سعيد صالح... نجم الكوميديا المشاغب
• قضية مخدرات زجت به إلى السجن بجوار غرفة الإعدام!
وُلِد سعيد صالح في 31 يوليو 1940، بقرية “مجيريا” بمحافظة المنوفية (شمال القاهرة)، ولعبت المصادفة دورها في دخول الفتى الريفي مجال التمثيل، وكان حينها طالبًا بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وذهب مع زملائه لمقابلة مخرج العرض النجم السينمائي حسن يوسف، وانتبه الأخير إلى هذا الطالب المشاغب الذي لا يكف عن المزاح، وتعطيل البروفة، فنادى عليه وأقنعه بالتمثيل، وبعد نجاح العرض، قدمه يوسف إلى مسرح التلفزيون، ليبدأ مشواره الاحترافي قبل أن يكمل دراسته الجامعية.
وفي عام 1960 حصل الطالب سعيد صالح على ليسانس الآداب، وظهر في أدوار صغيرة على شاشة التلفزيون والسينما والمسرح، وتفجرّت موهبته كفنان كوميدي لا يقلّد أحدًا، واستطاع أن ينتزع الضحك بسهولة من الجمهور، ويرتقي إلى أدوار البطولة.
وبعد سنوات طويلة، تصادف ظهور النجم حسن يوسف في برنامج تلفزيونى نهاية التسعينيات، وفوجئ بمداخلة من الطالب المشاغب، يذكره بأول لقاء معه بجامعة القاهرة، وأنه قبلها لم تكن له علاقة بالتمثيل، ولكن يوسف كان يبحث عن ممثل يقوم بدور كوميدي، وأسند إليه الدور من دون تردد، وصَدَق حدسه أن هذا الشاب في داخله طاقة كوميدية هائلة، ومن الممكن أن يصبح نجمًا كبيرًا في المستقبل.
أول ممثل يُحبَس على ذمة التحقيق لخروجه عن النص
هاللو شلبي
وكان الشاب الموهوب على موعد مع أول بطولة مسرحية في “هاللو شلبي” عام 1969، تأليف يوسف عوف وإخراج سعد أردش، وشارك فيها الفنان عبدالمنعم مدبولي وعبدالله فرغلي ونظيم شعراوي ومجموعة من النجوم الشباب آنذاك منهم أحمد زكي ومديحة كامل ومحمد صبحي، وحققت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.
وكانت “مدرسة المشاغبين” (1973)، تجربة فارقة في مشواره، ولعب فيها صالح دور “مرسي الزناتي” مع النجوم عادل إمام وسهير البابلي وأحمد زكي وحسن مصطفى ويونس شلبي وهادي الجيّار، وأثارت تلك المسرحية الكثير من الجدل، رغم نجاحها الجماهيري، لكنها ظلت نقطة تحوُّل لأبطالها، ولكن مسيرة الضاحك الموهوب حالفها سوء الحظ، وخانه التوفيق في قبول بعض الأعمال السينمائية خلال فترة السبعينيات، والمعروفة باسم “أفلام المقاولات”.
الضحك والرقابة
وتوالت أعمال سعيد صالح في بطولات جماعية مع نجوم آخرين، مثل مسرحية “العيال كبرت” (1975)، وشاركه البطولة يونس شلبي وحسن مصطفى وأحمد زكي وكريمة مختار والممثلة المعتزلة نادية شكري، وفي عام 1983 قدّم مسرحية “لعبة اسمها الفلوس”، وكعادته في الخروج عن النص، قال جملة (أفيه) قلب حياته رأسًا على عقب، واعتبرتها الرقابة نوعًا من الإسقاط السياسي على الحُكم في تلك الفترة، وتعرّض للحبس لمدة ستة أشهر وغرامة 50 جنيهًا.
واشتعل الخلاف بين سعيد صالح والرقابة، ولاحقته تهمة الخروج عن النص والآداب العامة، وأصدر القاضي حكمًا بحبسه احتياطياً لمدة 7 أيام في سجن الحضرة بمدينة الإسكندرية الساحلية، وكانت تلك أول مرة يُحبس فيها فنان احتياطيًا على ذمة التحقيق لخروجه عن النص.
«لعبة اسمها الفلوس» تتسبب في سجنه لمدة ستة شهور
ولاحقت الأضواء النجم السجين، ورفضت المحكمة استئنافه على الحكم، وغرّمته 100 جنيه، وأسقطت حقه بطلب رد القاضي، وأثارت القضية ضجة كبيرة وتنحى القاضي وقتها كونها أصبحت قضية رأي عام، ثم أصدر القاضي المنتخب لمتابعة القضية عبدالوهاب أبوالخير قرارًا بالإفراج عن سعيد صالح بضمان مالي قيمته 100 جنيه، وانهار وقتها باكيًا بعد الحكم بالإفراج عنه.
ودارت تكهنات عِدة حول أسباب حبس سعيد صالح، ونفي الأخير خلال مؤتمر صحافي أن السبب يتعلق بقصة الاستهزاء بالرؤساء، بل لكونه سخر من شخص نائم خلال عرض المسرحية، ولحظه العاثر لم يكن يعلم أن هذا الرجل النائم هو قاضٍ وأنه سيقف أمامه، فقال: “وقعتك سودا يا سعيد.. أقصى عقوبة 50 جنيه”.
وأظهر تقرير الرقابة أن صالح ردّد عبارة منافية للآداب، وأنه خلع بنطلونه على المسرح، وهذا الأمر تصل عقوبته إلى السجن لمدة ثلاث سنوات، ولكنه نفى ما قالته الرقابة، مؤكدًا أنه يحترم جمهوره، وأنه كان يرتدي سروالًا من ذلك النوع الذي يرتديه الفلاحون وليس “بنطلون”.
تقرّب إلى الله في السجن وعاش مئات الحالات الإنسانية مع أبطالها الحقيقيين
حريق كعبلون
وبعد تلك الواقعة، حاول النجم المشاغب أن يخوض تجربة مغايرة تمتزج فيها الكوميديا بمضامين هادفة، وخلال تلك الفترة، أظهر موهبته في التلحين والغناء، وبدا تأثره الواضح بأسلوب فنان الشعب سيد درويش، وقدّم من خلال مسرحية “كعبلون” (1985) بصوته وألحانه قصائد صلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم، وفي ذروة نجاح المسرحية التي لم تخلُ من “أفيهات” وخروج بطلها عن النص، حدث حريق غامض في مسرح “الهوسابير” بالقاهرة، والتهم ديكور “كعبلون”، وأُسِدل الستار على المسرحية، وكادت أن تندثر لولا تسجيلها تلفزيونيًا.
عدم كفاية الأدلة
خرج صالح من تجربة “كعبلون” وحريقها الغامض، من دون أن يتراجع عن ارتجاله في الفن والحياة، وتعرَّض لمواقف أكثر صعوبة، أولها في نوفمبر 1991، حين ضُبِط داخل وكر في حارة “مظهر” بضاحية “السيدة زينب” بالقاهرة، وكان يتعاطى المخدرات مع شخص يُدعى أحمد توفيق وشهرته “النسر” ويرافقه الفنان صبري عبدالمنعم وستة أشخاص آخرون.
أنكر تعاطيه المخدرات لأنه كان قد أقلع عن التدخين
واشتعلت الضجة مرة أخرى، وتناقلت الصحف المصرية والعربية خبر القبض على نجم الكوميديا ورفقته، ونفى المتهمون تعاطيهم المخدرات، وقالوا إنهم كانوا في جلسة تحضير لمسرحية “حلو الكلام”، وأمرت النيابة بحبسهم عدة أيام على ذمة التحقيقات، ثم أخلت سبيلهم حتى برأتهم المحكمة لأسباب شكلية في الإجراءات وعدم كفاية الأدلة.
سجن الحضرة
بلغت تراجيديا النجم الكوميدي ذروتها في يوليو 1995، حين ألقت مباحث الإسكندرية القبض عليه، بتهمة تعاطي المخدرات في إحدى الشقق بضاحية “مصطفى كامل” ومعه بعض زملائه، بعد أن تناولوا وجبة فسيخ (أسماك مملحة)، وكانوا يتأهبون لإجراء بروفات مسرحية “تعال نلعبها”.
وتكرّر حبس سعيد صالح وسبعة من زملائه، وأحيلوا إلى محكمة الجنايات التي قضت في 11 نوفمبر 1995 بحبسه لمدة عام مع الشغل وغرامة 10 آلاف جنيه، كما عاقبت رفاقه حمدي حنفي (مدير أعماله)، وهاشم أحمد محمد، بنفس العقوبة والغرامة، وبرأت المحكمة باقي المتهمين وهم الفنان سعيد طرابيك وشعبان جعفر وسراج الدين محمود المحامي، واستبعدت المحكمة عن سعيد صالح تهمة إدارة مسكن لتعاطي المخدرات.
وكانت فترة “سجن الحضرة” من أصعب فترات حياته، وقضى العقوبة في زنزانة مجاورة لغرفة الإعدام، وأصابه الأرق والفزع، وفقد شهيته للطعام، وكان يتذكر ابنته هند طوال الوقت، ولم يكن النجم السجين معتادًا الاستيقاظ مبكرًا وطلب منهم أن يستثنوه من ذلك، لكن إدراة السجن رفضت.
حريق مسرح الهوسابير يسدل الستار على «كعبلون»
أمضى سعيد صالح فترة العقوبة، وبعد خروجه زعم أنه تم تلفيق القضية له بسبب مواقفه المعارضة التي يقدمها على المسرح، وقال: “اختفيت تمامًا عن السينما والمسرح والفن ككل عام 1996، لسبب بسيط هو أنني كنت في السجن.. وأكون سعيدًا جدًا حينما أتعرّض للسجن في سبيل الدفاع عن موقف أو قضية أؤمن تمامًا بها”.
وأنكر صالح تهمة تعاطي المخدرات، وأنه قُبض عليه أثناء جلوسه مع مجموعة من أصدقائه بمساكن مصطفى كامل بالإسكندرية، ويعرف كل المقربين منه أنه سعى للإقلاع عن التدخين، ولا يوجد مدمن مخدرات ترك التدخين.
تركت تجربة عام خلف الأسوار، أثرها في النجم المشاغب، وأقر أن صحته تحسنت في السجن، لأنه كان بعيدًا عن العمل وضغوطه والمسؤولية بشكل عام، وحينها شعر بأنه أكثر حرية من الآخرين، ومارس لعبة كرة القدم، وقام بأنشطة اجتماعية عديدة، وتعمّقت ثقافته من خلال القراءة، والاستماع إلى الراديو “الترانزستور”.
وكانت شهور السجن فرصة للتأمل والتقرب إلى الله، وعاش النجم المشاغب مئات الحالات الإنسانية مع أبطالها الحقيقيين، واستمع إلى قصص حياتهم المثيرة والمدهشة، ووجد أن كل حالة منها تصلح أن تكون مادة درامية لفيلم أو مسرحية.
وبخفة ظله المعهودة قال: “كنت أتوقع عند دخولي السجن لأول وهلة أنني سأصطدم بـشخصية (أبو شِفة) و(سلومة الأقرع) وغيرهما من الشخصيات الشريرة التي اعتدنا تقديمها في أفلامنا السينمائية، ولكني وجدت الأمر مختلفًا تمامًا، فهناك قدر كبير من الواقعية والمعاناة، وغالبية السجناء تعرضوا لظروف نفسية واقتصادية واجتماعية قاسية أدت إلى دخولهم السجن”.
عندما خرج صالح من السجن، ارتبكت مشاعره تمامًا، وفكّر كيف سيزاول نشاطه الفني بعد تلك العثرات، وقد وصف تلك اللحظات العصيبة بقوله: “شعرتُ بخوف وهزة نفسية، ورغم أن هناك (زَفة) كانت في استقبالي عند الخروج، فإنني كنت أشعر بقلق شديد من داخلي.. وبالفعل عانيت بشدة من الناس وأساليبهم الملتوية وأفكارهم المريضة لدرجة أنني تمنيت للحظة أن أعود مرة ثانية إلى السجن، لكنني أصبحت أكثر قوة وإيمانًا وصلابة، فحياتي قبل السجن كانت شيئًا وحياتي بعده شيء آخر”.
أفلام المقاولات تغيِّر مسار نجم «مدرسة المشاغبين»
الأيام الأخيرة
أنهى سعيد صالح مشواره الفني من خلال ظهوره في عدد من الأعمال كضيف شرف، كان أبرزها مع صديقه النجم عادل إمام في فيلم “زهايمر” (2010)، تأليف نادر صلاح الدين وإخراج عمرو عرفة، وآخرها فيلم “متعب وشادية” (2013)، مع أحمد بدير وعايدة رياض وعلياء كيبالي وإخراج أحمد شاهين.
ومضت الأيام بالمشاغب المحبوب سعيد صالح، وظلت مكانته حاضرة لدى جمهوره العريض في مصر وأرجاء العالم العربي، وفي أيامه الأخيرة اشتدت عليه الأمراض، وأصيب بنوبة قلبية، ودخل في غيبوبة حتى رحيله، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا كبيرًا لا يمكن تجاهله في تاريخ التمثيل الكوميدي.
«كفر أبومجاهد» تفتح أبواب الشهرة للفتى الريفي
انتمى الفنان سعيد صالح إلى أسرة ريفية متوسطة الحال، وكان والده يعمل موظفًا بسيطاً في شركة الغاز، ورغم صعوبة الظروف، اهتم بتعليمه، وأدرك الفتى الريفي قيمة ما يفعله والده من أجله، لذا اجتهد في كل مراحل الدراسة، وحصل على ليسانس الآداب في جامعة القاهرة.وكان من الممكن أن يعمل موظفًا في إحدى المصالح الحكومية، لكنه قرّر أن يطلق العنان لروح الفنان الكامنة بداخله، ومن أجل أن يتحوّل الحلم لواقع، طرق أبواب المسارح، وابتسم له الحظ عندما وجد فرصة في مسرح التلفزيون، وشارك في مسرحية بعنوان “كفر أبومجاهد”، واستطاع أن يلفت الأنظار بأدائه السهل وخفة ظله، وأسند إليه المخرج نور الدمرداش دورًا في مسلسل “هارب من الأيام”، الذي حقق نجاحًا كبيرًا وقت عرضه، وتوالت أعماله طيلة 50 عامًا.
«زهايمر» آخر لقاء فني مع صديقه النجم عادل إمام
هند تكشف أسرار اللحظات الأخيرة في حياة والدها
كشفت هند ابنة الفنان الراحل سعيد صالح، عدة أسرار عن والدها الفنان الكبير خلال مقابلة تلفزيونية، وقالت إنه كان مُرشحًا لدور العمدة “سليمان غانم” في المسلسل الشهير “ليالي الحلمية”، إلا أنه اعتذر عنه، وعندما قدمه الفنان صلاح السعدني قال لها: “شايفة عمك صلاح عامل إيه؟” وأشاد ببراعته في تجسيد هذه الشخصية.وذكرت هند أن والدها جمعته صداقة قوية بالعُمدة صلاح السعدني والزعيم عادل إمام، وأنها لم تشهد أي خلافات بينهم، وحتى لو كانت هناك خلافات فمن المؤكد أنها كانت تنتهي بينهم من دون أن يعلم بها أحد.
وتحدثت عن الأيام الأخيرة في حياة والدها، وإصابته بعدة جلطات أدت إلى زيادة أعراض الألزهايمر عليه لدرجة أنه فقد النطق في آخر شهر من حياته، إلا أنه في آخر حديث دار بينهما كان يتذكرها، لكنه لم يعي أنها ابنته أو درجة قرابتها إليه.
رهان مع الزعيم على إضحاك سهير البابلي
تعد مسرحية “مدرسة المشاغبين” من أبرز الأعمال التي قدمتها الفنانة الراحلة سهير البابلي، بالاشتراك مع الزعيم عادل إمام والنجم سعيد صالح، واحتوت كواليس المسرحية على عدة مواقف طريفة جمعت بين الثلاثي.
وتحدثت الفنانة الراحلة في لقاء تلفزيوني عن تلك التجربة، وقالت إن عادل إمام وسعيد صالح تراهنا على إجبارها على الضحك على خشبة المسرح أمام الجمهور، لكن ما كان يحدث هو العكس، فهي التي كانت تضحكهم، فحين علمت ما ينويان القيام به، وارتدت نظارة كبيرة ذات عدسات سميكة كالتي يرتديها كبار السن، ما أجبرهما على الضحك على هيئتها بدلا من إضحاكها.