ناظم الغزالي... صوت العراق وسفير أغنيته «5-6 »
• الزواج من سليمة مراد بين المصلحة والعاطفة
تابع النجم ناظم الغزالي مشواره الفني الحافل بإنجازات كبيرة الواحد تلو الآخر وأصبح حديث العراقيين. وبعد أن ذاع صيته خارج العراق بدأت تنهال عليه طلبات من عدة دول للغناء على مسارحها لجمهور شغوف للقاء صاحب أغنية «عيرتني بالشيب». تلك النجومية لم تبعد ناظم عن حياته الاجتماعية الخاصة التي توجت بلقاء قمة من قمم الغناء العراقي سليمة باشا والتي أصبحت زوجته لاحقا. فمن هي سليمة؟
سليمة مراد
شهد حي «طاطران” في مدينة بغداد في الثاني من شباط عام 1905 ولاد نجمة في فضاء الفن العراقي الكبير «سليمة مراد” مغنية عراقية من الدرجة الأولى ذات أصول يهودية وصفها النقاد منذ أواسط العقد الثاني من القرن الفائت بقمة من قمم الغناء العراقي، احتلت المطربة التي كانت أول امرأة عراقية تحصل على لقب باشا مكانة استثنائية في الأوساط الغنائية في العراق. واللقب منحها إياه رئيس وزراء العهد الملكي العراقي «نوري السعيد” الذي كان معجباً بمراد أشد الإعجاب.
سليمة مراد عراقية من أصول يهودية تربت في أسرة مهتمة بالغناء
تعرفت المطربة في بيئة مهتمة بالغناء منذ صغرها على الجوق الموسيقى وعلى الجالغي البغدادي، وحظيت بفرصة لقاء أهم مشاهير الطرب والموسيقيين في وقتها. ومن أبرزهم الشاعر الكبير “عبد الكريم العلاف” الذي منح مراد أجمل ما كتب من شعر كأغنية (خدري الجاي خدري، وقلبك صخر جلمود، وعلى شواطئ دجلة مر) و(أيها الساقي إليك المشتكى) و(يا نبعة الريحان) و(الهجر) والكثير غيرها. أما الألحان الرائعة فكانت من صنع الموسيقي المعروف “صالح الكويتي” ولحن لها أيضا “داود الكويتي” و”سليم زبلي” وغيرهم. أطلق عليها الكاتب “زكي مبارك” بعد أن سمعها في إحدى الحفلات لقب (ورقاء العراق).
كان خطواتها الفنية متسارعة ومتقدمة على غيرها من الفنانات حيث دخلت سليمة الإذاعة سنة 1936 وكانت من أوائل المطربات اللواتي دخلنها. أثْرت الإذاعة بحفلات غنائية متميزة. أما في منزلها فقد اجتمع كبار الشخصيات من الأدباء والشعراء ورجال السياسة ضمن منتدى أدبي كانت تقيمه. ويحسب لها عدم مغادرتها العراق إبان أحداث كثيرة شهدها البلد تسببت بهجرة اليهود إلى إسرائيل، وبقيت في العراق حتى السنوات الأخيرة من عمرها.
اللقاء بناظم
عام 1952 وفي منزل عائلة من العائلات البغدادية حيث كانت تغني سليمة مراد رفقة المطرب ناظم الغزالي في حفلة أقامتها تلك العائلة. تبادل الفنانان نظرات الإعجاب الذي أضحى حبا فيما بعد. أعجبت مراد بصوت ناظم القوي وبراعته في الإداء بعد أن سمعته إلى جانب إعجابها بأخلاقه، ليبدأ الحب الجميل بأغنية أهدى ناظم كلماتها لسليمة وهي «قولي يا حلو منين الله جابك”. بعد عام واحد من قصة حب نشأت بينهما كُلل ذاك الحب بالزواج سنة 1953 بحضور الفنان الكبير “محمد القبانجي”، وبطبيعة الحال فإن زواج فنانيين لابد أن يثمر عن تعاون بينهما فداوما على حفظ المقامات والأغاني حتى ساعات متأخرة من الليل. واشترك الزوجان في حفلات غنائية عدة منها حفلة جماهيرية كبيرة سنة 1958 تلتها حفلات للجالية العراقية في باريس ولندن.
لقائهما الأول كان كفيلا بارتبطهما وزواجهما بعد سنة واحدة
عاشت سليمة مراد أيام مجد كبيرة وتحدثت في حوار بعنوان (سليمة مراد باشا) نُشر في “مجلة الأسبوع العربي” عام 1964 معتبرة أن ليالي زمان الفنية لا تقارن بليالي اليوم. على الرغم من حالة البذخ والإسراف التي لم تكن لأجل الجسد الرخيص والمتعة الجنسية كما هو اليوم، بل من أجل الفن الصحيح والمتعة الروحية. معتبرة مدينة حلب السورية عاصمة للفن، أشبه (بكعبة) له ومن الواجب على كل فنان أن يحج إليها، كما حج الموصلي وسيد درويش والحامولي والأغواتي وأم كلثوم وعبد الوهاب وزكية جورج وطيرة المصرية. مؤكدة أن رواد الطرب اليوم يطربون بعيونهم ورواد أيام زمان يطربون بآذانهم؟. وفي حديث لإذاعة لندن عام 1962 أكدت المطربة أنها تغني المقام العراقي، من كل مقام قطعة أو قطعتين من اللامي والدشت والسيغا وأن أكثر ما يؤثر في غنائها وتحبه كثيرا إضافة إلى أنها اشتهرت به كان البنجيكاه كأغنية « قلبك صخر جلمود».
سليمة الملوعة
ينقل الكاتب غازي العياش عن مطربة العراق الأولى ما باحت به في لقاء جمعهما منذ عقود بعدما ناهز عمرها الخمسين عاما وغزت التجاعيد يديها، عن حياتها بين حلوها ومرها من لحظات لا تخلو من السعادة لكن معظمها كانت لحظات حزن وانكسار. كيف رافقها الحزن في محطات كثيرة من حياتها منذ أيام الصبا حتى الان، حصولها على لقب (باشا) وإغداق الأموال عليها بلا حساب ونثرها للجواهر وبعثرة الذهب تحت قدميها وكيف أصبحت مطربة تحتل القمة، وذاعت شهرتها بين العواصم العربية والأوربية، وربما أكثر ذكرياتها مجدا وقوف كوكب الشرق أم كلثوم تخاطب الآلاف من مستمعيها في بغداد متمنية امتلاك حنجرة صافية قوية كالتي تتملكها مطربة العراق سليمة مراد. ورغم هذا كله بقي قلبها ممزقا لا يعرف غير الوحدة، تنزف جروحه دما، واللوعة تترعرع بين ضلوعها، وفي اللحظة التي بدأت فيها جروحها تلتئم وعرفت نفسها المتعة الصادقة فقدت الإنسان الذي وفر لها كل ما تمنت بعد ستين عاما من الحرمان.
ناظم طفل سليمة المدلل أعادها للغناء بعد قرار الاعتزال
بكت سليمة بصوت مسموع خلال الحوار، بل انهالت دموعها في بكاء مر نصف ساعة تحاول بعينين مبتلتين بالدموع بصعوبة النظر إلى صورة “ناظم الغزالي” في صدر صالون بيتها. عبرت عن حبها له واصفة ناظم بالوسادة المريحة التي تسند إليها رأسها بكل ثقة. تصف حياتهما معا بأنها لم تكن زواجا، الجنس لم يكن له وجود بينهما. عاشا سبع سنوات معا يربطهما الإحساس المرهف ومشاعر تفيض براءة مستمدة من الفن. كانت سليمة ترى في ناظم طفلا مدللا، تعلمه النغم والمقام العراقي بكل تفاصيله، بينما يعلمها هو الصبر والثقة بالنفس ليعيدها إلى الغناء بعد قرار اتخذته بالاعتزال. كان بمثابة دافع لها للحياة، أما هي فكانت الدرب السري الذي أوصله طريق المجد. بعد كل هذا جاء من يتهمها بقتل ناظم، اتهمها الذين جاؤوا بعد موته إليها يطالبون بساعته الذهبية ليضعها ابنهم في معصمه وتراب قبر ناظم لم يجف بعد. يقف الكلام في فمها وكأنها تحبس سرا في صدرها وتغير مجرى حديثها مطالبة بتغيير الحديث عن الالام والعودة إلى أيام المجد ثم العودة إلى الحاضر للحديث عن شقائها مع الناس..
عاشت سليمة مع زوجها الغزالي سبع سنوات وصفتها بقصة الحب الجميلة طوال مدة الزواج كنا نتعاون معا بوصفنا فنانين على حفظ بعض المقامات والبستات، وغالبا ما كنا نبقى حتى ساعة متأخرة من الليل نؤدي هذه الأغاني معا ونحفظها سوية. وهي التي عُرفت بصوتها القوي وقدراتها الكبيرة على أداء مُختلَف الألون الغنائية، وأستاذيتها العريضة على أداء المقام العراقي، والأغنية العراقية القديمة، فكان التَيْم الفني شعار ناظم الغزالي ناحية سليمة مراد، وغنى العديد من أغانيها القديمة، بحكم أسبقيتها في ذلك. يقال إنه حين توفي كان في مكتبته عشرون شريطاً سجل عليها أغنياته كافة وأغنيات المرحومة سليمة مراد. وتميز عن كل تلك التسجيلات شريط حمل الرقم (واحد وعشرون) سجل عليه بعضا من أغنياته وأغنيات زوجته سليمة مراد أثناء قيامهما بالتمارين في المنزل.
يتفق معظم النقاد بأن زواج الغزالي من مراد كان زواجًا فنيًا ناجحًا، فخبرات مراد وشهرتها وسلطتها المعنوية في المجتمع العراقي زودت ناظم بما كان يتطلع له. لتقدم مراد أموالها في سبيل صقل موهبته إضافة إلى توجيهه نحو دروب الفن كافة، خصوصا في لقائه بالملحن الكبير “ناظم نعيم” الذي يعد سببًا رئيسًا في الشهرة التي نالها الغزالي بفضل أعماله. كما رأى النقاد أن ناظم من خلال مراد استطاع التعرف على الطبقة الأرستقراطية، مما شكل فرقا كبيرا في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية على وجه الخصوص، كما جمعهما رصيد فني مشترك يعد من كنوز التراث العراقي.
اختلف النقاد حول طبيعة زواجهما العاطفية واتفقوا على أنه زواج فني ناجح
نقاد آخرون وجدوا في الغزالي الرجل الذي تعشقه نساء الطبقة الوسطى العراقية في أوج مراحل صعودها عبر قصص الحب المنسوجة في أغانيه وفي الواقع هو رجل متزوج يعيش مخلصا لزوجةٍ تكبره بسنوات كثيرة واصفين علاقتهما بالعلاقة التي تغلب عليها الرتابة، وبالتالي لم يخرج عن شخصية معظم الرجال العراقيين ممن يظهر عليهم الهوس بقصص حب شيقة في نهايتها يذهبون الى بيوت الزوجية التقليدية. ومن هنا يصفه البعض بالأمين في نقل صورة الشخصية العراقية في قوتها وغطرستها فهو ابن العائلة الفقيرة الذي صار نجم المجتمعات الراقية وشاغلها من جهة ومن جهة أخرى اعتبروا القبول بزواجه من « سليمة باشا» وداعة منه حد الإذلال، رغم محاولاته بطبع هذا الزواج في إطار عاطفي. اتجهت «سليمة مراد” في آخر أيامها إلى إدارة الملهى الذي افتحته بالاشتراك مع زوجها. إلى أن توفيت النجمة العراقية في أحد مستشفيات بغداد عام 1974 عن عمر ناهز السبعين عاما.
ناظم تمنى الزواج بسليمة قبل اللقاء بها أول مرة
يصف الرسام والصحفي حميد المحل، وهو من زملاء ناظم في فرقة الزبانية وصديق مقرب منه، علاقة الغزالي بسليمة مراد في البداية بعلاقة مطرب ناشىء بفنانة متربعة على عرش. كان ناظم وحميد يمران معا ذات ليلة بالقرب من ملهى كانت تعمل به سليمة وما ميز ذلك اليوم أن صوتها كان يملأ الليل الهاديء نغما حلوا. وإذ بناظم يخاطب حميد قائلا: “يا هناه من قدر له أن يتزوجها فسوف يسعد بالصوت الملائكي ليل نهار». ليحقق القدر لناظم واحدة من أمانيه القليلة الكبيرة، فقد تزوجها فعلا. ويشير حميد إلى أن الغزالي لم يتزوج المرأة بل تزوج الصوت. وأن عدة أسباب دفعت ناظم الى الزواج من سليمة رغم اختلاف العقيدة فهو مسلم وهي يهودية ورغم التفاوت في السن فقد كانت تكبره كثيرا (عشر سنوات). وأكثر هذه الأسباب وضوحا هو رغبته في تعلم أسرار الغناء وسليمة تمتلك من هذا العلم الكثير الكثير. إضافة إلى أنها ستكون بطاقته إلى الصالونات الكبرى، فقد دخل بواسطتها أكبر البيوتات.أما القول بأنه تزوجها طمعا بمالها، فالرد على هذا الكلام أن سليمة عند ارتباطها بالغزالي كانت قد بددت جل ثروتها.أم كلثوم لسليمة مراد: أتمنى أن أمتلك قوة حنجرتك وأوتارها الصافية
جاءت أم كلثوم إلى بغداد عام 1953 لتعمل في ملهى (الهلال) في منطقة الميدان وقد كانت وقتها مطربة مبتدئة مقارنة بالمطربة سليمة باشا التي كانت ذائعة الصيت وقتها، وفي حفلة خاصة حملت أم كلثوم العود وبدأت تعزف واحدة من أغنيات مراد وهي (قلبك صخر جلمود ما حن عليّ). ثم بدأت بغنائها. ما أن انتهت من عزف وغناء أول مقطع من الأغنية حتى توقفت والتفتت نحو سليمة وابتسامة خجل ترتسم على وجهها، وهي تقول (ياريت كنت أقدر أغنيها زيك) فأخذ الحاضرون يصفقون مجاملة لها ولإشعارها أنها أجادت الغناء، وطلبوا منها في إلحاح إكمال الأغنية ولكن أم كلثوم أكملت كلامها موجهة الحديث لمراد: “إن شاء الله بعد عشر سنوات يكون لي قوة حنجرتك وأوتارها الصافية وبعدها أغني الأغنية بتاعتك وربنا يساعدني أغنيها كويس حتى ما تكونيش زعلانة مني” وبعد خمس سنوات سجلت أم كلثوم الأغنية على اسطوانة تجارية دون أن تأتي على ذكر صاحبتها أو صلتها بالأغنية، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها مراد من أجل أن تتقن أم كلثوم لحن الأغنية.
نعش الغزالي على الأكتاف والبوليس يحقق مع مراد بتهمة قتله
أطلقت سليمة العنان لأسرار قلبها المكلوم بعد وفاة رفيق درب ولو قصيرة وبعد أن انهالت عليها الأقاويل حتى تعبت فهي من كانت تشعر باللوعة في قلب ناظم لأنها تشبه لوعتها. يجلسان لساعات دون أن يتفوها بكلمة واحدة لكنهما يطلقان الآهات التي تعبر وحدها عن مكنونات قلبيهما وما فيهما من لوعة وأسى وألم. ناظم ذاق من الحرمان واليتم واللوعات والجوع ما لم يعانه أحد من قبل. لم يتعرف إليه قريب، يوم كان يستجدي ثمن كتب مدرسته. ولم يذكروه يوم عانى المرض والتشرد والبطالة. وعندما أصبح اسما لامعا عرفه الجميع ويوم مات عرفوا ما يملك ونسوه.
وتقول سليمة: بينما نعش ناظم الغزالي تحمله أذرع عشاقه وأصدقائه وتودعه آهات المعجبات كان رجل البوليس يجلس إلى جانبي يستنطقني في تهمة قتله. هل من المعقول أن أفعل هذا بناظم؟ أنا اقتل طفلي المدلل، وحبي البريء، وأملي الوحيد. شلت يداي واليد التي تريد به السوء.. أنا دسست له السم؟!. هذا ما قالوه حتى ينالوا ما تركه ناظم وليتهم جاؤوا إلي دون إشاعاتهم القذرة لأعطينهم كل ما ترك ناظم وما أملك لأني زاهدة في المال والأملاك بل زاهدة في الدنيا كلها بعد رحيله.
وتقول سليمة: بينما نعش ناظم الغزالي تحمله أذرع عشاقه وأصدقائه وتودعه آهات المعجبات كان رجل البوليس يجلس إلى جانبي يستنطقني في تهمة قتله. هل من المعقول أن أفعل هذا بناظم؟ أنا اقتل طفلي المدلل، وحبي البريء، وأملي الوحيد. شلت يداي واليد التي تريد به السوء.. أنا دسست له السم؟!. هذا ما قالوه حتى ينالوا ما تركه ناظم وليتهم جاؤوا إلي دون إشاعاتهم القذرة لأعطينهم كل ما ترك ناظم وما أملك لأني زاهدة في المال والأملاك بل زاهدة في الدنيا كلها بعد رحيله.