هل للفلسفة مستقبل في منطقة الخليج العربي؟ وهل لها عودة أو تأثير في الحياة الجامعية وما قبل الجامعية كما كانت الحال قبل هيمنة الإسلاميين وانتصار أتباع «الغزالي» على «ابن رشد»؟
كتاب د.عبدالله محمد الجسمي، «أبحاث وأوراق في الفلسفة والفكر والثقافة»، الصادر عام 2020 يضم عدة أبحاث وأوراق قدمها د.الجسمي، منها بحث بعنوان «مستقبل الفلسفة في منطقة الخليج العربي»! ومن أبحاث الكتاب الأخرى «ثقافة الحرية» و«الوجهةُ الفكرية للحركة الوطنية الكويتية»، وهو دراسة قيمة بالغة الأهمية في مجالها، ومن أبحاث الكتاب الأخرى «طه حسين رائد العقلانية النقدية» ومقال عن «حوار الثقافات» ودراسات أخرى، وكلها أوراق أكاديمية لأستاذ الفلسفة بجامعة الكويت وأحد أبرز الباحثين والنشطاء في الحياة الثقافية.
ويرى د.الجسمي أن دول منطقة الخليج العربية تقف اليوم على عتبات مرحلة جديدة من تاريخها، يمكن وصفها بمرحلة ما بعد النفط، ويجدر بالذكر أن ورقة د.الجسمي قد ألقيت في قطر عام 2018 بمناسبة «يوم الفلسفة العالمي» بعنوان «مستقبل الفلسفة في الخليج العربي: المعوقات والآفاق المأمولة».
وتتناول الورقة بداية تأثر الدول الخليجية بالأفكار الحديثة عبر الدول العربية ومثقفيها، إذ إن معظم رواد الإصلاح الديني ممن زاروا الكويت أو أثروا في نخبتها الفكرية وطلابها، «كانوا من المهتمين بالفلسفة والمطلعين على طرق التفكير الفلسفي والداعين إلى الاستفادة منها». (ص286).
وقد ظهرت بعض الإشارات الواضحة إلى الفلسفة في كتب «عبدالعزيز الرشيد» والصحف التي أصدرها، وفي شعر صقر الشبيب، كما كانت النخب التجارية الكويتية على تواصل مع الإصدارات الثقافية والفكرية في القاهرة وغيرها، لعل أبرزها مجلة «المنار» المعروفة التي أصدرها الشيخ محمد رشيد رضا، والتي كانت تحتوي على مقالات عن الفلسفة، ومهدت التيارات السياسية لاحقا والحضور القومي والتعليم النظامي لتداول عدد من الأفكار الفلسفية، إضافة إلى حركة الترجمة النشطة والصراعات الأيديولوجية لزيادة الاهتمام بالأفكار الجديدة، غير أنه ومنذ نهاية سبعينيات القرن، 1970 وما بعدها، «سادت الحركة الأصولية الساحة العربية، وطالب هؤلاء بإغلاق أقسام الفلسفة، واتهموا المهتمين بها أو منظريها بالزندقة، ويأتي رفضهم للفلسفة في سياق رفضهم للحضارة الغربية المرفوضة أصلا عندهم». (ص288-289).
ومن التفاؤل العريض توقع ازدهار الفلسفة في المنطقة العربية والدول الخليجية خاصة! فالفلسفة قد تكون نبتة طويلة المعاناة في البيئة العربية والإسلامية، وكانت هكذا مع اليهودية في حالة «سبينوزا» الذي طُرد من حرم الدين اليهودي، وهكذا المسيحية، وموقف فقهاء أهل السنّة والشيعة على حد سواء، وقد زاد هذا الحصار الفكري الديني المتشدد، إذا أضيف إليه في عصرنا هذا الاضطهاد السياسي في ظل الأنظمة الشمولية القومية والوطنية والعقائدية متاعب نمو الفلسفة وزيادة الحواجز في طريقها.
وكم عقدت أقسام الفلسفة في جامعات العالم العربي المؤتمرات لتشجيع «بعث الفلسفة من سباتها»، وثم إبراز وتقديم بعض المثقفين أو غيرهم كفلاسفة دون جدوى، فالفلسفة فكر رفيع ومجال مستقل يحتاج الى التسامح السياسي والفكري والديني، بينما لا يزال سيف التهديد القانوني المهدد لحرية الفكر معلقا، ولا تزال أحزاب الإسلام السياسي أقوى التيارات الفكرية وأشدها توغلا حتى في عقول بعض المحسوبين من غير «المتشددين» في مجتمعات العالم العربي.
وهذا ما أكده د.الجسمي في ورقته هذه قبل خمسة أعوام عندما أشار إلى وجود معوقات تقف أمام الاهتمام بالفلسفة، فالبعض يرى أن «الفلسفة تنظير وحديث عن أفكار مجردة لا صلة لها بالواقع»، ويعتبر د.الجسمي العائق الثقافي «العامل الأبرز بين المعوقات»، وبخاصة نفورنا من النقد الذاتي، والإصرار على التمسك بالقناعات والمفاهيم المتوارثة، وعدم الرغبة في التغيير، والخضوع الكامل للسلطة الاجتماعية والفكرية والسياسية، وغياب الاستقلالية الفكرية الفردية.
ويرى الباحث أن مجتمعات ما قبل النفط الخليجية كانت أكثر استجابة للتحديات التي تجابهها حتى في سبل عيشها، حيث كانت مجتمعات المنطقة نشطة، «تنتج احتياجاتها وقوتها اليومي بنفسها، كما كان الواقع البيئي الصعب دافعا للاستجابة لمختلف التحديات وركوب الصعاب والمخاطر كالغوص على اللؤلؤ بالوسائل البدائية أو ركوب البحر للتجارة في سفن شراعية»، أما مجتمعات المنطقة اليوم فهي مترفة و«لم تعد تكترث بتطوير نفسها».
ومع هيمنة «القوى الأصولية» أي الأحزاب الإسلامية منذ أربعة عقود، «أدت هذه القوى دوراً كبيراً في الوقوف ضد التوسع في تدريس الفلسفة، بل عملت على إنهاء تدريس بعض مقررات الفلسفة وإغلاق أقسام الفلسفة». (ص293)، غير أن د.الجسمي لا يفقد الأمل بتحسين الحال في ورقته رغم كل المعوقات ضد الفلسفة، ويرى بصيص أمل بل أكثر من بصيص!
فدول الخليج «تقف على أعتاب مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد النفط»- كما توقع الباحث المتفائل، وهناك ميزة أضاف د.الجسمي أن منطقة الخليج تنفرد بها «هي هذا الكم الكبير من البعثات الدراسية إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية»، مما سيكون له الأثر الإيجابي وبخاصة مع انتشار وسائل الاتصالات الحديثة وثورة المعلومات والثقافة الإلكترونية.
وأشار د. الجسمي إلى أهمية الاعتناء بتدريس الفلسفة في الثانوية العامة في سائر الدول الخليجية واتخاذ قرار بفتح تخصص الفلسفة في الجامعات الرئيسة.
لقد شهدت الحياة الخليجية منذ إعداد هذه الورقة تحولات أبرزها الانفتاح السعودي والآمال العريضة التي تُبنى عليه داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، وهي آمال محقة عسى أن تنال الفلسفة منها نصيبها المستحق!
فهل للفلسفة من عودة إلى الخليج والعالم العربي؟