باتت المطالب الشعبوية غير المنطقية ذات الكلفة المالية أو الخدمية العالية ركناً أصيلاً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
وتعمقت أزمة المطالب الشعبوية في البلاد إلى درجة أنها تحولت لميدان منافسة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية خلال السنوات القليلة الماضية، لكسب ودّ وولاء المواطنين والمحافظة على «كرسي» الوزارة أو البرلمان - وهو ما تبين فشله لاحقاً - حتى تولت وسائل التواصل الاجتماعي المهمة من خلال المشاركة المؤثرة في خلق موجة مطالبات شعبوية جديدة تصعب مقاومتها بدولة عجزت عن تقديم نماذج نجاح حقيقية، فعوّضت إخفاقها بالاستسلام للمشاريع الشعبوية قصيرة الأثر عميقة الضرر.
فمن تأجيل أقساط القروض مرتين، إلى مكافأة للصفوف الأمامية، وأخرى للمتقاعدين، ثم بيع رصيد الإجازات - وهذه كلها مبادرات تجاوزت قيمتها 3 مليارات دينار تبنتها حكومات كان يفترض أن تعارضها - فمحاولة نيابية اتخذت طابع الجدية لإسقاط القروض أو ما يعرف بشرائها، وصولاً إلى المطالبات بعطلة «العشر الأواخر من رمضان» مع الأخذ بعين الاعتبار أن جعبة المقترحات الشعبوية كتوزيع جزء من عوائد الصندوق السيادي على المواطنين، أو إسقاط فوائد القروض عن المقترضين ناهيك عن مقترحات متنوعة بشأن زيادة علاوات الأولاد أو رفع مخصصات إعانات ذوي الإعاقة تضعنا أمام وضع لا يقتصر على مجرد بيان الضرر المالي أو الخدمي على الدولة والمواطنين إنما بمعالجة أصل الخلل لا نتائجه.
المحفز الأول
لذلك يجب الاعتراف بأن المحفز الأول للمطالبات الشعبوية المكلفة مالياً أو خدمياً أو حتى تلك التي تتساهل في تطبيق القانون، هو فشل الدولة منذ سنوات طويلة في تقديم نموذج نجاح حقيقي يلمسه المواطن فيعرف من خلاله قيمة المال والجهد عند توظيفهما في مواضعهما السليمة التي تحقق عوائد اقتصادية للمجتمع والدولة، إذ مرّت على البلاد سنوات طويلة منذ مطلع الألفية الحالية بفوائض مليارية استثنائية لم يُنجز فيها مشروع واحد يحمل صفة الاستدامة، فلا أنجز ميناء مبارك الكبير أو حتى البدء بمدينة الحرير أو تم تنفيذ مطار الكويت الجديد في وقته المحدد، وبات تسجيل الكويت الترتيب الأخير خليجياً في أي منحى يتعلق بالاقتصاد والتنمية والأعمال أمراً مكرراً، فيما تحول الخدمات الأساسية في البلاد كالسكن والتعليم والصحة والطرق رغم الإنفاق المتضخم عليها كلها إلى إخفاقات واضحة يعانيها الاقتصاد والمواطن.
إخفاق وفساد
ومع هذه الإخفاقات، تصاعدت وتيرة ملفات الفساد المالي في البلاد، ما بين قضية «مدير التأمينات» وصندوقي «الجيش» و»الماليزي» و«ضيافة الداخلية» و«النائب البنغالي» وغيرها، علاوة على تحوّل نماذج الفشل الإداري في جودة الطرق وزحامها اليومي إلى واقع يعايشه الجميع دون أدنى قدرة من الدولة على المعالجة، كل هذه العوامل سوّقت الخطاب الشعبوي وجعلته مبرراً لدى شرائح كبيرة منها فئات مرتفعة الدخل والتعليم خصوصاً أن جانباً مهماً من تنامي انتشار هذه المطالب يرجع إلى ضعف مؤسسات الدولة في الشرح والتنفيذ خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتداول أرقام أو بيانات مغلوطة لا تجد من يوضحها للرأي العام.
صمت وتضليل
فمثلاً، شهد مجلس الأمة قبل أسابيع جولة جدية كادت أن تنجح لإسقاط القروض أو ما يعرف بشرائها، وسط تسويق أرقام مغلوطة عديدة أبرزها عن حجم القروض المراد إسقاطها بقيمة 1.8 مليار دينار فقط دون أن تبادر أيّ من الجهات المعنية كوزارة المالية أو بنك الكويت المركزي لتوضيح هذه الارقام وبيان أن الرقم أعلاه مرتبط بالقروض الاستهلاكية فقط وأن قروض المواطنين في لدى البنوك (الشخصية أو المقسطة) تبلغ 12 مليار دينار أي بإجمالي يقارب 14 ملياراً لكل قروض المواطنين في البنوك، وأن سداد أو شراء هذه القروض من المواطنين سيتطلب دخول الدولة في الدين العام بفوائد تصل إلى 7 مليارات دينار، أي إن كلفة السداد الكامل لقروض المواطنين في البنوك ستصل إلى 23 ملياراً، ناهيك عن الأضرار الاقتصادية والمالية الأخرى المتعلقة بالتضخم أو الضغط على مالية الدولة وأصولها وهي إيضاحات لو أُعدت ضمن حملة توعية مدروسة لتمكنت من استقطاب شرائح واسعة من المجتمع ضللتها الأرقام والمعلومات المغلوطة.
استخدام اللجان
واللافت في هذا السياق، ليس عجز مؤسسات الدولة فقط عن مواجهة المقترحات الشعبوية بل أيضاً استخدام هذه المقترحات خلال أي أزمة سياسية تحدث بين الحكومة والمجلس، فتتصاعد هذه المطالبات، وتتعدد لجان الضغط، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمطالبات المتقاعدين أو القروض الباهظة مالياً لتقويض أعمال المجلس أو إحراج الحكومة أو ربما كليهما، وهنا تدفع الدولة ضريبة استخدام الشعبوية في مواجهة أزمة سياسية بمئات الملايين من الدنانير.
عندما تتأخر الدولة في بدء العام الدراسي نحو شهر كامل مقارنة بسنوات ما قبل كورونا أو تجعل ما تعارف عليه بـ «عطلة 15» أكثر من 50 يوماً، فإنها بذلك تدعم من حيث لا تدرك عطلة الـ 10 الأواخر من رمضان، أو أي تقصير للسنة الدراسية التي باتت الأقل من حيث المدة مقارنة حتى بدول مجلس التعاون الخليجي، لأن الوزارة المعنية بالعملية التعليمية أصلاً غير مهتمة بجودة التحصيل الدراسي لطلابها.
وعندما تحارب الدولة المبادرين سواء في المشروعات الصغيرة أو القطاع الخاص كي توجههم نحو التوظيف في القطاع العام مهما تجاوز الاحتياج فإنها، أي الدولة، تعمل على خفض الإنتاجية بالتالي تكون المطالبة بعطلة الـ 10 الأواخر نتيجة منطقية حتى ولو تكن مبررة!
لقد باتت المطالبات الشعبوية مرتبطة بشكل وثيق مع الإخفاق والإهمال الحكومي المتراكم في إدارة شؤون الدولة لدرجة أنه قد يكون عجز وزارة الداخلية عن السيطرة على الزحام المروري سبباً في ترويج أو ربما اقرار عطلة الـ 10 الأواخر من رمضان.