وليد الرجيب... في «زمن عجيل»
في روايته القصيرة «زمن عجيل»، (140) صفحة، بيروت 2021، يوثق الأديب «وليد الرجيب» بمهارة ورشاقة، وبتفاصيل دقيقة مبهرة أحياناً، انفتاح المجتمع الكويتي، وبدايات دخول الحداثة في خمسينيات القرن العشرين واقتحامها أحياناً النسيج الاجتماعي من خلال متابعة مصير «عجيل» بطل الرواية، الذي «كان يعيش في منزل متواضع بالفنطاس مع والدته، لا يملكان لضيق اليد سواه، وكان المنزل أشبه ما يكون بكوخ أو «عِـــشة»، كما تسمى آنذاك، بعد وفاة والده في الغوص، بينما العائلات الأخرى تسكن في بيوت كانت تسمى «قصوراً»، لأنها بالنسبة إلى أبناء البادية، الذين يعيشون في خيام وبيوت شَعْر، قصور وأحياء مستقرة، ولم يعد لديهم معيل ولا مزرعة». (ص24)
يرصد «الرجيب» بدايات «كهربة الريف الكويتي»- إن صح التعبير- وبقية مناطق الحضر، دخول الكهرباء والبنطلون والدراجات والمصطلحات السياسية مع المهاجرين القادمين للعمل في الكويت، والتحول من الاقتصاد البري والبحري إلى العمل الحكومي، ومن العمل المرهق إلى المريح، والذي تحول في زماننا أحيانا كثيرة إلى «اللاعمل»!
وكما في لوحة من الفن الحديث، يضرب «الرجيب» بريشته كل حين في اتجاه، راسماً المعالم الرئيسة للمستجدات والتطورات، تاركاً للقارئ، وبخاصة من عاصرها أو عايشها عن قرب، تكملة التفاصيل، وينجح في تلخيص أحداث ومجريات التحول البنيوي للمجتمع الكويتي داخل المدينة وخارجها، من مجتمع ريفي رعوي، وبحري، أو سمه ما تشاء، إلى مجتمع ستينيات وسبعينيات الكويت، بعد أن اختفت حياة البحر من تجارة وجمع والتقاط، وترك الغاصة وربابنة السفن السفر المنتظم إلى الهند وإفريقيا، وتراجع الفقر المدقع والمرض، وظهرت المباني الحديثة، وبدأت رحلة المجتمع الكويتي في تحولاته المعاصرة.
يتحدث الرجيب عن «عجيل» كعامل كويتي نشط، «يتنقل على دراجته الهوائية السوداء، يحمل على كتفه سلماً خشبياً، فيما يتدلى من الدراجة كيس أو «خرج» يحوي الأدوات والمعدات».
ويرسم الكاتب تفاعل المجتمع مع بدايات دخول الكهرباء وبروز المهنة في الفنطاس، ويقول: «كان الناس يسمونه «عجيل كرهبا»، محرفين اسم الكهرباء لجِدَّتها على المجتمع وعلى أسماعهم»، وكان عجيل مشهوراً في الفنطاس، إذ كان كهربائياً ونجاراً وميكانيكياً في بعض الأحيان، بعد أن تعلم مهنة الكهرباء على يد الباكستاني «نور حفيظ الله».
ويضيف الرجيب متحدثاً عن ذكريات «كنا حفاة، ثيابنا يابسة بسبب ملح البحر والعرق، كنا نركض خلف دراجته، بينما كان يقود دراجته بيد واحدة، وطرفا غترته المرفوعة فوق رأسه يرفرفان في الهواء... كان يبعد مارة وهميين بجرس دراجته، ويصيح مكرراً: درب.. درب...درب». (ص18)
حذرنا أهالينا من الاقتراب من الكهرباء، ومما زاد حكايات الكهرباء غموضاً، أنهم قالوا إن عجيل لا تمسه الكهرباء لأن المعلم الباكستاني علمه سحراً خاصاً يحيمه من الكهرباء، كان سلك الكهرباء مهاباً يخشاه الناس.
ويروي الكاتب من حكايات دخول الكهرباء قائلا: «كان ماء المطر يتسرب إلى فتحات بالسلك الكهربائي، فتنفجر لمبات الإنارة وتنطفئ الكهرباء، بعدها نسمع من أهلنا تمتمات أشبه بالهمس في الليالي الدكناء: لا إله إلا لله، ولم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من السلك، حتى يأتي عجيل.
وفي الليلة الماطرة في بيت حماد، انفجرت لمبة تلو الأخرى، وانفلت السلك عن حائط الحوش وسقط في الفناء المبلل، وأخذ يقفز ويطلق شراراً، فخاف أهل المنزل وتركوه يفرقع، وشراره ينير حيطان البيت، وأقفلوا أبواب الغرف عليهم حتى الصباح». (ص19)
كانت الكويت يومذاك وبخاصة خارج السور، خليطاً من الحاضرة والبادية وتركيبات اجتماعية قيد التشكل والنمو، و«كان البدو الرحل يأتون بإبلهم وماشيتهم الى الفنطاس، ليرووها من «بئر سليسل» التي لم يكن ماؤها حلواً، وكانت تستخدم لري الزرع وشرب الإبل والماشية، وكانت مستنقعات ما بعد المطر مناطق جذب الطيور التي تهبط كى تشرب». (ص44)
صار الكهربائي الكويتي «عجيل» شريكاً للباكستاني «نور حفيظ الله»، وبات يركب اللمبات لبعض البيوت الميسورة، خصوصاً أن أهالي الفنطاس لا يفضلون دخول الغرباء إلى منازلهم، ويفضلون «عجيل» لأنهم يعرفونه منذ صغره، ويعرفون والده ووالدته، واشترى بيتاً صغيراً في أحد أحياء الفنطاس، وأصبح يرتاد الديوانية ويتحدث مع الرجال، ولم يكن عجيل يجيد الحديث إلا عن الكهرباء.
وينقل الرجيب مسرح الأحداث إلى الجهراء ليتناول ما جرى في حربها، «ويقال إن هذه البنادق التي اشتراها الشيخ مبارك من «عُمان» هي البنادق نفسها التي استخدمت في الحرب الأهلية الأميركية»، ويضيف شارحاً تسمية غزاة الجهراء: «كان الغزاة يسمون أنفسهم «إخوان من أطاع الله»، وتعود الرواية إلى الفنطاس للاستماع إلى «صوت السامري» الذي كان يسمع إيقاعه من بعيد وترقص له القلوب.
ويصيب الجرب أحد شخصيات الرواية، ولعل مقصد الراوي مرض الجذام، فهو يقول: «كان زوج قماشة مصاباً بالجرب، الذي أكل جسمه ووجهه، وبدأ يفقد بصره، حيث زحف الجرب إلى عينيه». (ص62) ويرسم الراوي ملامح صراع سياسي بين صغار المهنيين مثل «عجيل» ومؤسسي شركات الكهرباء، كما بدأ عجيل يُعرف بتجارته بعد أن استأجر دكانين لبيع وتأجير مستلزمات الكهرباء، وبدأ الاعتماد على «العمالة الأجنبية». و«عندما جلب عجيل مراوح لأول مرة إلى الفنطاس، انشغل الناس بالحديث عنها باعتبارها أعجوبة!
يرافق الراوي بطل القصة «عجيل» في صعوده الاجتماعي والتجاري، ويسافر معه إلى الهند، حيث توفيت زوجته الهندية الرقيقة في رحلة العودة البحرية، وهكذا «جلس عجيل قبالة جثتها بالساعات والأيام، ورفض إلقاءها في البحر، كأنه يأمل أن تستيقظ من موتها، مثلما كانت تستيقظ من نومها كل يوم، وأصر أن تدفن في قبر معلوم حتى يستطيع وأهلها زيارة قبلها، فكيف يقنع أهلها بأنها ماتت؟
ويقوم عجيل مضطراً بدفنها في «بوشهر» بإيران، تتزاحم الأحداث في سياق الرواية بعد ذلك، وكذلك في إطارها السياسي، ويشعر القارئ بضيق حجم الراوية عن إيفاء تطوراتها مستلزمات التوظيف الأدبي، وفي النهاية يتوفى «عجيل» ويقول الكاتب: «عرفنا أن عجيل كرهبا مات بصعقة كهربائية» فكان بذلك من أبرز ضحايا «كهربة» دولة الكويت، بعد أن بطل سحر الباكستاني «نور حفيظ الله» المزعوم!