لطالما ارتبط وجود لبنان وتاريخ بقائه بأسطورة طائر الفينيق الذي يقوم من رماده مستعيداً حياةً ظن الجميع أنه فقدها على أثر احتراقه، ولطالما ساهمت هذه الأسطورة في رسم بعض ملامح الشخصية اللبنانية التي تعتز بأنها رغم كبواتها العديدة ونكباتها المتتالية تنجح في كل مرة أن تلملم جراحها وأن تنهض الى حلم جديد وربما الى كبوة جديدة!
ورغم موقفي المتحفظ من هذه الأسطورة التي أراها مسؤولة في اللاوعي الجماعي عن تعوّد الشعب اللبناني على معالجة الألم بتخدير موضعي لا بالعلاج الجذري، حلّق طائر الفينيق في وجداني عندما شاهدت تقريراً تلفزيونياً باللغة الفرنسية بعنوان «معركة الأرز» التي التقت في ميدانها إرادة اللبناني مع إدارة الأقدار لتسفر عن انتصار لصالح أرزة لبنان: قلب العلم ورمز الخلود.
الجانب الأبرز من هذا التقرير يسلّط الضوء على مبادرة كاتبة وصحافية فرنسية من أصل لبناني نشرت قصة للأطفال بعنوان «طفل الأرز» يعود ريعها لتمويل جهود طبيب لبناني كرّس جهده وماله ووقته لمشروع غرس ما تيسر من شجيرات الأرز في المحيط الطبيعي لغابة «بشرّي» الشهيرة حفاظاً على ديمومتها للأجيال القادمة.
وقد اختارت الكاتبة «لطفل الأرز» ذي العينين الزرقاوين اسم «نبيل» الذي تكتب حروفه باللغة الفرنسية بطريقة معاكسة لاسم لبنان «Liban» ويحدث للأسف أن يخيب ظن الكاتبة والطبيب وتفشل محاولاتهما بجمع المبلغ الكافي لتمويل مشروع ضخم هو في الأساس من مسؤولية الدولة اللبنانية وجهاتها المختصة.
وقبل أن يتملكهما اليأس، وقبل أن يسمح لهما الوقت بالبحث عن حلول بديلة وأفكار أخرى، تحلّق أسطورة طائر الفينيق من جديد فوق غابة الأرز، وترسل الأقدار رجلاً بعينين زرقاوين- يصدف أن اسمه «نبيل»!- ينجح في إقناع مكسيكي من أصل لبناني بتمويل المشروع وتجهيزه بأحدث التقنيات اللازمة لغرس ورعاية آلاف شجيرات الأرز، تحية منه لوطنه الأم... وهكذا كان!
ولعل في هذه القصة الحقيقية عبرتين لافتتين:
أولاهما، أن لبنان المقيم لن يتخلى لحظة ولم يستغن برهة عن لبنان المهاجر طوعاً ولا عن المهجّر قسراً. وثانيتهما، أن الوطن المنهك من فساد سياسييه والمدمر من حروب الطائفيين فيه، قدره أن يقوم من كبوته في كل مرة.
ويبقى الشعب اللبناني هو المحور والسبب والغاية في كل كبوة أو صحوة، فقد آن لهذا الشعب الذي تأقلم مع قدر الصراع من أجل الحصول على أبسط حقوقه الطبيعية أن يعبر حاجز الخوف ويحطّم قيود الماضي، ويتنكر لسلطة الإقطاعيين وهيمنة الطائفيين، فيصوب بوصلة غضبه على من سلبوه حقوقه وتصدقوا عليه من جيبه.
الواقع أن الشعب اللبناني، ومنذ عام 2005، تاريخ انسحاب الجيش السوري من كامل الأراضي اللبنانية، يواجه معركة إثبات الأهلية لحكم نفسه بنفسه، إلا أنه وللأسف ثبت أن قسماً من هذا الشعب شارك السياسيين والزعماء الذين يتبعهم في إفشال انتفاضة «17 تشرين»، وأثبت أنه ما زال يتوق، بقصد أو بغير قصد، إلى كل أنواع الوصاية الداخلية والخارجية، العلنية والمقنعة، الشرقية والغربية، الدينية والعلمانية، وكأننا أمام ضحية تعشق جلادها وأمام قاصر يتهيب مسؤوليات بلوغ سن الرشد!
قد يرى البعض فيما سبق شيئاً من جلد الذات أو كثيراً من التجني على شعب يراه الكثيرون حضارياً، مكافحاً، صابراً ومنتصراً على الويلات كما طائر الفينيق، ولكن التاريخ والحاضر والمستقبل يؤكد المقولة أنه «كما تكونوا يولّى عليكم».
الحرب الأهلية التي لم يدمّر فيها منزل أي قائد ميداني، ولم تهدد مصالح أي زعيم ميلشياوي، كان وقودها وضحيتها الشعب نفسه، ذلك الذي صدّق- ويبدو أنه ما زال يصدّق- أن قائد الميليشيا ينشد السلطة نصرة للدين، وأنه يقاتل من أجل مصالح المظلومين والمحرومين، وأنه يناكف بالسياسة كرمى لحقوق أبناء طائفته، وقد نسى الكثيرون أن الساكت عن الحق هو المستسلم طوعاً لشياطينه.
فبعد انفجار مرفأ بيروت وعلى أثر الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، تداعت الدول وأبدى جميع الأصدقاء استعدادهم لدعم الشعب اللبناني المظلوم شرط أن يكون هو مع نفسه، وأن يجبر حكامه والمتحكمين بمصيره على البدء في درب الاصلاح والتخلي عن كل موبقات الماضي، لكن هذا الشعب فشل في الانتخابات الأخيرة بتوجيه رسالة حاسمة تعبّر عن إرادته الشاملة بالتغيير مما فوّت عليه الفرصة بأن يسخر الله الأصدقاء والمحبين لإنقاذه كما أرسل «رجل الأرز» النبيل الى غابة بشرّي لتبقى خضراء وتستمر بالنمو والاتساع.
«لبنان الكبير» الذي احتفى السنة الفائتة بمئويته الأولى، مهدّد بوجوده وبتبدّل صورته الحضارية التي نعرفها! والمسؤولية تحتم على كل لبناني أن يقف أمام مرآة ضميره ليسأل نفسه عن مدى قربه أو بعده عن الوطنية الحقيقية؟ وليضع إجابته في الميزان ليرجح كفّة الوطن أو كفة اللا وطن!
لا يتزّعم طائفي إلا الطائفيين، ولا يصل نائب من غير ناخب، ولا يستقر عرش من غير أرجل ترفعه، ولا يفلت مجرم من العقاب من غير متعاون يأويه، ولا يبقى وطن من غير دولة، ولا تستقيم دولة من دون حكام مستقيمين ومواطنين صالحين.
اللهم قد بلّغت، اللهم فاشهد.
* كاتب ومستشار قانوني.