هطلت الأمطار الغزيرة، لتكشف عمق الأزمة التي تمرّ بها البلاد. انهمرت الأمطار علينا ربما بغزارة أكثر قبل 26 عاماً، وكانت أيضاً كاشفة لحالة التردّي غير الظاهرة.
كنّا حينها في جامعة الكويت بالعديلية، التي حاصرتها الأمطار، وعلى الرغم من ذلك قررت الذهاب لمحاضرتي التي كانت مسائية، فلربما يأتي الطلبة، ومن غير الملائم ألّا أكون موجوداً، وعندما وصلت إلى قاعة المحاضرة، لم أجد إلا بضعة كراسي تسبح في أركان القاعة، كانت الأوضاع أصعب من أن تُوصف.
ومن غرائب الأمور أن الجدل حول ما أحدثه المطر في جسد البلاد حينذاك، كان هو ذات الجدل الذي يحدث الآن، فهو كلام مكرر، كما هو الحديث عن الإصلاح السياسي، أو إصلاح الطرق، فهذا مرتبط بذاك، فالمطر حينذاك، كما هو الآن ليس إلا كاشفاً لحالة التردي.
هل بالإمكان التفاوض مع المطر للتخفيف من حالة الانكشاف السياسي المزرية التي نمرّ بها؟ والتي يشارك بها الجميع، كلٌّ بقدر صلاحياته؟
أما آن للسلطة أن تستوعب عمق المأساة التي تمرّ بها البلاد، وتغيّر النهج بالكامل؟ أما آن لزعماء السياسة أن يركزوا خارج الصندوق بدلاً من تكرار متلازمة «ارحل يا فلان»... «ما أنا براحل»؟ ثم يرحل فلان، ويأتي فلان آخر، وتتكرر الملهاة ذاتها، التي يستمتع بها العاجزون.
يرحل الراحلون، ويتحول المطر عندنا من ظاهرة طبيعية إلى سياسية، ليؤكد لنا أنه غير قابل للتفاوض، وأنه عندما تدقّ الساعة الطبيعية فإنه سيهطل، ويظل يهطل حتى يكشف عيوبنا جميعاً، الظاهر منها والمستتر، ويعود السياسيون إلى تكرار لعبتهم المملة، العاجزة، التي لا تستجيب لشيء.
الحقيقة هي أن التفاوض بين البشر أجدى وأكثر قابلية لتحقيق النتائج، وفي المقابل فإن الشعور بالإحباط والملل والضجر عند الناس، قد يتحوّل إلى قوة ضاربة، قد تنتج جيلاً مختلفاً، قادراً على تحريك الأمور، بدلاً من حالة الضياع المستمرة، المهزومة.
من غير الممكن التفاوض مع المطر، برمزيّته، فذلك أمر يحتاج إلى خيال وإبداع سياسي خارج الصندوق، وهو غير متوافر لدى الفاعلين السياسيين على الضفتين الحكومية وغير الحكومية، فلعلّ الأجدى أن نتواضع، وندع الغرور والعناد جانباً، لعله بالإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
قد تكون موجة المطر القادمة سياسية جارفة، وقد يأتي منها التغيير... مَن يدري؟!