يبدو أن للاضطرابات التي تجتاح القطاع المصرفي في الولايات المتحدة وأوروبا وجهاً آخر، وعلى ما يبدو، قد يكون أقل بروزاً، لكنّه أكثر أهمية، وهو التأثير على السياسة النقدية العالمية، في ظل توقّعات بأن تؤثر الأزمة على دورة التشديد النقدي التي شرعت فيها البنوك المركزية الرئيسية لمكافحة التضخم الذي لا يظهر سوى علامات محدودة على الانحسار من مستوياته القياسية المرتفعة.
وخفض المستثمرون توقعاتهم بشأن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية بعد الاضطرابات المصرفية، وتراهن الأسواق الآن على أن الولايات المتحدة وكندا والبرازيل ستخفض تكاليف الاقتراض قبل الخريف، في وقت تشير مؤشرات السوق إلى أن فترة الزيادات السريعة قد تصل إلى نهاية مفاجئة.
عقود مبادلة أسعار الفائدة
ويشير تسعير منتجات المشتقات، مثل عقود مبادلة أسعار الفائدة، إلى أن المستثمرين يعتقدون بأن العديد من البنوك المركزية الكبرى في العالم لن ترفع أسعار الفائدة أكثر، وفي بعض الحالات ربما تبدأ خفض الأسعار قبل نهاية العام.
وتعد عقود مبادلة أسعار الفائدة أحد أكبر أسواق المشتقات المالية في العالم، وارتفعت القيمة الإجمالية لمشتقات أسعار الفائدة القائمة بشكل كبير خلال النصف الأول من 2022 استجابة لرفع البنوك المركزية للأسعار.
ولا تقتصر التوقعات على المستثمرين، فالرؤساء التنفيذيون للشركات يتوقعون تحركاً مماثلاً. وقال الرئيس التنفيذي لبنك إتش. إس. بي. سي أستراليا، أنتوتي شو، إن البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأستراليا تقترب من وقف زيادات أسعار الفائدة مؤقتاً، في ظل سعيها لتحقيق توازن بين الاستقرار المالي ومكافحة التضخم.
ويعتقد شو أن تحقيق توازن بين «التأكد من أن التضخم لا يتسم بالرسوخ في الفترة المتبقية من 2023 و2024، لكن على نفس المنوال وقبل كل شيء الحفاظ على الاستقرار المالي أولاً، ستحققه البنوك المركزية في أستراليا والولايات المتحدة في الأشهر المقبلة».
وأضاف: «لهذا أعتقد أننا أقرب بكثير إلى التوقف، وأقرب أيضاً إلى أسعار ذروة نهائية».
ويقول كبير الاقتصاديين لدى «موديز أنالايتكس»، مارك زاندي، إن أسعار الفائدة العالمية تقترب من الذروة، وأضاف «النظام المصرفي الهشّ يضغط على البنوك المركزية لإنهاء رفع أسعار الفائدة، سواء عاجلاً أو آجلاً».
وتشير عقود مبادلة أسعار الفائدة إلى أنه من المتوقع أن يبقي مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) وبنك اليابان المركزي و7 بنوك مركزية أخرى على أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير في اجتماعاتها المقبلة.
وتنقسم الأسواق حول ما إذا كان بنك إنكلترا والبنك المركزي الأوروبي سيرفعان أسعار الفائدة في مايو، بعد أن كانت التوقعات تشير إلى احتمال كبير برفع الفائدة في أوائل مارس.
ذروة الفائدة في الأفق
وقالت كبيرة محللي الاستثمار في «هارجريفز لانسداون» لإدارة الأصول، سوزانا ستريتر: «كنا في واحدة من أشد دورات زيادة أسعار الفائدة منذ عقود، والتي تلتها اضطرابات مصرفية، والآن تلوح ذروة أسعار الفائدة بقوة في الأفق».
وتأتي إعادة النظر بعد واحدة من أشد دورات التشديد النقدي في التاريخ الحديث. وعلى مدى الأشهر الـ 6 الفائتة، قام 18 بنكاً مركزياً رئيسياً برفع أسعار الفائدة بإجمالي 16.45 نقطة مئوية. وقبل أسابيع فقط، كان الوصول إلى ذروة أسعار الفائدة يبدو بعيداً.
وفي أوائل مارس فحسب، توقّع المستثمرون أن يرتفع النطاق المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الاتحادية في الولايات المتحدة إلى ما بين 5.5 و5.75 بالمئة، بحلول ديسمبر من النطاق الحالي البالغ 4.75 إلى 5 بالمئة. ويشير التحول في أسعار المشتقات إلى أن الأسواق تتوقع حالياً أن يكون النطاق عند نحو 4 بالمئة بحلول ذلك الوقت.
وفي بداية مارس، كان المستثمرون يتوقعون أن يصل سعر الفائدة على الإيداع لدى البنك المركزي الأوروبي إلى 4 بالمئة بنهاية العام، وهو ما يزيد عن المستوى الحالي البالغ 3 بالمئة. أما الآن فيتوقع المستثمرون سعر فائدة قرب 3 بالمئة بحلول ذلك الوقت. وارتفعت التوقعات بشأن سعر الفائدة لدى بنك إنكلترا المركزي بنهاية العام من حوالي 4.75 بالمئة في بداية مارس إلى حوالي 4.25 بالمئة، اعتباراً من الأسبوع قبل الأخير في مارس.
وقال كبير المستشارين الاقتصاديين لدى البنك الإيطالي «أوني كريديت»، إريك نيسلن، إنه يجب على البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك بنك الاحتياطي الفدرالي والبنك المركزي الأوروبي، أن يصدرا بياناً مشتركاً مفاده أن أي رفع إضافي لسعر الفائدة لن يكون مطروحاً على الطاولة على الأقل حتى عودة الاستقرار إلى الأسواق المالية.
انحسار الاضطرابات
وفي منتصف مارس، رفع مجلس الاحتياطي الفدرالي وبنك إنكلترا المركزي والبنك المركزي النرويجي أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية. ورفع البنك الوطني السويسري أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، على الرغم من استحواذ «يو. بي. إس» على منافسه «كريدي سويس» لإنقاذه، كما فعل البنك المركزي الأوروبي الأمر ذاته في نفس الشهر.
ومع ذلك، أشار صناع السياسات في معظم هذه البنوك إلى أن الزيادة الإضافية في تكاليف الاقتراض تعتمد على انحسار الاضطرابات في النظام المصرفي.
من جانبه، قال الأستاذ في جامعة ليفربول، كوستاس ميلاس: «بسبب الظروف العصيبة، تصبح البنوك أقل رغبة في الإقراض، وستقوم بالإقراض في كثير من الأحيان مع زيادة أسعار الفائدة».
ويتوقع بنك يو. بي. إس أنه بحلول نهاية 2023، ستكون أكثر من نصف البنوك المركزية البالغ عددها 32، والتي يتتبعها البنك، قد خفضت أسعار الفائدة الرئيسية. وستُبقى 7 بنوك على الأسعار دون تغيير.
ومع ذلك، لا يزال بعض خبراء الاقتصاد ينتابهم القلق من أن التضخم المرتفع سيجبر المقرضين على الاستمرار في رفع أسعار الفائدة.
وقال زاندي، من «موديز أنلاتيكس»، إنه إذا ظهرت «مؤشرات تدلل على أن التضخم مستمر على وضعه، قد يعني ذلك أن البنوك المركزية «ستضحي باقتصاداتها لإعادة التضخم إلى أهدافه».
على الجانب الآخر، أبقت بعض البنوك المركزية في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية على أسعار الفائدة من دون تغيير لشهور.
وقالت ستريتر، إن البنوك المركزية في الأسواق الناشئة كانت من بين أوائل المستجيبين لارتفاع التضخم وزيادة أسعار الفائدة، وربما ما زالت أول من بدأ في دورة خفض أسعار الفائدة.
وقال رئيس الاحتياطي الأميركي، جيروم باول، إنه «يمكن التفكير في (الاضطراب) كمكافئ لزيادة سعر الفائدة، أو ربّما أكثر من ذلك»، في إشارة إلى أن الذعر يمكن أن يؤدي المهمة التي يقوم بها صانعو السياسات.
ويرى بعض المحللين أن أوضاع التمويل الأكثر تشديدا في الأسواق، والتي أثارتها اضطرابات القطاع المصرفي قامت بالفعل بقدر كبير من مهام البنوك المركزية، مما يعزز التوقعات بانتهاء دورات زيادة أسعار الفائدة قريبا.
وفي أقل من أسبوعين، تراجعت أسهم البنوك الأميركية وحدها بأكثر من 15 بالمئة، وقفزت تكاليف اقتراض الشركات الأضعف مالياً، وبلغت علاوة المخاطر على الدين المالي الأمريكي أعلى مستوياتها منذ مايو 2020.
ويقول بعض خبراء الاقتصاد، إن مثل هذه التحركات تعادل بالفعل الزيادات المتعددة في أسعار الفائدة من جانب مجلس «الاحتياطي الفدرالي»، كما دفع الاضطراب المستثمرين إلى تقليص الرهانات على رفع الأسعار.
وتعتقد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أن اضطراب السوق قد يؤدي بعض ما يقوم به تشديد البنك المركزي لسياساته، إذا أدت الاضطرابات إلى تثبيط الطلب والتضخّم.
وتعكس الأوضاع المالية مدى توافر التمويل في الاقتصاد، لذا فإنها تحدد خطط الإنفاق، والادخار، والاستثمار للشركات والأسر. وتحاول البنوك المركزية تشديد الأوضاع النقدية من خلال رفع أسعار الفائدة لإبطاء الزيادات في الأسعار.
ومنذ انهيار بنك سيليكون فالي وتراجع أسهم «كريدي سويس»، شهدت أوضاع التمويل في السوق حالة من التشديد الكبير.
ويعتقد كبير الاقتصاديين لدى «أبولو غلوبال مانجمنت»، تورستين سلوك، أن نطاق التشديد يعادل إضافة 1.5 نقطة مئوية إلى أسعار فائدة البنك المركزي الأميركي.
وقال: «الأوضاع الحالية الأكثر تشديدا منذ بدأ مجلس الاحتياطي في زيادة أسعار الفائدة»، مشيرا إلى أن مؤشر بلومبرغ الأميركي الذي يأخذ في الاعتبار أسواق المال وديون الشركات وتحركات سوق الأسهم بلغ أعلى مستوياته منذ مارس 2020. وكانت المؤشرات على تشديد الأوضاع المالية كثيرة.
ومنذ التاسع من مارس، ارتفع العائد الإضافي الذي تدفعه سندات الشركات الأميركية عالية المخاطر فوق معدل العائد الخالي من المخاطر بواقع 88 نقطة أساس. كما زادت علاوة المخاطر على الديون الصادرة عن البنوك وبقية الشركات في القطاع المالي 56 نقطة أساس في الولايات المتحدة و76 نقطة في منطقة اليورو.
وقال بنك غولدمان ساكس إن هذه التحركات وزيادة حالة عدم اليقين قد تؤدي إلى تشديد كبير في معايير الإقراض المصرفي في بنوك منطقة اليورو والمملكة المتحدة، على الرغم من أنها ستكون أقل حجما مما كانت عليه خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008 أو أزمة الديون بمنطقة اليورو في 2011.
وقال كبير الاقتصاديين لدى بنك إيه. بي. إن امرو، بيل ديفيني، إنه حتى بافتراض «أن تقلبات السوق ستنحسر خلال الأيام والأسابيع المقبلة، فإننا نعتقد أنه من المرجح أن يستمر بعض التشديد المتبقي في الأوضاع المالية».
وأضاف: «بالنظر إلى أن هذا سيفي ببعض مساعي التشديد التي يقوم بها مجلس الاحتياطي الفدرالي من خلال خفض الإقراض الموجّه للاقتصاد الحقيقي، من المرجّح أن يقلل هذا من الحاجة إلى مزيد من تشديد السياسات النقدية».
وقال ديفيني إن هذا قد يكون سبباً في خفض مجلس «الاحتياطي» لأسعار الفائدة في العام الحالي.
تحذيرات من مؤشرات السوق
يقول بنك غولدمان ساكس، إن تشديد معايير الإقراض المصرفي الذي يتوقعه قد يخصم 0.25 إلى 0.5 نقطة مئوية من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لعام 2023، مما يعادل تأثير زيادة بمقدار 25-50 نقطة أساس أخرى لأسعار الفائدة الاتحادية، وأضاف أن التأثير قد يكون أكبر.
لكن آخرين حذّروا من استخدام المؤشرات المستندة إلى السوق لتفسير الأوضاع المالية، في الوقت الذي يقود ضعف السيولة تحركات ضخمة للسوق.
وقال رئيس استراتيجية الاقتصاد الكلي لدى «سويس ري»، باتريك سانر، في إشارة إلى التقلبات الشديدة بالسندات الحكومية: «تقلّب أسعار الفائدة كان مدفوعا بمخاوف التضخم والنمو وتكوين مراكز تحسباً للانهيارات، لذا يجب التعامل مع هذه التحركات بحَذَر».
ووصف العضو المنتدب المعني بالاقتصاد الكلي العالمي لدى شركة الاستشارات تي. إس لومبارد، المستشار السابق لوزارة الخزانة البريطانية، داريو بيركنز، التقديرات بشأن تأثير الاضطرابات الأخيرة على سياسات الفائدة بأنها «تكهنات إلى حد كبير».
وأضاف: «البنوك المركزية لم يعد لديها فكرة جيدة بشأن مدى التشديد الحقيقي للسياسة النقدية».
وتوقّع أن تقيد البنوك الأصغر حجما الإقراض بطريقة قد يكون لها تأثير كبير على الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في ضربة للطلب الكلي.
وقال: «سيساعد هذا السلطات على هزيمة التضخم، ولكن بطريقة لا يمكن السيطرة عليها وتتسم بالصعوبة، مما قد يؤدي إلى مشكلات لا داعي لها».