ناظم الغزالي... صوت العراق وسفير أغنيته «4-6»
• التشكيك بقدرة الغزالي على قراءة وغناء المقامات الكبيرة
اعتُبر لقاء ناظم الغزالي بالقبانجي محطة أولى وأساسية في حياته الفنية، وكان بمنزلة الأب الروحي له، وهو المعلم الأول للمدرسة العراقية الصميمة مكتشف عدة مقامات عراقية. عرف عنه حبّه الشديد للتجديد، كما الغزالي أيضا، لكنّ ناظم - وفق الأستاذ حميد السامرائي، وهو متابع لشؤون المقام العراقي - لم يكن يودّ سماع الشيء الثقيل في بداياته الفنية، ومع مرور الوقت وحصول تماسّ مباشر بمحطات أخرى في حياته مع موسيقيين كبار كجميل بشير تطورت نظرته لغناء كل أنواع المقام، فما هي القصة حول سعي عدد من النقاد وراء توجيه انتقادات حادة والتشكيك بقدرات المطرب النجم؟
تاريخ المقام العراقي
يتميز العراق بتعدّد ألوانه الغنائية، فالاختلاف والتنوع واضحان من خلال أنواع الفن الموجودة في كل مناطقه الجغرافية في الشمال أو الوسط أو الجنوب، وجميعها في الواقع لها منبع أصيل واحد، هو المقام العراقي، الذي يعد بمنزلة فن كلاسيكي تعود جذوره إلى الفترة العباسية.
أما الازدهار الحقيقي له عراقياً، فكان في أربعينيات القرن الماضي، المقام العراقي هو أحد الألوان الغنائية العراقية التراثية، له قالب غنائي يتألف من أجزاء بها تسلسل وتسميات ثابتة ومعروفة، وفيها مواصفات المرونة عند الأداء، حيث يمكن أن تقبل شيئًا من الإضافات اللحنية أو الزخرفة، ولا تقبل أيّ حذفٍ كان.
المقام العراقي فنّ كلاسيكي تعود جذوره إلى الفترة العباسية
تشمل مجموعة المقامات العراقية بشكلٍ عامٍ قوالب وأشكال يمكن أن تكون متعددة ومُختلَف بعضها عن البعض الآخر، كذلك تشمل بين ثناياها أجزاء عديدة، وكل منها يأخذ تسميته وموقعه حسب ما ورد في هذا الفن الغنائي، على أن هناك عددا من المقامات تحتوي على عدد أقل من الأجزاء وأقل من التسميّات.
اختصر ناظم الغزالي بنفسه، في حوار مع الإذاعة اللندنية عام 1962، سؤالا حول غناء المقام العراقي، هل هو صميم؟ أم متأثر بما حوله من دول كالفرس سابقا أو الخليج العربي أو اللون الكردي؟ قائلا: يوجد في قسم المقامات العراقية قسم مقامات خاص بالشمال يعنى باللغة الكردية، وبشكل عام الغناء العراقي يعتبر أصيلا، وبالتأكيد، فإن الجيران لهم تأثير على التفاعل، خصوصا من إيران وتركيا، ولو عدنا بالتاريخ إلى الوراء فسنجد أن الفرس احتلوا العراق لفترة من الزمن جاء بعدها الاحتلال العثماني، وهذا يؤكد عملية الاختلاط، وفي المقام العراقي لونان أو ثلاثة أصلها فارسي، كالدشت وأوشار الذي يسمى بالفارسية «أفشار»، والحجاز الهمايون، وهناك الرست والسيغال والتشارغا، وهنا التسمية فقط فارسية لا أكثر.
أما بالنسبة إلى المقامات التركية، فقد أُدخلت قبل 30 عاما (من وقت اللقاء سنة 1962) أدخلها الأستاذ محمد القبانجي مطرب العراق الأول، عندما شعر بأن هناك بعض الأنغام القادمة من تركيا كالنهاوند والحجاز كار، والحجاز كار كرد وما شاكلها. أدخلها القبانجي على المقامات العراقية ووسعها، فأصبحت مقاما كاملا.
التشكيك بموهبته
نضيف إلى جانب القبانجي وبشير الأستاذ «روحي الخمّاش» أيضًا، الذي وسّع علوم ناظم حول فنون المقام العراقي ما استطاع. وبحكم طبيعة الغزالي العاشق للاطلاع على كل شيء يخصّ فنّه، قرر أن يدرس كل المقامات الموسيقية السهلة منها والصعبة.
ومن هذه النقطة تحديدا، بدأت تنهال عليه سلسلة من الانتقادات رأى فيها البعض مجرد إشاعات من أعداء للنجاح موجودين في كل زمان، لتتمّ محاربته فعليا عبر إطلاق الاتهامات. وفي ذلك تحدّث الناقد العراقي الأستاذ كمال لطيف سالم قائلا: كان يوسف عمر يقول دائما إن ناظم ليس لديه قرار، لديه فقط جواب، والعالي عنده معلّق، كما أنه لا يستطيع قراءة المقامات الكبيرة. والمتعصبون للون والفن العراقي قالوا إن الغزالي غنّى «طالعة من بيت أبوها» للشباب متهمين إياه بوجود الميوعة في الأغنية، وعدم احتوائها على المقامات الكبيرة.
وأكثر ما أشاعه البعض في هذا الموضوع أن ناظم الغزالي مُطرب بستات لا مطرب مقام. تعرّفنا من خلال الحلقات السابقة على المقام، ولكن ما هي البستة؟
الغزالي يؤكد تأثير الفرس والأتراك على المقام العراقي
البستة العراقية
البستات هي أحد أهم المصادر النغمية، ويعود الأصل في التسمية إلى أنها تعني نغمة مذيّلة تأتي بعد الفراغ من المقام، أو قبل الفراغ منه. ثم صارت تورد في مقدمات المقام. وغلب على البستات أن تغنّى بعد الانتهاء من غناء المقام، إذ صار يغنيه الجوق الموسيقي المصاحب للمغني، ويتولى إدارتها ما يسمّى «بُستجي» يتم تعيينه مسبقا، ويكون ضمن جوق «الجالغي» في هذه الحالة، وإن لم يعزف شيئا. وتكون البستات من جنس النغمة الأساسية في المقام، وأحيانا يشارك مغنّي المقام نفسه في إنشاد البستة.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن قارئ المقام كان يجلس إلى جوار جماعة الجالغي، ولم يعرف في غناء المقام وقوف المغني على قدميه، إنما حدث ذلك بعد الأربعينيات، تقليداً لما كان يجري في بعض البلاد العربية، بفعل ما حدث من ضخامة الفرقة العازفة، واستعمال الميكروفونات، لذا جعل للمغني حق الانفراد والبروز، لاسيما حين يكون الغناء على مسارح كبيرة وأمام مستمعين كثيرين.
ذلك وفقا لما قدّمه الشيخ جلال الحنفي (كاتب وصحافي ومؤرخ ولغوي) في بحث كامل عن البستات في صحيفة الشرق العراقية، مضيفا: لقد اعتبرت البستات وسيلة لإراحة المغني عند الانتهاء من غنائه وأعني قراءة المقام.
ومن البستات القديمة الشجية: «بالله يمجرى الماي ذبني عليهم»، ومنها «حّمل الريل وشال للناصرية، واشبلش المحبوب بها القضية».
ولا بدّ من الإشارة الى أن تلحين هذه الأغاني وأداءها تكثر فيه التزيينات والتحركات النغمية والتمويج الصوتي الذي يأخذ بالألباب. ومن هذه الأغاني «يالولد يا ابني، حس خالك يناديك» و»كلي يحلو منين الله جابك، خزن جرح كلبي من عذابك»، و»فوك النخل فوك، مدري لمع خده مدري لمع طوك»، و»جواد جواد مسيبي»، و»فراك الحلو بجاني جالما طلية بالضلع»، و»يا زارع البزرنكوش ارزع لنا حنة»، و»حمولنا غر بن للشام وماجنا»، و»يا صياد السمج صيد لي بنية».
وهناك بستات بغدادية قديمة موغلة في القِدم قد تنتمي الى ما قبل مئات السنين، منها «عفاك عفاك على فند العملتينو، أنا اتعبتو وأنا شقيتو على الخاضع أخذ تينو»، فإنها تمثّل كلام البغداديين القديم، إذ كانوا يقلبون الراء الى غين، وقد انتقلت صور من لهجتهم الى مدن عراقية أخرى منها مدينة الموصل.
وجاءت الانتقادات التي طالت الغزالي من منطلق أن البستات تترك للمجموعة تؤديها ترفعا من قبل المطربين، والحقيقة في ضفة المدافعين عن الغزالي أن اعتبروا هذا الانتقاد جهلا من قبل مُطلقي تلك الإشاعات، وأن هذا النقد الذي تعرّض له بالذات كان في الأساس هو نقطة اختلافه وتجديده وشهرته، ورأى هؤلاء أن الغزالي استوعب سرّ ذوق الجمهور، في تذوّق الأغنية البسيطة التي تصل إليهم بسهولة باستخدام مقامات متنوعة، وليس المقام في حد ذاته. لأنّ الغزالي فهم واستوعب وتعلّم المقام والبستة جيدًا، وأعطاهما بُعدًا جديدًا ساهم في استمرار اسمه حتي اليوم، وفوق كل ذلك، كان الغزالي مُسجَلًا كمطرب للمقام العراقي في الإذاعة العراقية.
البستة العراقية لإراحة المغنّي تترك للمجموعة ترفّعاً من المطربين
ويقول رئيس اللجنة الوطنية العراقية للموسيقا الأستاذ حبيب عباس: انتقد بعض القراء والنقاد الغزالي من جهة أن صوته يميل إلى البستة أكثر من ميله إلى المقام، وفي الوقت نفسه لا يمتلك قدرة على قراءة وأداء المقامات الكبيرة، وأنا أؤكد أن هذا الرأي خاطئ تماما.
من جهته، قال سفير المقام العراقي الأستاذ حسين الأعظمي: ومن باب الإنصاف للفنان ناظم الغزالي بأنه كان رائعا وغنّى مقامات كثيرة باحترافية عالية، ويتذكر الأعظمي منتصف السبعينيات عندما ذهب إلى مهرجان «تستور» في تونس، وفي إحدى الجلسات الخاصة بعيدا عن المسرح باجتماع مع بعض المسؤولين هناك، طُلب منه الغناء وقتها بمقامات ناظم الغزالي، وهو فعليا كل ما طلب منه فقط، مؤكدا شعوره بالاستغراب مما فعله ناظم الغزالي، فقد نقل المقام العراقي إلى المغرب العربي. وفي ذلك أيضا، قال الباحث الموسيقي صلاح عمو: انتقد ناظم الغزالي لأنّه مجدد، فالعديد من الباحثين العراقيين الحاليين أكدوا أن ما فعله كان إضافة جميلة منه وبصمة خاصة بالمقام العراقي. ويتابع عمو: ناظم عرف السر، بألا يعتمد على المقام وحده، بل أخذ الشيء المشترك في الوطن العربي وهو الأغنية وهذا ما اتهموه به. في حين اعتبر الناقد العراقي الأستاذ كمال لطيف سالم الأغنية التي أداها ناظم هي أغنية خفيفة ونظيفة تلقّاها المستمع مباشرة، واعتبرها عملية تحوّل في الأغنية العراقية من الرتابة إلى أفق جديد، كما وجدها معظم الناس بلغتها الفصحى مقبولة بالنسبة لهم وليس العراقيين وحدهم.
القصائد المغناة
تميّز الغزالي بمستوى أداء عال تفوّق فيه على غيره من المطربين ممن غنّوا القصيدة، خصوصا تلك التي كتبها شعراء بارزون معروفون، ويأتي ذلك من خلال سيطرته على المخارج الصوتية للحروف وإدغامات بعضها والعمق والمرونة اللحنيّة، فهو لا يرتّلها وفق قوانين المقام البغدادي فقط، بل يغنيها بالأحرى في إطار المقامات المعروفة.
قل للمليحة
تأتي في مقدمة القصائد التي غنّاها ناظم، والتي اشتهر بها فعليا قصيدة «قل للمليحة»، التي تعتبر كأول إعلان عربي على شكل أبيات موزونة، وذُكرت قصتها في كتاب الأصفهاني.
تتحدث عن تاجر جاء إلى بغداد يبيع الخُمُرِ (لباس خاص بالنساء)، فباع التاجر كل الخمر الملونة باستثناء السود منها، فما كان منه إلا الذهاب ولقاء الشاعر المعروف بـ «مسكين الدارمي» (ربيعة بن عامر التميمي)، مشتكيا من الأمر، وعرف عن الشاعر وقتها بنسكه وتعبّده، فنظم قصيدة، ثم قام أحدهم بغنائها في المدينة، وتقول:
قُلْ للمَليحَــــةِ في الخِمــــارِ الأســـــودِ
مـــاذا فَعَلـــتِ بِزاهِـــــــدٍ مُتَعبِّــــــــدِ؟
قَد كان شَمَّـــــــرَ للصـــــــــلاةِ إزارَهُ
حَتـــــى قَعَــــدتِ لَه بِبابِ المَسجـــــدِ
والنتيجة أن شاع خبر في المدينة بأن الدارمي رَجعَ عن زهده وتَعشَّقَ صاحِبةَ الخمار الأسود، فلم يبق في المدينة فتاة مليحة إلّا واشترت لها خماراً أسودَ. فنفد من التاجر كل ما كان معه من بضاعة، ويقال إن الدارمي رَجعَ بعدها إلى تعبّده.
وكذلك غنّى لأشهر الشعراء العرب، مثل إيليا أبو ماضي، وأحمد شوقي، وأبو فراس الحمداني. غنّى للحمداني: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة»، ولشوقي: «شيعت أحلامي بقلب باك»، وللبهاء زهير «يا من لعبت به شمول»، ولأبي ماضي: «أي شيء في العيد أهدي إليك يا ملاكي»، وللمتنبي: «يا أعدل الناس»، وللعباس بن الأحنف: «يا أيها الرجل المعذّب نفسه»، ولغيرهم من كبار شعراء «العربية». ويعود إلى الغزالي الفضل الكبير بتداول تلك القصائد على ألسنة أبسط الناس من خلال الشجن المؤثر في الأداء، وهي سمة عامة للأصوات العراقية، وتميّز بها الغزالي، إضافة إلى الطابع الحزين القريب من الدرامي النابع من قلبه، فأحبّ الناس ما قدّمه لهم من قصائد ورددوها، وربما لو كتب له عمر أطول لنهل من عيون الشعر العربي وتراثه وقدّم تاريخا كبيرا من الشعر المغنّى للعراق والعرب جميعا.
وإضافة إلى القصيدة، غنّى ناظم التراث الشعبي العراقي، كما ذكرنا في حلقات سابقة، مما زاد حب العراقيين له، ويؤكد ذلك المؤرخ والباحث الموسيقي د. هيثم شعوبي قائلا: كان والدي الموسيقي إبراهيم شعوبي يعتز ويفتخر بالغزالي، ويعتبره من أجمل الأصوات العراقية والعربية، ومرة نبّهه إلى أغنية «شامة ودكة بالحنج»، فاقترح إضافة كلمة «تنباع» حتى تصبح أكثر جمالية وفهما «شامة ودكة بالحنج لو تنباع جنت اشتريها»، ورحب الغزالي بذلك وغنّاها كما اقترح شعوبي الأب». وأضاف هيثم: غنّى الغزالي أيضا المقامات الفرعية كالركباني والحويزاوي والمدمي والحكيمي مخالفا المقاميين في وقته، لأنّهم كانوا يهتمون بالمقامات الرئيسية فقط»، مشيرا إلى أن الغزالي كان قبل تسجيل أغانيه يُحضر النشرات الضوئية ليزين الاستديو. وفي الأعياد، يوزع المال على أصدقائه من الموسيقيين.
الغزالي يغني لأبرز الشعراء العرب بأداء باهر
«عيرتني بالشيب» سفيرة صوت الغزالي
تأتي قصيدة «عيّرتني بالشيب» المشهورة للمستنجد بالله يوسف أبوالمظفر بن محمد المقتفي، وهو الخليفة الثاني والثلاثين في سلسلة خلفاء الدولة العباسية، كأكثر القصائد تعريفا بالغزالي خارج العراق، وبحسب عدد من الرواة، فإن سبب كتابة المستنجد لتلك الأبيات أن جارية من جواريه عيّرته بالشيب، وكان لها منزلة كبيرة في قلبه، ولو لم تكن كذلك لما تجرّأت عليه، فردّ عليها قائلاً:
عيرتني بالشيّب وهو وقارُ
ليتها عيرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب منّي
فالليالي تزيّنها الأقمار
دموعي بيوم فقد الولف ليلى
وردت عيني يمرّها النوم ليله
تعيّرني عجب بالشيب ليلى
وأخير اثنيننا نشيب سوا
غناها الغزالي والتصقت الأغنية باسمه، فأينما يذكر اسمه تذكر القصيدة معه مباشرة، فمن بعده حفظها الناس ورددوها كثيرا حتى أن عددا كبيرا من المطربين والمغنين أصبحوا يستخدمونها موالا في مطلع أغانيهم، وتبعه في غنائها الكثيرون.