معدل استهلاك المياه للفرد في الكويت مرتفع، وإذا نظرنا «بعقلية التاجر» لا المحاسب فإن الفرد يدفع فاتورة المياه المستهلكة، فما أهمية أن يقتصد الفرد في استهلاك المياه؟
رحلة البشرية للحصول على المياه النظيفة تجيب عن هذا التساؤل، فقد بدأت هذه الرحلة عندما استنسخت المدن الأوروبية أنظمة شبكات مياه الشرب وقنوات الصرف الصحي التي استحدثتها شعوب الرومان قبل 2500 سنة، وكان الهدف هو بناء مدن حضرية يتجمع فيها الناس للتبادل التجاري وتوفير الأمن، مما اقتضى نقل مياه الشرب من خارج المدن إلى الداخل وإزالة مخلفات مياه المجاري من الداخل إلى الخارج، كانت مخلفات المجاري الصلبة تُفرَز قدر المستطاع ليسهل التخلص من مياه الصرف في أقرب مجرى مائي، ولكن مع اتساع المدن أصبحت الروائح لا تطاق، كما انتشرت العديد من الأوبئة بسبب دخول مياه الصرف المحملة بالجراثيم على مياه الشرب والغذاء.
فتمت إضافة مادة الكلور لمعالجة مياه الصرف وإزالة الروائح الكريهة، فقد كان يُعتَقَد بأن إضافة الكلور تزيل رائحة الصرف الصحي فقط، ولكن ثبت فيما بعد بأنه مادة معقمة تقتل الجراثيم، فأصبح ثاني أعظم اختراع بشري للحضارة بعد شبكات وقنوات صرف المياه وذلك لإسهامه في مكافحة الأوبئة الفتاكة التي لوحظ انتشارها على نحو واسع مثل الكوليرا والتيفوئيد، فبدأ استخدام الكلور منذ القرن العشرين بشكل أساسي لمعالجة مياه الصرف، ومن ثم ارتفع معدل عمر الإنسان بسبب القضاء على هذه الأوبئة.
أدى ظهور الأسمدة الكيميائية المصنعة ونقص الاعتماد على الأسمدة من مخلفات المجاري الصلبة إلى انخفاض عملية تدوير هذه المخلفات وتدهور البيئة، مما استدعى استحداث وسائل معالجة أكثر تطورا كبناء محطات المعالجة المركزية التي تعتمد على خزانات ترسيب العوالق واستخدام البكتيريا المفيدة لالتهام المواد العضوية المذابة في مياه المجاري، كما لوحظ أثر التعرض الطويل الأمد لمشتقات مادة الكلور على صحة الإنسان، فتم اللجوء إلى طرق أخرى لتعقيم المياه، ولكن ظل استخدام الكلور الخيار الأمثل والأرخص والأقل ضررا عبر التاريخ.
أصبحت المياه المعالجة نقية بحيث إنها لا تقتل الكائنات البحرية مباشرة عند تصريفها في الموارد المائية بجانب المدن ذات الكثافة السكانية العالية، ولكنها ما زالت تحتوي على ملوثات ضارة أخرى تلتهمها الأسماك، كما ارتفعت تكلفة معالجة مياه الصرف بسبب أعمال الصيانة المتكررة لمحطات المعالجة القديمة وزيادة الإنتاج بسبب زيادة الكثافة السكانية، وساهم التغير المناخي في ارتفاع تكلفة معالجة المياه بسبب كثرة الأمطار والفيضانات في أجزاء عديدة من الكرة الأرضية والتي تزيد تدفق مياه المجاري في أنظمة شبكات الصرف القديمة، وأيضا بسبب الجفاف في أجزاء أخرى من الكرة الأرضية والذي أدى إلى نقص إمدادات موارد المياه الطبيعية وزيادة الطلب على توفير المياه المعالجة، فبدأت ثورة جديدة لمرحلة تهدف لتحسين جودة إنتاج المياه ورفع كميتها بتكلفة أقل.
كان التوجه لضخ مياه الصرف في آبار المياه الجوفية لتخفيف تركيزها من جهة والسماح للطبيعة بالمساهمة أكثر في تعقيمها من جهة أخرى، ولكن جاء التخوف من ارتفاع تركيز مشتقات الكلور والملوثات الضارة الأخرى في المياه الجوفية، فتم التوجه لمعالجة مياه الصرف باستخدام طريقة التناضح العكسي التي ثبتت كفاءتها لإزالة معظم المواد المذابة، كما تم استخدام هذه الطريقة بالإضافة لطريقة التقطير متعددة المراحل من أجل تحلية مياه البحر الأنقى من مياه المجاري، بالرغم من ارتفاع تكلفة تحلية مياه البحر التي تحتوي على نسبة كبيرة جدا من الأملاح المذابة والتي تتطلب بذل طاقة كبيرة لإزالتها، وبالرغم من العديد من المشاكل البيئية المصاحبة كمشكلة التخلص من مشتقات عملية التحلية من المياه الحارة والأملاح عالية التركيز.
تأتي أهمية أن يقتصد الفرد في استهلاك المياه لكي تتمكن محطات معالجة وتحلية المياه من خفض الإنتاج والمحافظة على البيئة، وتكمن الصعوبة في إمكانية إقناع الأفراد بهذا السلوك من قِبَل القطاع الحكومي غير الهادف للربح والقطاع التجاري الذي يعتمد على خلاف هذا المنطق لتحقيق أرباحه، وقد يتحقق هذا الهدف إذا تم إعطاء القطاع التجاري دوراً للمساهمة في المبيعات إن هو تمكن أولا من تقليل معدل استهلاك المياه للفرد.
* أستاذ موارد المياه، قسم الهندسة المدنية، جامعة الكويت.