عاش ناظم الغزالي مع زوجته سليمة مراد 7 سنوات تطورت فيها حياته الاجتماعية بشكل متسارع وبأرفع مستوى. جال برفقة زوجته عددا من الدول يقيم حفلات ناجحة، كان أبرزها والتي خلدت اسمه حتى اليوم هي حفلة الكويت، ليصبح في الصفوف الأولى مع أشهر المطربين العرب. إلى أن توقّف قلب الغزالي الشاب عن الخفقان، وتوقفت معه مسيرة نجم قلّما يجد العراق مثيله.
السينما
كانت مشاركة ناظم السينمائية سنة 1963 الأولى والأخيرة، فقد تعاقد معه محمد سلمان على تقديم أغنيتين في الفيلم الاستعراضي الملون «بيروت في الليل»، أو ما كان يسميه البعض «يا سلام عَ الحب».
وكانت الصداقة قد ربطت بين الاثنين منذ ظهر ناظم قبلها بسنوات، كواحد من أفراد الكورس وراء سلمان وهو يغني في فيلم صُوّرت بعض مشاهده في بغداد، وهو «ليلى في العراق».
غنّى الغزالي في الفيلم باستعراض «يمّ العيون السود»، ورافقه في الفيلم كل من المطربة اللبنانية نجاح سلام، والمطرب السوري فهد بلان، وحسن علاء الدين الملقب (شوشو)، وشفيق حسن،
وعبدالسلام النابلسي، وصابرين أبو لبن، وجاكلين، وقوت القلوب، وصلاح نادر، وحسن المليجي، ومحمد شامل.
صُنّف الفيلم من النوع الموسيقي، الاستعراضي، الدرامي الكوميدي. وهو قصة وسيناريو وإخراج محمد سلمان، أما الحوار والأغاني فلمحمود نصير، وكلمات الأغاني: ميشيل طعمة، وعمر حلبي، والألحان لمحمد محسن، وعبدالفتاح سكّر. فيما تمت عمليات التصوير في استديو بعلبك. يتحدث عن فرقة استعراضية تواجه الفشل والإفلاس، وبالمصادفة تأتي أخت مغنية ذات صوت جميل في الفرقة تعود بها إلى بلدها لإكمال تعليمها، ليقترح عليها مدير الفرقة أن تشترك معهم في الاستعراض، ولكنها ترفض، فيطلب مدير الفرقة من أحد أفرادها (فريد) أن يمثّل عليها الحب ليجعلها توافق، وبالفعل توافق وتنجح المحاولة، وتشترك معهم بالفرقة، لكنّها تكتشف الخدعة، وتكتشف أيضًا أنها بالفعل تحب فريد وهو يحبها.
في لقاء أجرته معه إذاعة لندن رفقة زوجته سليمة مراد عام 1963، تحدّث الغزالي عن الفن السينمائي في العراق، موضحا أن الصناعة السينمائية في هذا البلد تفتقر إلى الاختصاصيين، لكن في السنوات الأخيرة تخرّج في معهد الفنون الجميلة شباب مثقف يحمل رسالة الفن، سافر قسم منهم إلى أميركا، وقسم آخر إلى أوروبا لتلقي علوم الفن السينمائي هناك، وعندما عادوا إلى العراق كانت هناك شُعب كثيرة في معهد الفنون الجميلة مفتقرة لأساتذة عراقيين، فتلقفتهم، واتجه هؤلاء الشباب نحو التدريس لخلق جيل جديد، إضافة إلى ذلك، لا يوجد استديو كامل في مدينة بغداد، وبحسب اعتقاده فإن أصحاب رؤوس الأموال لم يؤمنوا بالفيلم العراقي، والفيلم يحتاج إلى ميزانية كبيرة حتى يتم العمل عليه.
يوجد الممثلون والقصة موجودة أيضا، لكن النقص كان في الدعم المادي، وأصحاب الأموال لم يجازفوا بدعم فيلم قد يحتاج إلى مبلغ يقدّر بخمسة عشر ألف دينار أو ربما عشرين ألفا، ومصير الفيلم غير معروف.
وتساءل هؤلاء عن مسألة فهم الشعب العربي للفيلم بنفس تقبّله لأفلام دول عربية أخرى، وأكد أن موضوع اللهجة المحكية بالإمكان تجاوزه عبر تبسيطها، فقد تم أخيرا تبسيط اللهجة في فيلمين اثنين، ليستطيع أي عربي فهم ما يجري فيه. أما العقبات الأخرى فلا تختلف في أهميتها عن المذكور، فكانت تخصّ العنصر النسائي، ليبيّن الغزالي أن العوائل العراقية كانت محافظة لا ترغب في إرسال الفتيات الشابات إلى التمثيل، لكن الأمر تغيّر في الآونة الأخيرة، وأصبحت هناك منتسبات لدراسة التمثيل والإخراج من الشابات العراقيات المثقفات في معهد الفنون الجميلة. حفلة الكويت
تلقّى ناظم سنة 1963 دعوة رسمية من وزير الإعلام الكويتي الشيخ مبارك الأحمد، للإسهام في إحياء عيد استقلال دولة الكويت، إلى جانب كوكبة من النجوم من أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ووديع الصافي، فسافر إلى البلد الشقيق على أن يبقى مدة أسبوع على الأكثر. لكنّه بقي أربعة أسابيع، امتدت لفترة طويلة، وقد حقق ناظم خلالها نجاحا جماهيريا جعله يمدد الإقامة أسبوعا بعد آخر، وقام خلال هذه الفترة بتسجيل 28 أغنية للتلفزيون، و32 أغنية للإذاعة.
ويؤكد الموسيقار وعازف القانون سالم حسين أن رصيد ناظم الفني الأكبر سُجل في الكويت ولم يسجل في بلده، وعندما أراد العراق - بعد رحيل ناظم المبكر - الحصول على نسخ من هذه الأغنيات المصورة والمسجلة، اعتذر وزير الإعلام قائلا: «البلد الذي لا يقيّم فنانيه لا نعطيه شيئاً».
من جهته، يقول المؤرخ والباحث الموسيقي هيثم شعوبي: لولا حفلة الكويت لما وصل ناظم للجميع وبقي محليا. كان حفل الكويت كلمة السرّ التي وصل تأثيرها الهائل إلى دولٍ كثيرة قدمت الغزالي لجمهور من كل الفئات، فطاردته الشهرة بشكل سريع.
قدّم ناظم خلال في فترةٍ قصيرة عام 1963، مجموعة من الحفلات في العراق ومحيطه، وسافر إلى لبنان، وأقام فيه وحده 35 حفلة، ليطير بعدها في جولةٍ فنيّةٍ مع زوجته إلى الولايات المتحدة الأميركية وأورويا، حيث قدّم حفلات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ويعاود الرجوع إلى لبنان ويقيم في فندق نورماندي، بغية الراحة جرّاء التعب الذي ألمّ به من جولته الأخيرة. حفلة بيروت
اعتذر الغزالي، في بداية الأمر، عن أكثر من دعوة جاءته للغناء في لبنان، ويعود السبب - حسب رأي البعض - إلى أن لبنان في تلك الفترة كان مطبوعا بلون محدد من الغناء؛ قطباه سميرة توفيق وفهد بلّان. إلا أن أصدقاءه أقنعوه بالعدول عن رأيه وتجربة الغناء في بلد كان مستقطبا كل ألوان الأدب والفن.
ففي صيف عام 1963، عندما تقدّم مستثمر قاعة فندق طانيوس الى المطرب العراقي الكبير، بعرض من الصعب رفضه. غنّى الغزالي في «عاليه» ونجح نجاحا كبيرا.
لاقى لبنان في قلب الغزالي حبا كبيرا، بعد أن منحه جمهورا وشهرة واسعة. وبعد حفلته سافر إلى أوروبا طلبا للراحة برفقة زوجته، ثم عاد إلى لبنان مُجددا نشاطه الفني، وأسس في بيروت مع القناة 11 والشاعر عبدالجليل وهبي وصديقه سالم حسين، شركة لإنتاج الأغاني وتوزيعها، وأنهى أعماله في بيروت، وقرر أن يعود لفترة قصيرة إلى وطنه لإنهاء بعض الأعمال المتعاقد عليها. وفي جناح إقامته بالفندق طلب من زوجته العودة في اليوم التالي إلى بغداد بالسيارة، إلّا أن سليمة كانت متعبة من كثرة السفر، ووعدته باللحاق به بالطائرة.
الرحيل المفاجئ
عاد ناظم الغزالي إلى بيته بالعراق في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 1963، وبينما كان يحلق ذقنه - كما روى الكاتب والباحث كمال لطيف سالم - طلب شيئاً من الماء، وحين قُدّم إليه سقط على الأرض، فاستُدعي له أول الأمر د. ألبير حكيم، الذي فحصه وأوصى بالاتصال بالدكتور شوكت الدهان، ليقوم بإجراء مخطط لقلبه، وحتى هذه اللحظة كان ناظم حياً.
وفيما يتحدث الأستاذ محمد القبانجي عن الحادثة قائلا: لقد أخبرني صديق في مساء يوم الاثنين أن ناظم الغزالي وصل إلى بغداد، فاتصلت تلفونياً ببيته، وطلبت ممن ردّ علي أن يصلني بناظم، فأخبروني بأنه ليس على ما يرام، فألححت مجددا بطلبه، جاءني الجواب بأنه في وضع لا يستطيع معه التحرك والحضور للرد، كما أخبروني بأن د. ألبير حكيم قد استُدعي لفحصه، وانتهت المكالمة التلفونية.
وبعد أكثر من نصف ساعة، تلقيت اتصالا تيلفونيا من أحد الأصدقاء يخبرني بوفاة ناظم، لم أصدق. تناولت سماعة التلفون بسرعة، وأجريت مكالمة مع بيت المرحوم الغزالي، فقيل لي إنه فارق الحياة، لم أصدق النبأ، فذهبت الى د. توفيق عبدالجبار، واصطحبته معي إلى دار الغزالي، فأجرى الفحص عليه مؤكدا وفاته، ثم جاء د. خالد ناجي وأجرى الفحص عليه، وأكّد بدوره الوفاة، مضيفا: كان ناظم يرتدي دشداشة، ويبدو لي مبتسماً، بعد ذلك تم نقل جثته إلى معهد الطب العدلي، بناءً على مشورة بعض الأصدقاء، وبقيت الجُثة حتى اليوم الثاني.
أجرى د. عبدالصاحب علش (أحد أطباء معهد الطب العدلي) عملية التشريح للجثة، وقال: استغرقت العملية نحو الساعة، ولا أستطيع التحدث بشيء الآن، حتى تتم معرفة نتائج الفحوص التي يجريها المعهد لمعرفة أسباب الوفاة، وسيتم تسليم الجثة لذويه صباح هذا اليوم (الثلاثاء).
وفي الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء، ذهب لفيف من أصدقاء الفقيد إلى مقر مديرية الطب العدلي، حيث نقلوا جثمانه إلى بيته، وبدأت وفود المعزّين تتوالى، كما بدأت أرتال السيارات في الشارع الكبير قرب بيته، والشوارع الكثيرة المحيطة.
وعند الساعة العاشرة تماماً، وضع الجثمان على سيارة مكشوفة يحيط بها عدد من الفنانين، في مقدمتهم المرحوم علاء كامل وخزعل مهدي ومحمود القطان ومحمد كريم، ومضى الموكب الطويل من بيته إلى مثواه الأخير في مقبرة الشيخ معروف، وسط موكب كبير من المواطنين الذين أفجعتهم المصيبة بفقده على هذه الصورة.
أما سليمة زوجته فكانت في يوم وفاته عائدة من بيروت في حوالي الثانية عشرة وعشر دقائق ظهرا. توجّهت نحو البيت، فشاهدت جموعا محتشدة من الناس عند الباب، فاقتربت منهم كي تعرف ما الذي يجري، فلم يخبروها، إلا أن عيونهم تحدثت عن وقوع كارثة. دخلت كالمجنونة تركض، إلّا ن
(روزة) فاجأتها قبل أن تسألها عن المأساة، فأغمي عليها عند مدخل البيت، ولم تُفق من غيبوبتها حتى ازدحم منزلها بالناس.
توقّفت محطة إذاعة بغداد عن بثّها الاعتيادي، لتذيع نبأ رحيل المطرب العراقي ناظم الغزالي في سابقة هي الأولى من نوعها، بعدما كانت لا تقطع برامجها إلّا في الانقلابات العسكرية.
قدّم ناظم الغزالي المقامات الموسيقية إلى جمهوره بشكل مستساغ ومقبول لدى الأكثرية منهم، بعد تبسيطها. الأمر الذي أسهم في نقل تلك المقامات من طبقات محددة وقليلة في المجتمع العراقي إلى عامة الشعب، محررا بذلك الأغنية العراقية، لتصبح غير مقتصرة على أناس دون غيرهم.
تلك العملية كانت أكثر رسائله الفنية وضوحا، وقد سعى بكل جهده إلى إيصالها، مستخدما طريقته الخاصة التي يقتنع بها.
وفي ذلك يستعرض الباحث فلاح الخياط مقامات أغنيات الغزالي وبعض أغنياته بالقول: «الغزالي لم يغنّ الأغنية العاطفية والمقام والأغنية البغدادية والموّال فحسب، بل أدى كثيرا من الأغاني الوطنية منها أغنيات احتفظ بتسجيلاتها شخصيا، وهي غير موجودة حتى في الإذاعة.
ومن تلك الأغاني «تسلم يا عبدالكريم» و«يا ابن البطولة»، وهناك أغنية لا أتذكر اسمها أداها مع الفنانة أحلام وهبي (دويتو) وقدّمها عام 1960، كذلك غنّى أوبريتا من ألحان رضا علي، وإضافة إلى ذلك أنشد التراث العراقي، فحبّب للعراقيين حفظ تراثهم، وجذب الآذان العربية إلى هذا التراث، وغنّى أروع القصائد مُتقنًا اللغة العربية الفصحى، وناطقًا لحروفها دون خطأ يُذكر.
أما المطربة العراقية سليمة مراد (زوجة الغزالي) فقد قُدّم مسلسل درامي يحمل اسمها، ويتناول سيرة حياتها، وجسدت فيه الفنانة آلاء حسين شخصية سليمة مراد، فيما جسّد شخصية ناظم في العمل الفنان الشاب علي عبدالحميد، كما أسس الفنان العراقي نجاح عبدالغفور فرقة الغزالي للتراث عام 1996 في يوم ذكرى وفاة ناظم الغزالي، لإحياء تاريخه وتراثه والحفاظ عليه.
ويؤكد صديقه الصحافي حميد المحل (زميله السابق في فرقة الزبانية)، أنه كان سيئ الحظ بشكل عام، فقد تمنّى أشياء كثيرة لم يستطع تحقيقها، إذ كانت أمنيته أن يصبح ضابطا، لكنه سقط في الكشف الطبي لقِصَر قامته، وكان أمله أن ينجح كموظف، لكنّ الموردين خلطوا الدقيق الذي كان يسلّم إليه بنوى البلح المطحون، فلما أَبلغ عنهم فُصلَ من الوظيفة. وغدت أولى أمنياته أن يغنّي فلمّا وصل الى القمة، توفي.
ويضيف: هناك أمنية أخرى عاشت بين حنايا ناظم، ولا يعلم بها أحد إلا بطلاها، فقد التقى في باريس المطربة وردة فأحبها، وكان مقدّرا للحب أن يصل بهما إلى الزواج، لولا اكتشاف سليمة للقصة، وتدخّلها لإنهائها على عكس ما كان يتمنى، وفقا لمجلة الصياد.
أما حظ محبيه العاثر، فكان بعد سطوع النجم الجديد عربيا، وتلقّف الفنان محمد عبدالوهاب لصوته، فسعى الأخير إلى التعاون مع الغزالي بإدماج صوته مع إيقاعات ألحانه. ورحَّب الأخير بشدة بهذا المشروع الفني الكبير، لكن كان للقدر رأي آخر، فقد تُوفي الغزالي قبل إتمام المشروع، لتخسر الموسيقى العربية تعاونا من نوع فريد.
* دمشق - شادي عباس
السينما
كانت مشاركة ناظم السينمائية سنة 1963 الأولى والأخيرة، فقد تعاقد معه محمد سلمان على تقديم أغنيتين في الفيلم الاستعراضي الملون «بيروت في الليل»، أو ما كان يسميه البعض «يا سلام عَ الحب».
وكانت الصداقة قد ربطت بين الاثنين منذ ظهر ناظم قبلها بسنوات، كواحد من أفراد الكورس وراء سلمان وهو يغني في فيلم صُوّرت بعض مشاهده في بغداد، وهو «ليلى في العراق».
غنّى الغزالي في الفيلم باستعراض «يمّ العيون السود»، ورافقه في الفيلم كل من المطربة اللبنانية نجاح سلام، والمطرب السوري فهد بلان، وحسن علاء الدين الملقب (شوشو)، وشفيق حسن،
وعبدالسلام النابلسي، وصابرين أبو لبن، وجاكلين، وقوت القلوب، وصلاح نادر، وحسن المليجي، ومحمد شامل.
صُنّف الفيلم من النوع الموسيقي، الاستعراضي، الدرامي الكوميدي. وهو قصة وسيناريو وإخراج محمد سلمان، أما الحوار والأغاني فلمحمود نصير، وكلمات الأغاني: ميشيل طعمة، وعمر حلبي، والألحان لمحمد محسن، وعبدالفتاح سكّر. فيما تمت عمليات التصوير في استديو بعلبك.
في لقاء أجرته معه إذاعة لندن رفقة زوجته سليمة مراد عام 1963، تحدّث الغزالي عن الفن السينمائي في العراق، موضحا أن الصناعة السينمائية في هذا البلد تفتقر إلى الاختصاصيين، لكن في السنوات الأخيرة تخرّج في معهد الفنون الجميلة شباب مثقف يحمل رسالة الفن، سافر قسم منهم إلى أميركا، وقسم آخر إلى أوروبا لتلقي علوم الفن السينمائي هناك، وعندما عادوا إلى العراق كانت هناك شُعب كثيرة في معهد الفنون الجميلة مفتقرة لأساتذة عراقيين، فتلقفتهم، واتجه هؤلاء الشباب نحو التدريس لخلق جيل جديد، إضافة إلى ذلك، لا يوجد استديو كامل في مدينة بغداد، وبحسب اعتقاده فإن أصحاب رؤوس الأموال لم يؤمنوا بالفيلم العراقي، والفيلم يحتاج إلى ميزانية كبيرة حتى يتم العمل عليه.
يوجد الممثلون والقصة موجودة أيضا، لكن النقص كان في الدعم المادي، وأصحاب الأموال لم يجازفوا بدعم فيلم قد يحتاج إلى مبلغ يقدّر بخمسة عشر ألف دينار أو ربما عشرين ألفا، ومصير الفيلم غير معروف.
وتساءل هؤلاء عن مسألة فهم الشعب العربي للفيلم بنفس تقبّله لأفلام دول عربية أخرى، وأكد أن موضوع اللهجة المحكية بالإمكان تجاوزه عبر تبسيطها، فقد تم أخيرا تبسيط اللهجة في فيلمين اثنين، ليستطيع أي عربي فهم ما يجري فيه. أما العقبات الأخرى فلا تختلف في أهميتها عن المذكور، فكانت تخصّ العنصر النسائي، ليبيّن الغزالي أن العوائل العراقية كانت محافظة لا ترغب في إرسال الفتيات الشابات إلى التمثيل، لكن الأمر تغيّر في الآونة الأخيرة، وأصبحت هناك منتسبات لدراسة التمثيل والإخراج من الشابات العراقيات المثقفات في معهد الفنون الجميلة. حفلة الكويت
تلقّى ناظم سنة 1963 دعوة رسمية من وزير الإعلام الكويتي الشيخ مبارك الأحمد، للإسهام في إحياء عيد استقلال دولة الكويت، إلى جانب كوكبة من النجوم من أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ووديع الصافي، فسافر إلى البلد الشقيق على أن يبقى مدة أسبوع على الأكثر. لكنّه بقي أربعة أسابيع، امتدت لفترة طويلة، وقد حقق ناظم خلالها نجاحا جماهيريا جعله يمدد الإقامة أسبوعا بعد آخر، وقام خلال هذه الفترة بتسجيل 28 أغنية للتلفزيون، و32 أغنية للإذاعة.
ويؤكد الموسيقار وعازف القانون سالم حسين أن رصيد ناظم الفني الأكبر سُجل في الكويت ولم يسجل في بلده، وعندما أراد العراق - بعد رحيل ناظم المبكر - الحصول على نسخ من هذه الأغنيات المصورة والمسجلة، اعتذر وزير الإعلام قائلا: «البلد الذي لا يقيّم فنانيه لا نعطيه شيئاً».
من جهته، يقول المؤرخ والباحث الموسيقي هيثم شعوبي: لولا حفلة الكويت لما وصل ناظم للجميع وبقي محليا. كان حفل الكويت كلمة السرّ التي وصل تأثيرها الهائل إلى دولٍ كثيرة قدمت الغزالي لجمهور من كل الفئات، فطاردته الشهرة بشكل سريع.
قدّم ناظم خلال في فترةٍ قصيرة عام 1963، مجموعة من الحفلات في العراق ومحيطه، وسافر إلى لبنان، وأقام فيه وحده 35 حفلة، ليطير بعدها في جولةٍ فنيّةٍ مع زوجته إلى الولايات المتحدة الأميركية وأورويا، حيث قدّم حفلات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ويعاود الرجوع إلى لبنان ويقيم في فندق نورماندي، بغية الراحة جرّاء التعب الذي ألمّ به من جولته الأخيرة. حفلة بيروت
اعتذر الغزالي، في بداية الأمر، عن أكثر من دعوة جاءته للغناء في لبنان، ويعود السبب - حسب رأي البعض - إلى أن لبنان في تلك الفترة كان مطبوعا بلون محدد من الغناء؛ قطباه سميرة توفيق وفهد بلّان. إلا أن أصدقاءه أقنعوه بالعدول عن رأيه وتجربة الغناء في بلد كان مستقطبا كل ألوان الأدب والفن.
ففي صيف عام 1963، عندما تقدّم مستثمر قاعة فندق طانيوس الى المطرب العراقي الكبير، بعرض من الصعب رفضه. غنّى الغزالي في «عاليه» ونجح نجاحا كبيرا.
لاقى لبنان في قلب الغزالي حبا كبيرا، بعد أن منحه جمهورا وشهرة واسعة. وبعد حفلته سافر إلى أوروبا طلبا للراحة برفقة زوجته، ثم عاد إلى لبنان مُجددا نشاطه الفني، وأسس في بيروت مع القناة 11 والشاعر عبدالجليل وهبي وصديقه سالم حسين، شركة لإنتاج الأغاني وتوزيعها، وأنهى أعماله في بيروت، وقرر أن يعود لفترة قصيرة إلى وطنه لإنهاء بعض الأعمال المتعاقد عليها. وفي جناح إقامته بالفندق طلب من زوجته العودة في اليوم التالي إلى بغداد بالسيارة، إلّا أن سليمة كانت متعبة من كثرة السفر، ووعدته باللحاق به بالطائرة.
الرحيل المفاجئ
عاد ناظم الغزالي إلى بيته بالعراق في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 1963، وبينما كان يحلق ذقنه - كما روى الكاتب والباحث كمال لطيف سالم - طلب شيئاً من الماء، وحين قُدّم إليه سقط على الأرض، فاستُدعي له أول الأمر د. ألبير حكيم، الذي فحصه وأوصى بالاتصال بالدكتور شوكت الدهان، ليقوم بإجراء مخطط لقلبه، وحتى هذه اللحظة كان ناظم حياً.
وفيما يتحدث الأستاذ محمد القبانجي عن الحادثة قائلا: لقد أخبرني صديق في مساء يوم الاثنين أن ناظم الغزالي وصل إلى بغداد، فاتصلت تلفونياً ببيته، وطلبت ممن ردّ علي أن يصلني بناظم، فأخبروني بأنه ليس على ما يرام، فألححت مجددا بطلبه، جاءني الجواب بأنه في وضع لا يستطيع معه التحرك والحضور للرد، كما أخبروني بأن د. ألبير حكيم قد استُدعي لفحصه، وانتهت المكالمة التلفونية.
وبعد أكثر من نصف ساعة، تلقيت اتصالا تيلفونيا من أحد الأصدقاء يخبرني بوفاة ناظم، لم أصدق. تناولت سماعة التلفون بسرعة، وأجريت مكالمة مع بيت المرحوم الغزالي، فقيل لي إنه فارق الحياة، لم أصدق النبأ، فذهبت الى د. توفيق عبدالجبار، واصطحبته معي إلى دار الغزالي، فأجرى الفحص عليه مؤكدا وفاته، ثم جاء د. خالد ناجي وأجرى الفحص عليه، وأكّد بدوره الوفاة، مضيفا: كان ناظم يرتدي دشداشة، ويبدو لي مبتسماً، بعد ذلك تم نقل جثته إلى معهد الطب العدلي، بناءً على مشورة بعض الأصدقاء، وبقيت الجُثة حتى اليوم الثاني.
أجرى د. عبدالصاحب علش (أحد أطباء معهد الطب العدلي) عملية التشريح للجثة، وقال: استغرقت العملية نحو الساعة، ولا أستطيع التحدث بشيء الآن، حتى تتم معرفة نتائج الفحوص التي يجريها المعهد لمعرفة أسباب الوفاة، وسيتم تسليم الجثة لذويه صباح هذا اليوم (الثلاثاء).
وفي الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء، ذهب لفيف من أصدقاء الفقيد إلى مقر مديرية الطب العدلي، حيث نقلوا جثمانه إلى بيته، وبدأت وفود المعزّين تتوالى، كما بدأت أرتال السيارات في الشارع الكبير قرب بيته، والشوارع الكثيرة المحيطة.
وعند الساعة العاشرة تماماً، وضع الجثمان على سيارة مكشوفة يحيط بها عدد من الفنانين، في مقدمتهم المرحوم علاء كامل وخزعل مهدي ومحمود القطان ومحمد كريم، ومضى الموكب الطويل من بيته إلى مثواه الأخير في مقبرة الشيخ معروف، وسط موكب كبير من المواطنين الذين أفجعتهم المصيبة بفقده على هذه الصورة.
أما سليمة زوجته فكانت في يوم وفاته عائدة من بيروت في حوالي الثانية عشرة وعشر دقائق ظهرا. توجّهت نحو البيت، فشاهدت جموعا محتشدة من الناس عند الباب، فاقتربت منهم كي تعرف ما الذي يجري، فلم يخبروها، إلا أن عيونهم تحدثت عن وقوع كارثة. دخلت كالمجنونة تركض، إلّا ن
(روزة) فاجأتها قبل أن تسألها عن المأساة، فأغمي عليها عند مدخل البيت، ولم تُفق من غيبوبتها حتى ازدحم منزلها بالناس.
توقّفت محطة إذاعة بغداد عن بثّها الاعتيادي، لتذيع نبأ رحيل المطرب العراقي ناظم الغزالي في سابقة هي الأولى من نوعها، بعدما كانت لا تقطع برامجها إلّا في الانقلابات العسكرية.
رسالة الغزالي الفنية للشعب العراقي
قدّم ناظم الغزالي المقامات الموسيقية إلى جمهوره بشكل مستساغ ومقبول لدى الأكثرية منهم، بعد تبسيطها. الأمر الذي أسهم في نقل تلك المقامات من طبقات محددة وقليلة في المجتمع العراقي إلى عامة الشعب، محررا بذلك الأغنية العراقية، لتصبح غير مقتصرة على أناس دون غيرهم.تلك العملية كانت أكثر رسائله الفنية وضوحا، وقد سعى بكل جهده إلى إيصالها، مستخدما طريقته الخاصة التي يقتنع بها.
وفي ذلك يستعرض الباحث فلاح الخياط مقامات أغنيات الغزالي وبعض أغنياته بالقول: «الغزالي لم يغنّ الأغنية العاطفية والمقام والأغنية البغدادية والموّال فحسب، بل أدى كثيرا من الأغاني الوطنية منها أغنيات احتفظ بتسجيلاتها شخصيا، وهي غير موجودة حتى في الإذاعة.
ومن تلك الأغاني «تسلم يا عبدالكريم» و«يا ابن البطولة»، وهناك أغنية لا أتذكر اسمها أداها مع الفنانة أحلام وهبي (دويتو) وقدّمها عام 1960، كذلك غنّى أوبريتا من ألحان رضا علي، وإضافة إلى ذلك أنشد التراث العراقي، فحبّب للعراقيين حفظ تراثهم، وجذب الآذان العربية إلى هذا التراث، وغنّى أروع القصائد مُتقنًا اللغة العربية الفصحى، وناطقًا لحروفها دون خطأ يُذكر.
مسلسلات وفرق موسيقية لإحياء ذكرى الغزالي
قُدّمت أعمال فنية عدة تتحدث عن حياة الفنان ناظم الغزالي، واعتبر مسلسل السفير أبرزها، حيث أدى دور البطولة فيه مجسدا شخصية ناظم، المطرب سعدون جابر، الذي عبّر عن بتخليد ذكرى سفير الأغنية العراقية، مشيرا إلى أن التجربة أغنته موسيقيا وغنائيا، فالمقامات التي قدّمها في العمل بعيدة عن صوته وأدائه وتجربته.أما المطربة العراقية سليمة مراد (زوجة الغزالي) فقد قُدّم مسلسل درامي يحمل اسمها، ويتناول سيرة حياتها، وجسدت فيه الفنانة آلاء حسين شخصية سليمة مراد، فيما جسّد شخصية ناظم في العمل الفنان الشاب علي عبدالحميد، كما أسس الفنان العراقي نجاح عبدالغفور فرقة الغزالي للتراث عام 1996 في يوم ذكرى وفاة ناظم الغزالي، لإحياء تاريخه وتراثه والحفاظ عليه.
الغزالي ذو الحظ العاثر كان قريباً من التعاون مع عبدالوهاب
اعتبر العديد من متابعي الفنان العظيم ناظم الغزالي من صحافيين وموسيقيين، وأقرب الناس إليه أنه ذو حظ عاثر، فهو لم ينجب على الإطلاق، وتوفيت زوجته بعد عزلة عاشتها من بعده في اليوم الأول من الشهر الأول من عام 1974، أما بيته المتواضع قرب مستشفى دار السلام، فقد سكنه أناس آخرون.ويؤكد صديقه الصحافي حميد المحل (زميله السابق في فرقة الزبانية)، أنه كان سيئ الحظ بشكل عام، فقد تمنّى أشياء كثيرة لم يستطع تحقيقها، إذ كانت أمنيته أن يصبح ضابطا، لكنه سقط في الكشف الطبي لقِصَر قامته، وكان أمله أن ينجح كموظف، لكنّ الموردين خلطوا الدقيق الذي كان يسلّم إليه بنوى البلح المطحون، فلما أَبلغ عنهم فُصلَ من الوظيفة. وغدت أولى أمنياته أن يغنّي فلمّا وصل الى القمة، توفي.
ويضيف: هناك أمنية أخرى عاشت بين حنايا ناظم، ولا يعلم بها أحد إلا بطلاها، فقد التقى في باريس المطربة وردة فأحبها، وكان مقدّرا للحب أن يصل بهما إلى الزواج، لولا اكتشاف سليمة للقصة، وتدخّلها لإنهائها على عكس ما كان يتمنى، وفقا لمجلة الصياد.
أما حظ محبيه العاثر، فكان بعد سطوع النجم الجديد عربيا، وتلقّف الفنان محمد عبدالوهاب لصوته، فسعى الأخير إلى التعاون مع الغزالي بإدماج صوته مع إيقاعات ألحانه. ورحَّب الأخير بشدة بهذا المشروع الفني الكبير، لكن كان للقدر رأي آخر، فقد تُوفي الغزالي قبل إتمام المشروع، لتخسر الموسيقى العربية تعاونا من نوع فريد.
* دمشق - شادي عباس