الاستقصائي سيمور هيرش: كيسنجر يتنصت على مساعديه والصحافيين «3/5»
• تقريره أثار اضطرابات واسعة في مكتب مجلس الأمن القومي
نشرتُ تقريراً لا يُنسى يوم الخميس، 17 أيار 1973، وأثار اضطرابات واسعة في مكتب مجلس الأمن القومي في عهد كيسنجر وفي مكتب صحيفة «تايمز» في واشنطن. كتبتُ، من دون ذكر أي مصادر، أن كيسنجر قدّم شخصياً أسماء عدد من الصحافيين وأقرب مساعديه في مجلس الأمن القومي إلى مكتب التحقيقات الفدرالي ليتم التنصت عليهم، بما في ذلك اسم هيلموت سونينفيلدت، أقرب صديق لكيسنجر في فريقه على الأرجح وكان قد عُيّن للتو كوكيل لوزارة الخزانة. سرعان ما انفتحت أبواب الجحيم على الجميع.
اعترف كيسنجر بأنه اطّلع على ملخصات بعض المحادثات، لكنه أصر على أنه لم يطلب التنصت على أحد ولم يوافق على أي من هذه العمليات مسبقاً.
في أواخر العام 1974، برزت أدلة أخرى على حجم الفوضى وغياب احترام القانون في إدارة نيكسون، وكان كيسنجر هذه المرة سبباً لتلك الاضطرابات وأول ضحية لها في آن. حصلت معظم جهود كيسنجر الدبلوماسية سرّاً وبعيداً عن الإعلام. لم يطّلع إلا عدد صغير من المساعدين على ما يحصل حين أجرى كيسنجر محادثات سلام سرية في باريس ومهّد سرّاً لزيارة نيكسون الناجحة إلى بكين في العام 1972. لم يطّلع الأميرال توم مورير، رئيس هيئة الأركان المشتركة حينها، على أي من هذه التطورات، ولم يعرف بها أيضاً ضباط عسكريون ومسؤولون مدنيون آخرون كان يُفترض أن تتم استشارتهم لمعرفة رأيهم حول مسائل مثل زيارة الصين وإنهاء الأزمة بين واشنطن وبكين.
البيت الأبيض أبلغ لجنة مجلس الشيوخ المرتبطة بقضية ووترغيت عن تهديدات مزعومة بالابتزاز أطلقها مفتش عام بوزارة الدفاع
كان جزء من المعلومات الداخلية عن «نزعة» البيت الأبيض إلى التقرب من باكستان قد بدأ ينكشف في ديسمبر 1971، بفضل مقالات يومية كتبها الصحافي الاستقصائي المخضرم في واشنطن، جاك أندرسون. أدى تسريب هذا النوع المحرج من البيانات السرّية إلى إطلاق تحقيق أمني داخلي بقيادة ديفيد يونغ، مساعِد إيغيل كروغ في فريق «وحدة التحقيقات الخاصة». وصل التحقيق سريعاً إلى تشارلز رادفورد المقرّب من كيسنجر. من الواضح أن رادفورد المتورط في عمليات التجسس كان يعمل بدوام إضافي لمصلحة أندرسون الذي فاز بجائزة «بوليتزر» في العام 1972 بفضل مقالاته المدوّية.
تجسس وتهديدات
كان كيسنجر متورطاً في جزء كبير من هذه المسائل لأن يونغ عَمِل لأكثر من سنتين في فريق مجلس الأمن القومي بقيادة كيسنجر قبل أن ينضم إلى مجلس جون إيرليشمان المحلي ويصل أخيراً إلى فريق «وحدة التحقيقات الخاصة». بقيت هذه الفوضى المريعة خفية حتى يناير 1974، فعلمتُ حينها أن البيت الأبيض أبلغ لجنة مجلس الشيوخ المرتبطة بقضية «ووترغيت» عن تهديدات مزعومة بالابتزاز أطلقها و. دونالد ستيوارت الذي كان حينها المفتش العام لجهاز التحقيق في وزارة الدفاع. كان ستيوارت عميلاً سابقاً في مكتب التحقيقات الفدرالي وقدّم طلباً لاستلام رئاسة هذه الوكالة، وخاف عدد من المسؤولين في الإدارة الأميركية المضطربة أن يحاول مقايضة معلوماته بشأن التجسس العسكري بمنصب رفيع المستوى.
بعد عشرة أيام على أول تقرير نشرتُه عن فضيحة التجسس العسكري، تخلى كيسنجر عن ادعاءاته المرتبطة بعلاقته مع يونغ واعترف، في بيان لوزارة الخارجية، بأنه سمع، في أواخر العام 1971، شريطاً سجّله يونغ مع أميرال منخفض الرتبة كان متورطاً في نقل وثائق من مكتبه إلى البنتاغون. كان ذلك الاعتراف يتعارض مع الشهادة التي قدّمها خلال جلسات الاستماع إليه، وكان كيسنجر يعلم أن تصريحه لن يفيده داخل الحكومة ووسائل الإعلام حيث بات يُعتبر كاذباً متسلسلاً. بذل كيسنجر قصارى جهده لإرباك الرأي العام، فأعلن في البداية أن جون إيرليشمان هو الذي جعله يشاهد أو يسمع الاستجواب. لكنه اعترف لاحقاً بأن ديفيد يونغ هو من قام بذلك الاستجواب. لم يتمكن كيسنجر من ردع نفسه وحاول إقناع الصحافيين بأن أحداً لم يكن يتوقع أن يقوم ديفيد يونغ بهذا النوع من التحقيقات لأنه الشخص الذي أجرى المقابلة. هو «افترض»، كما يقول، أن إيرليشمان طلب من يونغ إجراء المقابلة، فقال: «أنا أعيد التأكيد هنا على كل كلمة تفوّهتُ بها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وأؤكد على أن كلامي يتماشى بالكامل مع الادعاءات المتداولة من مصادر غير معلنة».
في أواخر 1974 برزت أدلة أخرى على حجم الفوضى وغياب احترام القانون في إدارة نيكسون وكان كيسنجر سبباً لتلك الاضطرابات
أزمة مصطلحات
في بداية السبعينيات، كنا نتعامل مع رئيس فاسد يحارب للبقاء في السلطة وكان ليفعل كل ما يلزم لتحقيق هدفه. انكشف نظام التنصت الداخلي الذي استعمله نيكسون خلال الصيف السابق، وبدأت النيابة العامة الفدرالية التي تتولى مختلف القضايا المرتبطة بفضيحة «ووترغيت» تقاضي المسؤولين عن تسريب محادثات ذات أهمية محتملة. في بداية شهر مايو، أرسل لي موظف فدرالي صفحات من تسجيل نيكسون الذي يُفترض أن يُستعمل في المحاكمة الجنائية في نيويورك بحق عضوَين في الحكومة: وزير التجارة موريس ستانس، والمدعي العام السابق جون ميتشل. في ذلك التسجيل الليلي، كان نيكسون يتفاخر بنفسه على الأرجح وهو يسيء الكلام عن الأقليات، أو ربما أسرف في الشرب. راح يتكلم بشكلٍ متكرر عن «هؤلاء الفتيان اليهود» في هيئة الأوراق المالية والبورصات باعتبارهم «في كل مكان لدرجة أن نعجز عن ردعهم».
نُشِر الخبر في الصفحة الأولى من صحيفة «تايمز» وأحدث موجة متوقعة من الاحتجاجات من البيت الأبيض ومناصري الرئيس. لكنّ ما حصل لاحقاً لم يكن مألوفاً. جلس توم ويكر، المراسل والمحرر والصحافي المدهش في «تايمز»، بالقرب من مكتبي وسط غرفة الأخبار الصاخبة يوماً وسألني إذا كان يستطيع التكلم معي لدقيقة، فوافقتُ طبعاً. ثم اقترب مني وأخبرني بأن مقالتي عن المصطلحات التي استعملها نيكسون، وإصرار البيت الأبيض على إنكارها تزامناً مع مهاجمتي أنا والصحيفة، تؤكد على غياب المنطق في تفكير نيكسون، وقد ذكّرته هذه الحادثة بقصة لم يكتبها.
كان ويكر قد أصبح مدير مكتب الصحيفة في واشنطن، في العام 1964، أثناء تغطية أحداث البيت الأبيض. في مرحلة معينة من أواخر العام 1965، حضّر تحليلاً صارماً عن حرب فيتنام التي وصلت إلى طريق مسدود حينها وتطرّق إلى المخاطر التي تطرحها. في أحد أيام السبت، وصل الرئيس ليندون جونسون إلى مقرّه واستدعى ويكر إلى سيارته. بعد لحظات من الصمت، ضغط الرئيس على المكابح وتوقف بالقرب من مجموعة أشجار. ثم نزل وتغوط أمام أنظاره وركب السيارة مجدداً وعاد إلى مكان تجمّع الصحافيين. حصل هذا المشهد كله من دون تبادل أي كلمة.
أراد جونسون أن يُعبّر بهذه الطريقة عن رأيه بتحليل ويكر. أدرك هذا الأخير حينها أن الحرب مستمرة، وكان يُفترض أن يجد طريقة لكتابة ما حصل تأكيداً منه على إصرار جونسون الأعمى على صوابية قراراته وأخطاء من يعارضونه.
وكالة الاستخبارات المركزية المتخبطة بسبب حرب فيتنام ودورها الشائب في فضيحة «ووترغيت» لم تكن لتصمت بشأن ارتكابات كيسنجر
في بداية سبتمبر 1974، تلقيتُ رسالة كتبها عضو الكونغرس مايكل هارينغتون، وهي تشمل محتوى شهادة سرية أدلى بها مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ويليام كولبي، حول النشاطات الاقتصادية والسياسية التي تقوم بها الوكالة لتهديد حكومة سلفادور أليندي وإسقاطها. كان أليندي رئيس تشيلي الاشتراكي الذي انتُخِب في العام 1970. اغتيل هذا الأخير في شهر سبتمبر ثم فرض قائد الانقلاب، الجنرال أوغوستو بينوشيه، القانون العرفي ونقل البلد إلى اليمين المتطرف تزامناً مع قتل أو اعتقال أو قمع معظم أعضاء المعارضة اليسارية. صرّح كولبي أمام الكونغرس بأن معظم النشاطات السرية التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية، أو ربما جميعها، تمّت المصادقة عليها من لجنة الأربعين (هيئة استخبارية سرّية ورفيعة المستوى بوزارة الخارجية الأميركية كان هنري كيسنجر يرأسها). اعتبر كولبي العمليات التي نُظّمت ضد أليندي بمثابة اختبار لاستعمال المبالغ النقدية لإسقاط الحكومات التي تُعتبر معادية للولايات المتحدة. بلغت ميزانية تلك العملية ثمانية ملايين دولار، وفق شهادة كولبي. سُئِل كيسنجر، خلال شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، عن تورط وكالة الاستخبارات المركزية في إسقاط أليندي، فقام بما يتعلّمه المسؤولون الأميركيون في لحظات مماثلة وردّ بكذبة احترافية قائلاً: «وكالة الاستخبارات المركزية لا علاقة لها بالانقلاب على حدّ علمي واعتقادي».
بدأتُ أتعمق في هذه القصة فنقلتُ كلام المعنيين بهذه القضية وهم يقولون إن تلك السياسة كانت من صنع ريتشارد نيكسون، لكن سرعان ما أصبح كيسنجر أهم خبير استراتيجي في المعركة الاقتصادية ضد أليندي. انتشرت مزاعم متكررة حول تأثير الولايات المتحدة على إسقاطه، وقد ترسّخت هذه الادعاءات حين اعترفت إدارة نيكسون سريعاً بحكومة بينوشيه، ورفضت واشنطن الإصرار على وضع حدّ لممارسات بينوشيه ضد مناصري أليندي. ذكرت رسالة النائب هارينغتون أن نيكسون وكيسنجر كانا يكذبان لسنوات حين أصرّا على عدم تدخّل الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية في شؤون تشيلي، وأن عجز حكومة أليندي عن تلقي القروض والائتمانات لم يكن ينجم عن ضعف ائتمانات تشيلي بل عن طبيعة السياسة الأميركية. خلال بضعة أسابيع، تمكّنتُ من الحصول على وثائق سرّية تثبت أن نشاطات وكالة الاستخبارات المركزية تجاوزت الضغوط الاقتصادية وشملت تمويل جماعات متطرفة عنيفة داخل تشيلي كانت تنظّم الإضرابات التي تهدف إلى تخريب الاقتصاد. كذلك، انتشرت أخبار عن حصول عمليات اغتيال، وقُتِل جنرال مرموق واحد على الأقل في الجيش التشيلي لأنه كان من مناصري أليندي تزامناً مع تهريب الأسلحة عبر محطة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية في «سانتياغو».
نيكسون كان يتفاخر بنفسه على الأرجح وهو يسيء الكلام عن الأقليات أو ربما أسرف في الشرب... راح يتكلم عن «هؤلاء الفتيان اليهود» في هيئة الأوراق المالية والبورصات
من الواضح أن جزءاً من العاملين في وكالة الاستخبارات المركزية كان يتواصل معي ويقوم بمهام أخرى كثيرة. كان كيسنجر يعرف السبب على الأرجح: استمرت الضغوط على الوكالة لدفعها إلى التحرك في قضية أليندي، وقد فرضها نيكسون كما قال كيسنجر. لم تكن وكالة الاستخبارات المركزية المتخبطة بسبب حرب فيتنام ودورها الشائب في فضيحة «ووترغيت» لتصمت بشأن ارتكابات كيسنجر. وما كنتُ أنا لأصمت أيضاً. هكذا أصبح كيسنجر هدفاً لهم ولي. لم يشكك أحد في وزارة الخارجية الأميركية بما أنوي فعله. في 24 سبتمبر 1974، أطلقت مذكرة موجّهة إلى كيسنجر، تم الكشف عنها لاحقاً وكتبها اثنان من أقرب مساعديه (لاري إيغلبرغر، مساعد كيسنجر التنفيذي، وروبرت ماكلوسكي، المتحدث باسم وزارة الخارجية) التحذير التالي:
«نحن نظن أن سيمور هيرش ينوي نشر ادعاءات إضافية حول وكالة الاستخبارات المركزية في تشيلي. يبدو أنه لن يضع حداً لهذه الحملة. أنتَ هدفه النهائي. بيل كولبي أخبر برينت سكوكروفت [مساعد نيكسون العسكري] بأن مقالات هيرش خاطئة وهو مستعد للاعتراف بذلك. نحن نظن أن إنكار الموضوع بطريقة مباشرة وعلنية من جانب كولبي هو أفضل نهج للتصدي لهيرش. حضّر نات ديفيس وهاري شلودمان [دبلوماسيان عملا في تشيلي] مسودة البيان المُلحَق بهذه الرسالة، وهي تعكس الحقيقة بالشكل الذي يعرفانها. سنطلب من سكوكروفت تقديمها إلى كولبي لمراجعتها والتحقق منها بالكامل ونشرها عند الحاجة. الوقت عامل جوهري لأن استمرار مزاعم هيرش من دون التصدي لها يعطيها مصداقية إضافية. هل يمكننا المباشرة بهذه العملية»؟
بعد ثلاثة أيام، كتبتُ عن توبيخٍ صادم وجّهه كيسنجر لديفيد بوبر، سفير الولايات المتحدة في تشيلي، وهو المسؤول الذي كان قد ناقش مواضيع التعذيب وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان خلال اجتماع حول المساعدات العسكرية مع ممثلين عن حكومة بينوشيه. خربش كيسنجر فوق وثيقة تلقّاها من بوبر: «اطلبوا من بوبر أن يوقف محاضرات العلوم السياسية». كتبتُ أن بوبر ودبلوماسيين آخرين في تشيلي وفي مكتب شؤون البلدان الأميركية داخل وزارة الخارجية شعروا بالاستياء و»الدهشة» من توبيخ كيسنجر.
عقد كيسنجر اجتماعاً عاجلاً للمسؤولين في الوزارة بعد قراءة مقالتي وثارت حفيظته وفق نص حرفي وصل بطريقة ما إلى ملفات «مكتب المؤرخ» في وزارة الخارجية الأميركية وذكر ما يلي:
«أردتُ أن أوضح أن زمن اللامبالاة انتهى. لا أريد أن أسمع منكم أنني أرتكب الأخطاء بعد الآن. كل من يظن أنني أخطئ يستطيع الرحيل... لقد سئمتُ من كل ما يحصل بكل بساطة... جهاز الخدمة الخارجية مخجل بمعنى الكلمة... أنا لا أهتم بالتسريبات لأنني سأرحل في مطلق الأحوال. أريد سماع تفسير بوبر عن دوره في مسألة هيرش... لا أشعر بأنني مضطر لتبرير نفسي أمام سيمور هيرش. إذا كان وزير الخارجية يعجز عن كتابة ملاحظة على وثيقة من دون تسريبها... فنحن لا نملك جهازاً للخدمة الخارجية إذاً بل مجرّد غوغاء... هذه التسريبات هي دليل ضعف وجُبْن وغدر. لو كانوا شجعاناً بما يكفي، ولو تجرأ شخص واحد فقط على الاستقالة، كان الوضع ليختلف. لكن ثمة خطب ما في هذا النظام وفي طريقة تعيينهم».
لم يتسرّب كلام كسنجر الغاضب قبل تناوب ثمانية مسؤولين كبار على الأقل على مناصب وزارة الخارجية. سيكون دوره بتشيلي نقطة محورية بعدد كبير من التحقيقات اللاحقة، بما في ذلك أهم تحقيق وأكبره عن دور وكالة الاستخبارات المركزية ومجتمع الاستخبارات الأميركي منذ نشوء الوكالة بعد الحرب العالمية الثانية.
نظام التنصت الداخلي الذي استعمله نيكسون انكشف وبدأت النيابة العامة الفدرالية التي تتولى مختلف القضايا المرتبطة بفضيحة ووترغيت تقاضي المسؤولين عن تسريب محادثات ذات أهمية محتملة
تأثير الحياة الشخصية على السياسة
يواصل هيرش في كتابه الحديث عن الرئيس الاميركي نيكسون، وقال:عشتُ لحظة صحافية مشابهة بعد رحيل نيكسون من البيت الأبيض بطريقة مخزية، في 9 أغسطس 1974، وعودته إلى منزله الشاطئي في «سان كليمنتي»، كاليفورنيا. بعد مرور بضعة أسابيع، اتصل بي شخص على صلة بمستشفى قريب في كاليفورنيا وأخبرني بأن زوجة نيكسون، بات، تلقّت العلاج في قسم الطوارئ هناك بعد أيام على عودتها مع نيكسون من واشنطن. هي أخبرت الأطباء بأن زوجها ضربها. كان الشخص الذي اتصل بي يملك معلومات دقيقة جداً حول حجم إصاباتها واستياء الطبيب الذي عالجها في قسم الطوارئ. لم أعرف كيفية التعامل مع هذه المعلومة، لكني قررتُ تطبيق مقولة قديمة شائعة في مكتب «سيتي نيوز»: «حتى لو أخبرتكَ والدتك بأنها تحبك، تحقق من هذه المعلومة أولاً». كنت قد تعرّفتُ على جون إيرليشمان بما يكفي بحلول منتصف العام 1974، لذا اتصلتُ به وأخبرتُه بما أصاب بات نيكسون في «سان كليمنتي»، لكن بتفاصيل تفوق ما أكتبه في هذه السطور. صدمني إيرليشمان حين قال إنه اطّلع على حادثتَين سابقتَين حيث أقدم نيكسون على ضرب زوجته.
حصلت الحادثة الأولى خلال الأيام التي تلت خسارته أمام حاكم كاليفورنيا في العام 1962، فقال للصحافيين بكل مرارة حينها إنه خاض آخر سباق سياسي في مسيرته وأنهم «ما عادوا يستطيعون مهاجمة ريتشارد نيكسون». ثم حصل الاعتداء الثاني خلال السنوات التي أمضاها نيكسون في البيت الأبيض. تطرقتُ إلى هذه القصة مجدداً خلال حوار مع زملائي الصحافيين في العام 1998، في «مؤسسة نيمان» في جامعة «هارفارد». كنتُ أعتبر تلك المسألة خليطاً من شؤون الحياة الخاصة والعامة، وشرحتُ للحاضرين أنني كنت لأكشف تلك الاعتداءات لو أنها توضح سبب تأثير حياته الشخصية على السياسة، لكن لم يظهر أي دليل على وجود رابط مماثل. لقد صُدِمتُ بحجم الاستياء الذي أثاره قراري وسط زميلاتي النساء، فقد اعتبرن الضرب جريمة في جميع الأحوال وتساءلن عن السبب الذي منعني من الإبلاغ عن جريمة مماثلة. اعترفتُ حينها بأنني لم أعتبر تلك الحادثة جريمة بحد ذاتها بسبب جهلي. لم يكن جوابي مُرضِياً لأحد. لم أفهم في تلك الفترة أن ما ارتكبه نيكسون هو عمل إجرامي. كان يُفترض أن أنقل ما أعرفه حينها.