يبدو أنه زمن الإفلاس الملتصق بكثير من التفاهة، أو أنه لعنة أن تفلس الحكومات، أو بعضها، وأن الأحزاب السياسية والمؤسسات الاقتصادية بل البنوك أيضاً هي الأخرى أعلنت إفلاسها، وبعدها هناك إفلاس أكثر عمقاً وتجذراً أو هكذا يبدو للمشاهد الذي لا يعمل على تجميل الواقع أو السقوط في بهرجة اللحظة المزينة بكثير من التلاوين السطحية والتي ما هي إلا ديكورات فقط لا غير.
يمتد الإفلاس إلى الأخلاق، هكذا تقول صديقتي المعمرة التي كلما زرتها تزودتُ من عمق التاريخ دروساً كثيرة، وهي لا تملّ من إبهاري بقدراتها على البحث عن أبعاد أخرى لتفاصيل حياتنا حتى تصل إلى ملابسنا وأكلنا، وهي أيضاً تقول إنهم يمأسسون السطحية والتفاهة وينشرون قلة الأخلاق أو ضعفها والقيم ككل على أنها عصرنة وتماشٍ مع الزمن الحديث، فكيف نستخدم الكمبيوتر وكل الأدوات الحديثة ونحن لا نزال نضع قيمة كبيرة للأخلاق واحترام الآخر وعدم الاستخفاف بذكاء البشر كلهم وليس الأثرياء منهم فقط؟ هي تقول هناك بهرجة ستقضي على تاريخنا وحاضرنا بل على المستقبل القادم، لأن من لا يعرف الجمال الذي كان لن يفهم أن يخلق أي شكل من الجمال الذي هو كثير من حضاراتنا المتراكمة التي نتغنى بها فقط عندما نبحث عن شيء نتميز به عن الشعوب الأخرى.
الإفلاس المرافق للاستخفاف بعقول الناس وفهمهم ومعرفتهم وخبرتهم وتجاربهم بل حتى علمهم الذي يتفوق على من يحكمون ومن يترشحون للمناصب حتى تلك التي تسمي نفسها ممثلة للشعب! وعندما يصبح الإفلاس سيد الموقف في بلداننا فلا بد أن تكون الدراما جزءاً من ذلك العبث، وبعيداً عن الادعاءات والتبريرات واستخدام التعابير المتخصصة أحياناً من قبل نقاد الدراما وملوك الشاشات وتجار الترفيه أو هكذا يحاولون وصف الدراما بأنها ترفيه فقط، وليس في الوصف عيب، بل ربما في فهمهم للترفيه عندما يتحول إلى شكل من الاستخفاف بعقول المشاهدين والمتابعين و«زغللة» أعينهم إما بديكورات أو وجوه جميلة، رغم أن الجمال نسبي لكننا نسينا ذلك، وكثير من «الأكشن» أو الضحك الرخيص، وكأنه لم يكن عندنا عباقرة كوميديا مثل عبدالسلام النابلسي وحسن فايق وماري منيب وزينات صدقي والقائمة طويلة في كل أنماط الدراما.
هكذا كان تاريخ الدراما من كتاب سيناريو ومخرجين وممثلين وممثلات مبدعين حريصين ودقيقين في كل ما يقدموه من مسلسلات أو أفلام، بل على صورتهم العامة في الحياة ليحافظوا على احترامهم لأنفسهم ومهنتهم وموهبتهم.
هذا الرمضان أعلن إفلاسنا الأخير، فلم يعد لدينا ما نعتز به ونعتبره جزءاً من ثقافتنا التي امتدت لقرون، ثم سقطت في قعر بئر التسفيه والإفلاس والضحك الرخيص والاستخفاف بالناس، وهو بيت القصيد الذي بدأ منذ أن اعتبرت حكوماتنا العتيدة أننا شعوب لا تستحق أكثر مما يقدم لها من فتات في العيش الرخيص وقبح على مختلف المستويات، وغش في كل شيء، وفساد يشكل قيمة تامة وصفة أساسية لكثير من الموظفين الحكوميين وتوابعهم! ثم لا بد من أن تصبح هذه سيرة كل المهنيين الآخرين، فالمهندس إما مفلس يكرر تصاميم مملة إن لم تكن قبيحة، والمقاول يتبعه بأن يبحث عن تنفيذ بأقل تكلفة حتى لو غش في المواد الأساسية، فسقطت الأسقف على ساكني بيوتها، ومحام أو محامية لا يفقهان إلا في الدفاع عن الفاسدين حملة الملايين أو الداعرات وليسوا كلهم بل أولئك المقربين من صناع القرار أو المال!
وخذ على ذلك كل المهن الأخرى فالصحافي والإعلامي إما حملة أختام لمن يدفع أكثر، وإما طبالون رخيصون جداً، والمطربون والفنانون على استعداد للقيام بأي عمل لا يمثل أي إضافة لمهنتهم أو لشخصهم فقط للمال بل مزيد منه، وإلا كيف يبرر من يقدم دوراً في مسلسل لشخصية تاريخية مهمة، وبعد لحظات يقفز على الشاشات في إعلانات لشركات اتصال أو مجمعات سكنية مخصصة لفئة قليلة جداً جداً من البشر، في حين الأغلبية تقضي النهار بحثا عن توفير إفطارها وعائلتها في شهر الصيام للمسلمين والمسيحيين أيضاً.
رمضان هذا أظهر وبشكل واضح إفلاس كتاب السيناريو من عاصمة الدراما، وحتى ضواحيها في الشام والخليج، وحتى المغرب العربي أصابهم بعض من ذاك الإفلاس، والأهم أن كتّاب السيناريو رغم كل الانتقادات لا يعيرون المشاهدين أي اهتمام، ويعتبرونهم كما يراهم حكامهم على أنهم كتلة من المتخلفين غير القادرين على تمييز العمل الجيد المتعوب عليه من العمل «المسلوق» سريعاً، والذي يستخف بعقل المشاهد وقلبه أيضاً، رغم أن هناك حاجة حقيقية لوقفة أمام هذا الكم من العبث، سواء على صعيد النصوص الضعيفة التي تعزز النمطية في أحسن الحالات في النظر للبشر أو الإخراج الملكف بصريا والخاوي من الفن والإبداع، والممثلين والممثلات المالكين للقدرة على التنطط بين كثير من الأدوار، وفي الوقت نفسه تقديم إعلانات تجارية لثلاجات وغسالات وغيرها، إنه الإسفاف والإفلاس مجتمعان معاً، عجبي!
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.