نشأتُ على الطرف الجنوبي من شيكاغو، ولم أكن أعرف ولو شخصاً واحداً في قطاع الصحافة، وما كنتُ أهتم كثيراً بأحداث العالم خارج أقرب ملعب إلى منزلي. لكني كنتُ أقرأ الأخبار الرياضية والكتب الهزلية يوم الأحد. كان والداي مهاجرَين يهوديَين: والدي إيسادور من ليتوانيا، ووالدتي دوروثي من بولندا. هما وصلا إلى جزيرة «إيليس» خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى وتوجّه كل واحد منهما إلى شيكاغو بطريقة ما، ثم التقيا هناك وتزوّجا.
لا أظن أن أيّاً منهما تجاوز مرحلة الدراسة الثانوية بعد وصولهما إلى الولايات المتحدة، إذ دائماً اجتهدا لتأمين المعيشة وإعالة العائلة. هما أنجبا توأمَين: وُلِدت شقيقتاي، فيليس ومارسيا، في العام 1932، قبل خمس سنوات من ولادتي أنا وشقيقي التوأم آلن. لم يفهم أيٌّ منا بالكامل ما دفع والدَينا إلى ترك عائلتيهما ومسقط رأسيهما لخوض رحلة طويلة نحو الولايات المتحدة. لم نناقش هذه المسألة معهما يوماً، مثلما امتنعنا عن التطرّق إلى موضوع افتقارهما إلى التعليم الرسمي.
كنا ننتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا. كان والدي يملك متجراً لتنظيف الملابس في جادة إنديانا، على الطرف الجنوبي من شيكاغو. أخبرني والدي بأنه كسب بعض الدولارات القيّمة بعد وصوله إلى الولايات المتحدة في بداية العشرينيات عبر عزف أغاني العصافير على الكمان. كانت تلك المعلومة مجرّد قصة عابرة إلى أن أجْبَرنا، أنا وأخي، على أخذ دروس لعزف الكمان في فترة بعد الظهر من أيام الأحد مع ديفيد مول الذي كان حينها عازف كمان مع «سمفونية شيكاغو»، تزامناً مع نهاية الحرب. كنت أتسكع هناك مع شقيقي بطريقة مثيرة للشفقة طوال ساعة تقريباً، ثم يعزف مول ووالدي لحناً مشتركاً بشكلٍ متكرر. كان والدي يدخّن ثلاث عُلَب سجائر من نوع «لاكي سترايك» يومياً، وقد أصيب بسرطان الرئة الحاد حين كنتُ في السادسة عشرة من عمري. استمر مرضه أكثر من سنة وتحوّل في نهاية المطاف إلى سرطان في الدماغ. كُلّفتُ أنا بالاعتناء به لأنني لم أكن أخاف من إثارة استيائه بقدر الآخرين، أو التعرّض للضرب بآلة تسنين جلدية كان يستعملها لشحذ الشفرة المستقيمة التي يستخدمها لحلق ذقنه في كل صباح. توفي والدي عن عمر 49 عاماً، بعد شهر على تخرّجي أنا وشقيقي في المدرسة الثانوية.
أخلاقيات العمل
تلقّيتُ درساً مبكراً عن أخلاقيات العمل بعد أسابيع قليلة على وفاة والدي من بيني روبنشتاين، رئيس الهيكل المحلي في حيّنا القديم. كان بيني في أواخر الثمانينيات من عمره. قال لي: «سيمور، أصبحتَ الآن رجل البيت ويجب أن تعتني بوالدتك. دعني إذاً أعطيك بعض النصائح بصفتي رجل أعمال. اقْضِ عليهم قبل أن ينالوا منك»! شعرتُ بارتباك شديد. هل كان يتكلم عن النازيين أم عن شركاء العمل المستقبليين؟ خرجتُ من الشقة في أسرع وقت.
بعد مرور شهر، سِرْتُ في الطريق الوحيد الذي وجدتُه أمامي: بما أنني كنتُ أكره العلوم وأنبهر في المقابل بالروايات والتاريخ، قررتُ دخول كلية للمبتدئين لمدة سنتين.
كان جدول عملي في منتصف الأسبوع يفرض عليّ أن أفتح متجر العائلة في الساعة السابعة، ثم أقود لبضعة أميال نحو الجنوب، باتجاه الكلية، لحضور الصفوف بعد قدوم من يساعدني في العمل.
أتذكر أنني كنت أمرّ برواق مركزي خافت يقود إلى صفوف خشبية رطبة كانت تُستعمَل في الأصل لتعليم الملاحة ومهارات أخرى للرجال الذاهبين إلى الحرب. كنتُ أكره حصص الرياضة الإلزامية التي تُجبِر الفتيان على الركض، أو محاولة قطع ربع ميل يومياً في أقل من دقيقة واحدة. لم أكن أعرف أحداً في الكلية ولم أُقِم أي صداقات هناك. كنت أكتفي بالقيادة، وحضور الحصص، والركض حول مسار معيّن، ثم العودة إلى المتجر.
لننتقل إلى العام 1983، خلال الأشهر التي تلت نشر كتابي The Price of Power (ثمن القوة) الذي يطرح نظرة نقدية عن مسيرة هنري كسنجر في البيت الأبيض. كنتُ أعمل في العاصمة واشنطن وأعيش زواجاً سعيداً مع ثلاثة أولاد، وكنتُ قد نسيتُ الأيام التي أمضيتُها في كلية «نيفي بير».
أحدث الكتاب ضجة واسعة وانقسمت الآراء حوله بين مؤيّد ومعارض، وأنتج سيلاً من الرسائل. تلقّيتُ أحدها من أستاذ في جامعة إلينوي اسمه بيرنارد كوغان، فعرّف عن نفسه قائلاً إنه نال حديثاً شهادة دكتوراه باللغة الإنكليزية من جامعة شيكاغو، وكان يعطي دورات في الأدب الحديث، في خريف العام 1954، في كلية «نيفي بير». بدأت رسالته بالشكل التالي: «حضرة السيد هيرش، أنا واثق من أنك لا تتذكرني». لم أكن أتذكّره فعلاً، حتى بعدما شرح لي سبب رسالته. أضاف قائلاً: «لقد تدخّلتُ في حياتك بطريقة لم أفعلها إلا مرتَين خلال مسيرتي. تدخّلتُ في المرة الأولى نيابةً عن شاب أصبح جرّاحاً وأنقذ حياة الكثيرين. أما التدخل الثاني، فحصل معك. أنا فخور بكما معاً». لم أفهم ما كان يعنيه. لكن حين أعدتُ قراءة الرسالة، تلاحقت الذكريات في عقلي فجأةً وتدفقت الدموع من عينيّ. حصل ذلك قبل ثلاثة عقود. كانت الحصة قد انتهت للتو. كنتُ أحاول الاختباء في صف خلفي كالعادة قبل الاندفاع نحو الباب، فناداني كوغان وطلب مني أن أحضر للتكلم معه. شعرتُ بقلق شديد ورحتُ أتساءل عن الخطأ الذي ارتكبتُه. تقدّمتُ نحوه فسألني فوراً: «ما الذي تفعله هنا»؟ «ما الذي تفعله هنا»؟ أتذكّر أنني فهمتُ ما يعنيه بدقة. كنتُ أطرح هذا السؤال على نفسي منذ أسابيع. رداً عليه، رحتُ أتمتم كلمات مفادها أن والدي مات واضطررتُ لإدارة متجر عائلتي. لم أكن أتذكر تفاصيل إضافية حتى تحضير هذه المذكرات. سرعان ما تذكّرتُ أنني كتبتُ قبل أسبوع موضوعاً يقارن بين رواية للكاتب البريطاني سومرست موغام ورواية أميركية معاصرة للكاتب فرانسيس سكوت فيتزجيرالد. أعاد لي كوغان الورقة مع علامة ممتاز ومجموعة من التعليقات اللطيفة عليها. صدمني كوغان حين سألني عن استعدادي لمقابلته في مكتب القبول في جامعة شيكاغو في أسرع وقت ممكن. ذهبتُ لمقابلته وخضعتُ لامتحان الدخول الذي أجراه جميع المرشّحين في ذلك اليوم، وتم قبولي بعد فترة قصيرة، ونُقِلت إلى الجامعة فوراً لأن الفصل الدراسي الخريفي كان قد بدأ للتو.
شعرتُ بالراحة هناك لأن المواد ركّزت على التفكير النقدي ومنهجه الدراسي الأساسي الذي لا يرتكز على الكتب المدرسية بل على أبحاث أصلية للأكاديميين وواضعي النظريات.
الأهم من ذلك هو أن العلامة النهائية لعدد كبير من الحصص كانت تستند حصراً إلى امتحان خطّي تتراوح مدته بين أربع وست ساعات. دائماً كنتُ قادراً على الكتابة وقول ما أريده منذ المحاولة الأولى، وسمحت لي هذه المهارة بنيل علامات تفوق ما كنت أستحقه على الأرجح في أيام الجامعة.
بالعودة إلى الدكتور غوكان المدهش، سافرتُ إلى شيكاغو لمقابلته بعد تلقي رسالته ببضعة أسابيع ولإلقاء كلمة، بطلبٍ منه، أمام فرع شيكاغو من جمعية الشرف الأكاديمية «فاي بيتا كابا» التي أسّسها في أواخر السبعينيات.
ثم قررتُ بعد تلك المرحلة أن أشارك في أكبر عدد ممكن من المحاضرات أو النقاشات خلال الفصول الدراسية من أجل هؤلاء المعلّمين الذين يحملون أسئلة عن السياسة الخارجية الأميركية في منطقة واشنطن، سواء كانوا في الجامعات أو المدارس الثانوية.
وذكر أنه وجد الوقت للدراسة، «ولعبتُ البيسبول طوال سنة أو سنتين، وانضممتُ إلى منظمة أخوية، وحاولتُ فهم الفتيات، ونضجتُ مع مرور الوقت»، لافتاً إلى أن أمه «تستحق الإشادة أيضاً لأنها زادت اهتمامها اليومي بإدارة المتجر حيث بدأ العمل يتراجع بوتيرة ثابتة لكنه تابع درّ ما يكفي من المداخيل لإعالتنا».
ويوضح أنه لم تكن له أي علاقة بالصحافة حينها، «باستثناء تعلّم حل الكلمات المتقاطعة في صحيفة نيويورك تايمز أو النظر إلى العناوين الرئيسة، وبحلول عام 1958، واقتراب موعد تخرّجي أنا وآلن، لاحت الحرية في أفق حياتي أخيراً، إذ التزم آلن بوعوده بكل أمانة، فتسلم وظيفة في مجال الهندسة في سان دييغو، وانتقل إلى هناك مع زوجته، وجهّز شقة مجاورة لوالدتنا. وانتقلتُ إلى غرفة في الطابق السفلي مقابل 12 دولاراً في الأسبوع في هايد بارك، بأحد الأحياء الواقعة على الطرف الجنوبي للجامعة، كانت تلك التجربة مبهرة على مستويات عدة».
ويروي أنه بعد نيل شهادته باللغة الإنكليزية، لكن من دون مرتبة الشرف، «عجزتُ عن إيجاد وظيفة محترمة خلال الأشهر القليلة اللاحقة، كنتُ مهتماً بالعمل في شركة «زيروكس» التي كانت في تلك الفترة على بُعد سنة من تسويق أول آلة نسخ تجارية، ولا أتذكّر من أخبرني عن هذه الشركة، لكن اتّضح لي بحلول نهاية الصيف أنها لا تهتمّ بتوظيفي. كان ديفيد كاري واحداً من أصدقائي المقرّبين في الجامعة، وهو لاعب بيسبول وابن برينيرد كاري، عالِم قانون بارز وأستاذ في كلية الحقوق التابعة لجامعة شيكاغو. كان ديفيد قصد كلية الحقوق في جامعة «هارفارد» قبل سنة، ثم عمل كمحرر لدى القاضي فيليكس فرانكفيرتر في المحكمة العليا، وعاد وأمضى أكثر من أربعة عقود وهو يُعلّم في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو، عندما ذهبتُ لرؤية والده وشرحتُ له أنني أردتُ أن أدخل إلى كلية الحقوق نفسها في أواخر الصيف، أنهى البروفيسور كاري الموضوع خلال بضعة أيام، وعلى غرار بيرنارد كوغان، يبدو أنه آمن بقدراتي في تلك الفترة أكثر مما كنتُ أؤمن بنفسي».
ويذكر أن هذه التجربة بدت ممتعة، «فقد أخبرني لايسي أيضاً بأن مكتب «سيتي نيوز» يستعمل آليتَين للتوظيف نظراً إلى تغيير فريق إعداد التقارير باستمرار: يأتي نصف الموظفين من مدرسة ميديل للصحافة الشهيرة في جامعة نورث وسترن، ويأتي النصف الآخر من حاملي شهادات جامعية يقدّمون طلبات توظيف. قصدتُ مقر مكتب سيتي نيوز في وسط المدينة وقدّمتُ طلب توظيف. أخبرني موظف في قسم النسخ أنهم سيتصلون بي عندما يحين دوري. بعد بضعة أشهر، انتقلتُ إلى شقة مختلفة ولم أفكر للحظة بأن مكتب سيتي نيوز يملك الآن رقم هاتفي القديم. كنتُ أمضي أيامي وأنا أقرأ أعمالاً معاصرة وأخرى قديمة لكتّاب مثل ويليام ستيرون، ونورمان ميلر، وفيليب روث، ونيلسون ألغرين، وجيمس فاريل، وكنتُ أدوّن جميع الكلمات التي لا أعرفها. بقيت رواية The Adventures of Augie March (مغامرات أوغي مارش) الشهيرة للكاتب سول بيول المفضلة لديّ لفترة طويلة، وهي تتمحور حول فتى من شيكاغو يعجز عن تحقيق النجاح مثلي».ويروي أنه في مساء أحد أيام الجمعة، بعد دوام العمل، «تلقّيتُ دعوة للمشاركة في لعبة بوكر في الشقة التي غادرتُها حديثاً ويقيم فيها الآن عدد من طلاب الجامعة. لم أكن أجيد لعبة البوكر، على عكس هؤلاء الطلاب. بقيتُ هناك حتى الساعة الثانية أو الثالثة فجراً وقررتُ أن أنام على كنبة في غرفة المعيشة القديمة التي كنتُ أعرفها جيداً. في صباح اليوم التالي، بعد الساعة التاسعة بقليل، كنتُ أشعر بنعاس شديد حين رنّ الهاتف فجأةً. أجبتُ على الاتصال واكتشفتُ أن محرراً اسمه ريبيرغ يكلّمني من مكتب «سيتي نيوز». كان يبحث عن شخص اسمه هيرش. حين عَلِم أنني هو، سألني إذا كنت لا أزال مهتماً بوظيفة المراسل المبتدئ مقابل 35 دولاراً في الأسبوع وإذا كنت أستطيع بدء العمل فوراً. وافقتُ على العرض. بعد مرور أسابيع، تزامناً مع زيادة اهتمامي بقسم الأخبار، شاهدتُ المحرّر المسؤول عن الأخبار المحلية، والتر ريبيرغ، الذي أمضى خمسة عقود في سيتي نيوز، وهو يبحث عن مراسل جديد. أخذ هذا الأخير كومة الطلبات وبدأ يتّصل بأرقام الهواتف. حين لا يتلقى أي جواب أو يكتشف أن مقدّم الطلب لم يعد يقيم في العنوان المذكور، كان يضع الطلب في أسفل كومة الأوراق. باختصار، بدأت مسيرتي المهنية في عالم الصحافة بسبب لعبة بوكر خسرتُ فيها جميع أموالي».
ويشير إلى أنه لا يتذكر تفاصيل الأشهر القليلة اللاحقة، «فكرتُ بدخول كلية إدارة الأعمال وحضرتُ بعض الحصص فيها، لكني لم أجد ما أريده هناك، عملتُ بدوام جزئي حين كنت في كلية الحقوق، ورحتُ أبيع البيرة والويسكي في متجر «والغرينز» في ضاحية «إيفرغرين بارك»، في أقصى جنوب شرق شيكاغو. ثم تابعتُ العمل نفسه، لكن بدوام كامل، في متجر «والغرينز» في «هايد بارك». في مساء أحد الأيام، حضر كاتبان أُقدّرهما كثيراً من شيكاغو، وهما سول بيلو وريتشارد ستيرن، لشراء الكحول. كنتُ قد حضرتُ ندوة ستيرن عن كتابة الروايات أثناء وجوده في الجامعة، وهو من اختار الطلاب شخصياً حينها لكنه سألني، مثل كوغان، في ذلك المساء: ما الذي تفعله هنا؟»
لا أظن أن أيّاً منهما تجاوز مرحلة الدراسة الثانوية بعد وصولهما إلى الولايات المتحدة، إذ دائماً اجتهدا لتأمين المعيشة وإعالة العائلة. هما أنجبا توأمَين: وُلِدت شقيقتاي، فيليس ومارسيا، في العام 1932، قبل خمس سنوات من ولادتي أنا وشقيقي التوأم آلن. لم يفهم أيٌّ منا بالكامل ما دفع والدَينا إلى ترك عائلتيهما ومسقط رأسيهما لخوض رحلة طويلة نحو الولايات المتحدة. لم نناقش هذه المسألة معهما يوماً، مثلما امتنعنا عن التطرّق إلى موضوع افتقارهما إلى التعليم الرسمي.
كنا ننتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا. كان والدي يملك متجراً لتنظيف الملابس في جادة إنديانا، على الطرف الجنوبي من شيكاغو. أخبرني والدي بأنه كسب بعض الدولارات القيّمة بعد وصوله إلى الولايات المتحدة في بداية العشرينيات عبر عزف أغاني العصافير على الكمان. كانت تلك المعلومة مجرّد قصة عابرة إلى أن أجْبَرنا، أنا وأخي، على أخذ دروس لعزف الكمان في فترة بعد الظهر من أيام الأحد مع ديفيد مول الذي كان حينها عازف كمان مع «سمفونية شيكاغو»، تزامناً مع نهاية الحرب. كنت أتسكع هناك مع شقيقي بطريقة مثيرة للشفقة طوال ساعة تقريباً، ثم يعزف مول ووالدي لحناً مشتركاً بشكلٍ متكرر.
أخلاقيات العمل
تلقّيتُ درساً مبكراً عن أخلاقيات العمل بعد أسابيع قليلة على وفاة والدي من بيني روبنشتاين، رئيس الهيكل المحلي في حيّنا القديم. كان بيني في أواخر الثمانينيات من عمره. قال لي: «سيمور، أصبحتَ الآن رجل البيت ويجب أن تعتني بوالدتك. دعني إذاً أعطيك بعض النصائح بصفتي رجل أعمال. اقْضِ عليهم قبل أن ينالوا منك»! شعرتُ بارتباك شديد. هل كان يتكلم عن النازيين أم عن شركاء العمل المستقبليين؟ خرجتُ من الشقة في أسرع وقت.
بعد مرور شهر، سِرْتُ في الطريق الوحيد الذي وجدتُه أمامي: بما أنني كنتُ أكره العلوم وأنبهر في المقابل بالروايات والتاريخ، قررتُ دخول كلية للمبتدئين لمدة سنتين.
كان جدول عملي في منتصف الأسبوع يفرض عليّ أن أفتح متجر العائلة في الساعة السابعة، ثم أقود لبضعة أميال نحو الجنوب، باتجاه الكلية، لحضور الصفوف بعد قدوم من يساعدني في العمل.
أتذكر أنني كنت أمرّ برواق مركزي خافت يقود إلى صفوف خشبية رطبة كانت تُستعمَل في الأصل لتعليم الملاحة ومهارات أخرى للرجال الذاهبين إلى الحرب. كنتُ أكره حصص الرياضة الإلزامية التي تُجبِر الفتيان على الركض، أو محاولة قطع ربع ميل يومياً في أقل من دقيقة واحدة. لم أكن أعرف أحداً في الكلية ولم أُقِم أي صداقات هناك. كنت أكتفي بالقيادة، وحضور الحصص، والركض حول مسار معيّن، ثم العودة إلى المتجر.
لننتقل إلى العام 1983، خلال الأشهر التي تلت نشر كتابي The Price of Power (ثمن القوة) الذي يطرح نظرة نقدية عن مسيرة هنري كسنجر في البيت الأبيض. كنتُ أعمل في العاصمة واشنطن وأعيش زواجاً سعيداً مع ثلاثة أولاد، وكنتُ قد نسيتُ الأيام التي أمضيتُها في كلية «نيفي بير».
أحدث الكتاب ضجة واسعة وانقسمت الآراء حوله بين مؤيّد ومعارض، وأنتج سيلاً من الرسائل. تلقّيتُ أحدها من أستاذ في جامعة إلينوي اسمه بيرنارد كوغان، فعرّف عن نفسه قائلاً إنه نال حديثاً شهادة دكتوراه باللغة الإنكليزية من جامعة شيكاغو، وكان يعطي دورات في الأدب الحديث، في خريف العام 1954، في كلية «نيفي بير». بدأت رسالته بالشكل التالي: «حضرة السيد هيرش، أنا واثق من أنك لا تتذكرني». لم أكن أتذكّره فعلاً، حتى بعدما شرح لي سبب رسالته. أضاف قائلاً: «لقد تدخّلتُ في حياتك بطريقة لم أفعلها إلا مرتَين خلال مسيرتي. تدخّلتُ في المرة الأولى نيابةً عن شاب أصبح جرّاحاً وأنقذ حياة الكثيرين. أما التدخل الثاني، فحصل معك. أنا فخور بكما معاً». لم أفهم ما كان يعنيه. لكن حين أعدتُ قراءة الرسالة، تلاحقت الذكريات في عقلي فجأةً وتدفقت الدموع من عينيّ. حصل ذلك قبل ثلاثة عقود. كانت الحصة قد انتهت للتو. كنتُ أحاول الاختباء في صف خلفي كالعادة قبل الاندفاع نحو الباب، فناداني كوغان وطلب مني أن أحضر للتكلم معه. شعرتُ بقلق شديد ورحتُ أتساءل عن الخطأ الذي ارتكبتُه. تقدّمتُ نحوه فسألني فوراً: «ما الذي تفعله هنا»؟ «ما الذي تفعله هنا»؟ أتذكّر أنني فهمتُ ما يعنيه بدقة. كنتُ أطرح هذا السؤال على نفسي منذ أسابيع. رداً عليه، رحتُ أتمتم كلمات مفادها أن والدي مات واضطررتُ لإدارة متجر عائلتي. لم أكن أتذكر تفاصيل إضافية حتى تحضير هذه المذكرات. سرعان ما تذكّرتُ أنني كتبتُ قبل أسبوع موضوعاً يقارن بين رواية للكاتب البريطاني سومرست موغام ورواية أميركية معاصرة للكاتب فرانسيس سكوت فيتزجيرالد. أعاد لي كوغان الورقة مع علامة ممتاز ومجموعة من التعليقات اللطيفة عليها. صدمني كوغان حين سألني عن استعدادي لمقابلته في مكتب القبول في جامعة شيكاغو في أسرع وقت ممكن. ذهبتُ لمقابلته وخضعتُ لامتحان الدخول الذي أجراه جميع المرشّحين في ذلك اليوم، وتم قبولي بعد فترة قصيرة، ونُقِلت إلى الجامعة فوراً لأن الفصل الدراسي الخريفي كان قد بدأ للتو.
شعرتُ بالراحة هناك لأن المواد ركّزت على التفكير النقدي ومنهجه الدراسي الأساسي الذي لا يرتكز على الكتب المدرسية بل على أبحاث أصلية للأكاديميين وواضعي النظريات.
الأهم من ذلك هو أن العلامة النهائية لعدد كبير من الحصص كانت تستند حصراً إلى امتحان خطّي تتراوح مدته بين أربع وست ساعات. دائماً كنتُ قادراً على الكتابة وقول ما أريده منذ المحاولة الأولى، وسمحت لي هذه المهارة بنيل علامات تفوق ما كنت أستحقه على الأرجح في أيام الجامعة.
بالعودة إلى الدكتور غوكان المدهش، سافرتُ إلى شيكاغو لمقابلته بعد تلقي رسالته ببضعة أسابيع ولإلقاء كلمة، بطلبٍ منه، أمام فرع شيكاغو من جمعية الشرف الأكاديمية «فاي بيتا كابا» التي أسّسها في أواخر السبعينيات.
ثم قررتُ بعد تلك المرحلة أن أشارك في أكبر عدد ممكن من المحاضرات أو النقاشات خلال الفصول الدراسية من أجل هؤلاء المعلّمين الذين يحملون أسئلة عن السياسة الخارجية الأميركية في منطقة واشنطن، سواء كانوا في الجامعات أو المدارس الثانوية.
كلية الحقوق في جامعة شيكاغو
يروي هيرش في كتابه كيف كانت أيامه في جامعة شيكاغو ممتعة وحماسية... حيث شملت الجامعة عدداً كبيراً من غريبي الأطوار، وكان جزء كبير منهم لامعاً ومتمرداً، كما «كنتُ غريب الأطوار أيضاً لأنني تابعتُ تحصيلي العلمي وإدارة متجر التنظيف العائلي، وكنتُ لا أزال أتقاسم المنزل مع والدتي».وذكر أنه وجد الوقت للدراسة، «ولعبتُ البيسبول طوال سنة أو سنتين، وانضممتُ إلى منظمة أخوية، وحاولتُ فهم الفتيات، ونضجتُ مع مرور الوقت»، لافتاً إلى أن أمه «تستحق الإشادة أيضاً لأنها زادت اهتمامها اليومي بإدارة المتجر حيث بدأ العمل يتراجع بوتيرة ثابتة لكنه تابع درّ ما يكفي من المداخيل لإعالتنا».
ويوضح أنه لم تكن له أي علاقة بالصحافة حينها، «باستثناء تعلّم حل الكلمات المتقاطعة في صحيفة نيويورك تايمز أو النظر إلى العناوين الرئيسة، وبحلول عام 1958، واقتراب موعد تخرّجي أنا وآلن، لاحت الحرية في أفق حياتي أخيراً، إذ التزم آلن بوعوده بكل أمانة، فتسلم وظيفة في مجال الهندسة في سان دييغو، وانتقل إلى هناك مع زوجته، وجهّز شقة مجاورة لوالدتنا. وانتقلتُ إلى غرفة في الطابق السفلي مقابل 12 دولاراً في الأسبوع في هايد بارك، بأحد الأحياء الواقعة على الطرف الجنوبي للجامعة، كانت تلك التجربة مبهرة على مستويات عدة».
ويروي أنه بعد نيل شهادته باللغة الإنكليزية، لكن من دون مرتبة الشرف، «عجزتُ عن إيجاد وظيفة محترمة خلال الأشهر القليلة اللاحقة، كنتُ مهتماً بالعمل في شركة «زيروكس» التي كانت في تلك الفترة على بُعد سنة من تسويق أول آلة نسخ تجارية، ولا أتذكّر من أخبرني عن هذه الشركة، لكن اتّضح لي بحلول نهاية الصيف أنها لا تهتمّ بتوظيفي. كان ديفيد كاري واحداً من أصدقائي المقرّبين في الجامعة، وهو لاعب بيسبول وابن برينيرد كاري، عالِم قانون بارز وأستاذ في كلية الحقوق التابعة لجامعة شيكاغو. كان ديفيد قصد كلية الحقوق في جامعة «هارفارد» قبل سنة، ثم عمل كمحرر لدى القاضي فيليكس فرانكفيرتر في المحكمة العليا، وعاد وأمضى أكثر من أربعة عقود وهو يُعلّم في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو، عندما ذهبتُ لرؤية والده وشرحتُ له أنني أردتُ أن أدخل إلى كلية الحقوق نفسها في أواخر الصيف، أنهى البروفيسور كاري الموضوع خلال بضعة أيام، وعلى غرار بيرنارد كوغان، يبدو أنه آمن بقدراتي في تلك الفترة أكثر مما كنتُ أؤمن بنفسي».
لقاء ولعبة بوكر
يتناول هيرش في كتابه مسيرته في عالم الصحافة، التي بدأت بسبب لعبة بوكر خسر فيها كل أمواله، وانه وجد دراسة القانون مملة «وضجرتُ من كلية الحقوق وسرعان ما اختفيتُ من الجامعة ثم طُردتُ من الكلية بقرار من عميد الجامعة إدوارد ليفي، ثم صادفتُ شاباً كنتُ قد قابلتُه سابقاً لكني لم أستطع تذكّره. كان اسمه بيتر لايسي، وذكّرني بأنه حاول أخذ رقمي منذ سنة تقريباً خلال حفلة. أخبرني بيتر بأنه يعمل الآن لمصلحة مجلة «تايم»، أو ربما ينوي العمل هناك، لكنه بدأ مسيرته المهنية في مجال الصحافة كمراسل مبتدئ في مكتب «سيتي نيوز أوف شيكاغو». علمتُ لاحقاً أن هذه الوكالة أسّستها صحف شيكاغو في بداية القرن لتوظيف مراسلين ميدانيين لتغطية قضايا المدينة وتحقيقات مركز الشرطة. كان هذا المكتب يُركّز على جرائم الشارع التي كانت شائعة جداً في شيكاغو، وأصبحت تقاريره بمثابة مصادر معلومات للصحف الكبرى. كذلك، اعتُبِر ذلك المكتب مصدراً للمراسلين الشباب الطموحين. اشتهر «سيتي نيوز» فترة قصيرة بفضل المسرحية الناجحة The Front Page (الصفحة الأولى) التي تحوّلت لاحقاً إلى فيلم، وكانت من كتابة بن هيشت وتشارلز ماك آرثر.ويذكر أن هذه التجربة بدت ممتعة، «فقد أخبرني لايسي أيضاً بأن مكتب «سيتي نيوز» يستعمل آليتَين للتوظيف نظراً إلى تغيير فريق إعداد التقارير باستمرار: يأتي نصف الموظفين من مدرسة ميديل للصحافة الشهيرة في جامعة نورث وسترن، ويأتي النصف الآخر من حاملي شهادات جامعية يقدّمون طلبات توظيف. قصدتُ مقر مكتب سيتي نيوز في وسط المدينة وقدّمتُ طلب توظيف. أخبرني موظف في قسم النسخ أنهم سيتصلون بي عندما يحين دوري. بعد بضعة أشهر، انتقلتُ إلى شقة مختلفة ولم أفكر للحظة بأن مكتب سيتي نيوز يملك الآن رقم هاتفي القديم. كنتُ أمضي أيامي وأنا أقرأ أعمالاً معاصرة وأخرى قديمة لكتّاب مثل ويليام ستيرون، ونورمان ميلر، وفيليب روث، ونيلسون ألغرين، وجيمس فاريل، وكنتُ أدوّن جميع الكلمات التي لا أعرفها. بقيت رواية The Adventures of Augie March (مغامرات أوغي مارش) الشهيرة للكاتب سول بيول المفضلة لديّ لفترة طويلة، وهي تتمحور حول فتى من شيكاغو يعجز عن تحقيق النجاح مثلي».ويروي أنه في مساء أحد أيام الجمعة، بعد دوام العمل، «تلقّيتُ دعوة للمشاركة في لعبة بوكر في الشقة التي غادرتُها حديثاً ويقيم فيها الآن عدد من طلاب الجامعة. لم أكن أجيد لعبة البوكر، على عكس هؤلاء الطلاب. بقيتُ هناك حتى الساعة الثانية أو الثالثة فجراً وقررتُ أن أنام على كنبة في غرفة المعيشة القديمة التي كنتُ أعرفها جيداً. في صباح اليوم التالي، بعد الساعة التاسعة بقليل، كنتُ أشعر بنعاس شديد حين رنّ الهاتف فجأةً. أجبتُ على الاتصال واكتشفتُ أن محرراً اسمه ريبيرغ يكلّمني من مكتب «سيتي نيوز». كان يبحث عن شخص اسمه هيرش. حين عَلِم أنني هو، سألني إذا كنت لا أزال مهتماً بوظيفة المراسل المبتدئ مقابل 35 دولاراً في الأسبوع وإذا كنت أستطيع بدء العمل فوراً. وافقتُ على العرض. بعد مرور أسابيع، تزامناً مع زيادة اهتمامي بقسم الأخبار، شاهدتُ المحرّر المسؤول عن الأخبار المحلية، والتر ريبيرغ، الذي أمضى خمسة عقود في سيتي نيوز، وهو يبحث عن مراسل جديد. أخذ هذا الأخير كومة الطلبات وبدأ يتّصل بأرقام الهواتف. حين لا يتلقى أي جواب أو يكتشف أن مقدّم الطلب لم يعد يقيم في العنوان المذكور، كان يضع الطلب في أسفل كومة الأوراق. باختصار، بدأت مسيرتي المهنية في عالم الصحافة بسبب لعبة بوكر خسرتُ فيها جميع أموالي».
ما الذي تفعله هنا؟
يتحدث سيمور هيرش في كتابه عن التحول الكبير في حياته الدراسية إلى المهنية «فبعد أن حصدتُ علامات مقبولة خلال عدد من الفصول الدراسية، وجدتُ القانون مملاً وضجرتُ أيضاً من كلية الحقوق التي تُركّز على قراءة القضايا وحفظها، وسرعان ما اختفيتُ من الجامعة بحلول نهاية السنة ثم طُردتُ من الكلية بقرار من عميد الجامعة إدوارد ليفي (سيدخل حياتي مجدداً بعد مرور عقدٍ من الزمن). لم أشعر بأي انزعاج لأنني علمتُ أن العميد اتخذ قراراً صائباً. كل ما يؤسفني هو موت برينيرد عام 1965، من دون أن يشاهدني وأنا أترك بصمتي في مجال آخر».ويشير إلى أنه لا يتذكر تفاصيل الأشهر القليلة اللاحقة، «فكرتُ بدخول كلية إدارة الأعمال وحضرتُ بعض الحصص فيها، لكني لم أجد ما أريده هناك، عملتُ بدوام جزئي حين كنت في كلية الحقوق، ورحتُ أبيع البيرة والويسكي في متجر «والغرينز» في ضاحية «إيفرغرين بارك»، في أقصى جنوب شرق شيكاغو. ثم تابعتُ العمل نفسه، لكن بدوام كامل، في متجر «والغرينز» في «هايد بارك». في مساء أحد الأيام، حضر كاتبان أُقدّرهما كثيراً من شيكاغو، وهما سول بيلو وريتشارد ستيرن، لشراء الكحول. كنتُ قد حضرتُ ندوة ستيرن عن كتابة الروايات أثناء وجوده في الجامعة، وهو من اختار الطلاب شخصياً حينها لكنه سألني، مثل كوغان، في ذلك المساء: ما الذي تفعله هنا؟»