يغني وكأنه من نظم الشعر؟
يجيب على هذا التساؤل صديقه المقرب عازف القانون الأستاذ سالم الحسين بأن روحي الخماش بادر بتعليم ناظم الشعر أيضا وحفّظه القصائد «فيما كانت مهمتي والزميل حافظ جميل انتقاء القصائد المناسبة له وبالمناسبة كان ناظم يركز أثناء حفظه على حركات الإعراب موقنا ومقتنعا بأن المستمع العراقي مستمع صعب جدا، غير متساهل أبدا في أي خطأ من هذا النوع».
ويضيف الحسين: لقد سعت شركة للأسطوانات بشكل حثيث للحصول على حق طبع أغنياته واحتكار توزيعها، وما فعلته شركة بيضا فون وكايرو فون مع موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب، حققته شركة تسجيلات «الجقمقجي» التي حصلت منفردة على حق توزيع أغنيات ناظم الغزالي على اسطوانات، ففي تلك الفترة من الزمن لم تكن أشرطة الكاسيت قد عرفت بعد. ويضم تراث ناظم الغزالي كثيرا من الأغاني الشهيرة التي تم تسجيلها، من بينها «طالعة من بيت أبوها» و»أحبك» و»ماريده الغلوبي» و»فوق النخل» و»يا أم العيون السود» و»مروا على الحلوين» و»بالحاجب ادعي بخير» و»عيرتني بالشيب» و»وقل للمليحة في الخمار الأسود» و»سمراء من قوم عيسى» و»أي شيء في العيد» و»أقول وقد ناحت بقربي حمامة» وغيرها الكثير. وهي أكثر الأغاني شهرة لأن جزء مما غناه ضاع لضياع التسجيلات.