اعتلت الفنانة الكبيرة خشبة المسرح، وقدمت عشرات المسرحيات من خلال "فرقة رمسيس” والعديد من الفرق الأخرى، ومن أبرز أعمالها "ناكر ونكير” و”ألف ضحكة وضحكة” و”العدو الحبيب” و”الشبح” و”ابن الفلاح” (1939)، و”كرسي الاعتراف” (1949)، و”أولاد الفقراء” (1954)، و”الأخرس” (1960)، و”راسبوتين” (1960).
القط الأسود
وظهرت على الشاشة الصغيرة في عام 1964، حين شاركت في المسلسل البوليسي الشهير "القط الأسود”، تأليف محمد عبدالقادر المازني، وإخراج عادل صادق، وبطولة عمر الحريري ومحمود المليجي وتوفيق الدقن ومديحة سالم، ولاقى هذا العمل نجاحاً جماهيرياً كبيراً.
كما شاركت في بعض المسلسلات الإذاعية خلال فترة الستينيات، منها "الضباب” و”بنات حارتنا” و”ليلة رهيبة”، وبعد 20 عاماً من اعتزالها التمثيل، شاركت في المسلسل الإذاعي "الشيطان والخريف” (1986)، تأليف رأفت الخيّاط وإخراج محمد عثمان وبطولة كمال الشناوي وسناء جميل.
بين إيديك
وعلى مدار مشوارها الفني، نافست زميلتها الفنانة أمينة رزق في دور "الأم”، وكلتاهما جسّدتا هذه الشخصية في فترة شبابهما، ولنجوم أصغر منهما في العمر، وظلت علوية جميل تؤدي تلك النوعية من الأدوار، ورغم مشاركتها في بعض الأعمال الكوميدية، فإنها ظلت أسيرة اللونين الميلودرامي والتراجيدي.
وعرفها الجمهور في أدوار الزوجة المتسلطة، والأم القاسية، والمرأة الشريرة، ومن أبرزها دور "برلنتي أعظمهم” في فيلم "بين إيديك” (1960)، قصة الأديب مصطفى محمود وإخراج يوسف شاهين، وشارك في بطولته شكري سرحان وماجدة وعبدالفتاح القصري.
وساهمت ملامحها الصارمة في إجادتها لتلك الشخصيات، لكنها أخفت وراء تلك الأقنعة، شخصية تتسم بالرقة والمشاعر الجياشة، وقد أفصحت عيناها دائماً عن وميض الحزن الكامن في أعماقها، وتقلبات الزمن التي عصفت بحياتها.
سحر الفن
انتمت علوية جميل واسمها الحقيقي إليا صابات خليل مجدلاني، إلى أسرة ذات أصول لبنانية يهودية، وهاجر والداها إلى مصر بعد إشهار إسلامهما، وولدت في قرية "طماي الزهايرة” بمحافظة الدقهلية (شمال القاهرة)، يوم 15 ديسمبر 1910، وهي ذات البلدة التي شهدت مولد كوكب الشرق أم كلثوم عام 1908.
وتعلمت بمدرسة الراهبات بمدينة الإسكندرية الساحلية، وتزوجت الفتاة ذات الثلاثة عشر عاماً في سنة 1923 من شخص أنجبت منه ثلاثة أبناء (إيزيس وجمال ومرسي) وانفصلت عنه بعد ثمانية أعوام.
وفي أثناء فترة زواجها الأول، جذبها سحر الفن للسفر إلى القاهرة، وكان عمرها خمسة عشر عاماً، وطرقت أبواب مسرح رمسيس، ومنحها الفنان يوسف وهبي فرصة الصعود إلى خشبة المسرح في أدوار ثانوية، واختار لها اسمها الفني "علوية جميل”.
وبدأت رحلة الصعود إلى أن حققت نجاحها في مسرحية "أحدب نوتردام” عام 1927. وظهرت لأول مرة على الشاشة في أول فيلم مصري صامت هو "زينب”، تأليف محمد حسين هيكل وإخراج محمد كريم، وبطولة بهيجة حافظ وزكي رستم ودولت أبيض وعبدالوارث عسر، وعُرض الفيلم في دار سينما "جوزي بلاسر” بالإسكندرية يوم 14 يوليو 1930، وحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً.
وأصبحت علوية جميل جزءًا من ذاكرة المسرح والسينما المصرية، بتمثيلها في فيلم "زينب” وغيره من أفلام الثلاثينيات، ومشاركتها في أعمال مسرحية مع فرق ذلك العصر، مثل فرقة عزيز عيد وفاطمة رشدي، من دون أن تتنكر لأستاذها يوسف وهبي، ولكن جرت العادة أن يستعين أصحاب الفرق بممثلين وممثلات من فرق أخرى.
وقد ظلت تعمل في فرقة رمسيس حتى إغلاقها في الستينيات، وعاشت على ذكريات نجاحاتها المسرحية في العصر الذهبي، واندثرت تلك الأعمال الرائدة، باستثناء مسرحية "راسبوتين” التي صوّرها التلفزيون المصري من دون جمهور، وشاركت في بطولتها مع يوسف وهبي وأمينة رزق وفاخر فاخر ونظيم شعراوي.
الصدمة والاعتراف
تلقت الفنانة علوية جميل صدمة موجعة، وعاشت لحظات أليمة بعد أن فقدت ابنتها "إيزيس”، وروت تفاصيل ذلك في حوار إذاعي نادر ببرنامج "إني أعترف”، وأنها ذات ليلة كانت في المسرح، والفرقة تستعد لتقديم مسرحية "كرسي الاعتراف” وظلت مشغولة بمرض ابنتها الكبرى الذي طال نتيجة للتشخيص الخاطئ، وكان من الضروري تقديم العرض في تلك الليلة بأي ثمن، لأن الفرقة كانت مرهقة ماليًا، ولكنها لم تستطع إخفاء قلقها.
وطلبت من يوسف وهبي إعفاءها من العمل للمكوث بجوار ابنتها، وكان عميد المسرح كريماً معها كعادته دائماً، وحينما همت بمغادرة المسرح وجدت أحد العاملين بالفرقة يخبر وهبي بأن الممثلة التي طلبها لتمثيل دورها في الرواية رفضت النزول من منزلها بأي حال من الأحوال، واضطررت علوية إلى تمثيل دورها.
وقدمت علوية جميل في تلك الليلة دوراً من أعظم أدوارها على المسرح وأدت الدور بشكل لفت أنظار الجميع، فقد حاولت نسيان مرض ابنتها بالتركيز تماماً على عملها ولذا خرج الأداء بتلك الصورة الرائعة، وفور انتهائها من التمثيل غادرت مسرعة إلى المنزل لتفاجأ بموت ابنتها، واعتصر الألم قلبها وبقيت طوال الشهور والسنوات التي مرّت على هذا الحادث تذكر تلك الليلة بتفاصيلها الحزينة.
وبعد سنوات، تلقت رائدة المسرح صدمة أخرى، روى تفاصيلها الفنان يوسف وهبي، فأثناء الحرب العالمية الثانية، كان ابن الفنانة الكبيرة يعمل ضابطاً بحرياً على أحد المراكب، وتعرض لحادث غرق، وذات ليلة كانت فرقة رمسيس تعرض إحدى مسرحياتها بصعيد مصر، وقبل رفع الستار بلحظات كان الفنان الكبير فاخر فاخر يقرأ إحدى الصحف التي تحدثت عن غرق المركب الذي كان يعمل على متنه ابن الفنانة علوية جميل، وإذا بدموعه تنهمر على مصير هذه الأم الثكلى، فعلمت بالخبر وبكت بحرارة في الكواليس، قبل أن يُنادى على اسمها لتقوم بأداء دورها، ولم يكن أعضاء الفرقة يعلمون بالأمر.
وصعدت علوية جميل إلى خشبة المسرح، وأدت دورها كما لم تؤده من قبل، وتفاعل الجمهور معها، وانهال التصفيق، وفي النهاية استقبلت ذلك التقدير بابتسامة ممتزجة بالدموع والألم، لفراق اثنين من فلذات أكبادها.
سر اعتزال نجمة السينما والمسرح بعد حرب 67
حرصت علوية جميل على الابتعاد عن الأضواء، بدون سبب واضح، وربما لكثرة ما كُتِب عنها حول ديانتها، وأصولها اللبنانية وانتمائها لعائلة يهودية، وأن "إليا صابات خليل مجدلاني” هاجر أبواها إلى مصر بعد إشهار إسلامهم جميعاً.
وتضاربت الآراء حول سر اختفاء المرأة الحديدية، وعدم ظهورها في أي عمل فني بعد حرب 1967، لتجنب الجدل حول أصولها اليهودية، وذهب البعض إلى أن قرار اعتزالها من أجل الاهتمام بزوجها الفنان محمود المليجي، واحتجبت عن الأضواء تماماً، وباتت مسيرتها الفنية مجرد أصداء لذكريات في كواليس المسرح والسينما، ومجد فني انطفأ بريقه.
صدمة كبيرة بعد رحيل المليجي
رحل عملاق التمثيل محمود المليجي إثر نوبة قلبية مفاجئة في كواليس تصوير فيلم "أيوب”، وكان يمسك فنجان قهوته، أثناء جلوسه على كرسي، متكئاً على طاولة البروفات مع الفنان العالمي عمر الشريف والمخرج هاني لاشين، والمفارقة أنه كان يقرأ مشهد وفاته في الفيلم، وفجأة انكفأت رأسه، وصرخ الشريف: "مالك يا محمود؟”، وعقدت الصدمة لسانه، بينما انهمرت دموع وصرخات العاملين في الاستوديو.
وتلقت رفيقة عمره علوية جميل خبر رحيله من دون أن تنطق بكلمة، وتحجرت الدموع في عينيها، ولزمت الصمت خلال أيام العزاء، وظل الحزن يعتصر جسدها الواهن، وراحت تتذكر أيامها مع حبيب العمر فبدت رحلة الأربع والأربعين سنة كأنها لقطة خاطفة، منذ أول لقاء بينهما في كواليس مسرح رمسيس وزواجهما في عام 1939، حتى لحظة رحيل أغلى إنسان في حياتها، لتعيش على ذكراه حتى وفاتها عام 1994.
النجمة الكبيرة تُقرِض الممثل الشاب مصاريف جنازة والدته
تعرفت علوية على الفنان الشاب – آنذاك - محمود المليجي، أثناء عملهما معاً في فرقة يوسف وهبي، وأعجبت به وجاءتها فرصة الاقتراب منه عندما توفيت والدة المليجي، وكان وقتها يقدم عرضاً مسرحياً مع الفرقة في دمياط، ولم يكن معه المال الكافي لمصاريف الجنازة، وغلبه الحزن والبكاء، ودون تفكير، اختفت علوية، وعادت بعد أن باعت أساورها الذهبية، ومنحته 20 جنيهاً، وطلبت منه ألا يخبر أحداً.
الموقف النبيل الذي فعلته الفنانة الكبيرة علوية جميل، تسبب في تعلق محمود المليجى بها ووقوعه في حبها، خاصة أنه أصبح بلا أم وكانت هي المُعوِّضة له عن هذه المشاعر، وبعد مرور وقت يسير على رحيل والدته، طلب المليجي الزواج منها فوافقت على الفور.
وكان زواجهما حديث الوسط الفني، وكونا معاً ثنائياً فنياً ناجحاً في مجموعة من الأفلام التي لا تزال حاضرة في أذهان جمهور السينما، منها "أولاد الفقراء” (1942)، و”ابن الحداد” (1944)، و”أسير الظلام” (1947)، و”سجين أبوزعبل” (1957)، و”المبروك” (1959).
شرير الشاشة يلقب زوجته الغيورة بـ «المرأة الحديدية»
أطلق محمود المليجي على زوجته علوية جميل لقب "المرأة الحديدية” بسبب غيرتها الزائدة، نظراً لشدتها ومنعها له من استضافة أصدقائه في المنزل للسهر، ورقابتها الشديدة عليه خشية أن يتزوج من أخرى.
وتردد أن شرير الشاشة ينوي الزواج من الفنانة درية أحمد زميلته في فرقة إسماعيل ياسين المسرحية، وعند معرفة علوية جميل بالخبر أجبرت المليجي على الابتعاد عنها، وأمرت الراحل إسماعيل ياسين بطرد درية أحمد من الفرقة.
بعد فترة وقع المليجي في حب الممثلة ذات الأصول اللبنانية فوزية الأنصاري، وقرر الزواج منها، لكن علوية أجبرته على تطليق فوزية بعد ثلاثة أيام من الزواج، وقيل إنها اتصلت هاتفياً بالعروس، ورمت عليها يمين الطلاق، ولكن ربما لم يحدث ذلك، فقد يكون في سياق المبالغة حول شخصيتها القوية.
وبعد وفاة المليجي اكتشفت علوية الزيجة الثالثة لمحمود المليجي من الفنانة الراحلة سناء يونس التي ظلت زوجة للمليجي حتى وفاته. وكان ارتباطهما بزواج غير مُعلن، حرصاً على شعور زوجته الأولى علوية جميل.
ضحت سناء يونس، بالكثير من أجل أن تستمر الحياة العائلية للفنان محمود المليجي مستقرة، فقد ارتبطت به عاطفياً منذ أن جمعهما معاً عمل فني، وتطورت العلاقة بينهما ليعلنا ضرورة ارتباطهما وأن يجمعهما بيتٌ واحد، وتم زواجهما في أوائل السبعينيات بعد أن اشتركا في مسرحية "عيب يا آنسة” مع النجم فريد شوقي، وعرضتها فرقة المسرح الجديد عام 1974.
وفي مقابلة تلفزيونية، ذكر الناقد المصري طارق الشناوي "أن سناء يونس بعد رحيل المليجي تواصلت معه وطلبت منه عدم كشف الخبر، حتى لا يغضب ورثة المليجي، وعندما التقى بها مرة أخرى في عام 2002، وتحدث معها عن الواقعة، والزواج السري، قالت له: "يا ريتك نشرت الخبر”. وبعد 23 عاماً من رحيل المليجي، تدهورت الحالة الصحية للفنانة سناء يونس بعد صراع مع المرض، ورحلت في 20 مايو 2006.