رغم ثقافته الواسعة، فقد كان الخليفة المأمون يصدّق بالتنجيم، وكان يتوقع أن زوجته ستُنجب له غلاماً، وفقاً لما تنبأ له بذلك المنجّم أبومعشر، لكنّها أنجبت بنتاً، فغضب وطلب المنجم:
- ستخرج من هذا القصر ولن تدخله ثانيةً أبداً.
- إنه الكندي يا مولاي.
- وما دخل الكندي في نبوءتك؟
- هو الذي أفسدها عليّ.
- وكيف ذلك؟
- لقد كان من تلامذتي، ويعرف سرّ إفساد النبوءة.
***
طلب المأمون أن يُحضَر له الكندي...
- يا أمير المؤمنين، أنا أعمل في الفلك والرياضة والفلسفة، ولشدّ ما أكره التنجيم.
- وهل لك عقل يستوعب الرياضة؟
- زودتُ عقلي بما في عقول أهل العلم.
- كيف؟
- قرأتُ ما كتبه أهل اليونان بعد أن ترجمته.
- ترجمته؟ وماذا ترجمت؟
- ترجمت رياضيات وطب وفلسفة وفلك أرسطو.
- وماذا كتبت من عقلك أنت؟
- كتبتُ في الفلسفة والمنطق والطب والنجوم.
- النجوم؟ فكيف تقول إنك تكره التنجيم؟
- علم النجوم يا مولاي من المحسوسات، والتنجيم رجمٌ بالغيب يا أمير المؤمنين.
- واضح... واضح... والله ما يفارق مثلك مثلي يا أبا إسحاق.
***
في عهد خلافة المأمون، تفرّغ الكندي للعلم، ولا تزال نظريته في «تناهي العدد» هي الأساس لنظرية المتواليات العددية والهندسية، وتأخذ بها الجامعات إلى اليوم.
- ولمّا توفّي المأمون، حكم من بعده المعتصم، واهتم بالكندي مثلما كان يهتم به والده، ولكن الوضع اختلف في عصر المتوكل الذي كان مهتماً بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، وطلب من الكندي أن يفعل ذلك، لكنّه قال للمتوكل:
- يا أمير المؤمنين في استطاعتي أن أملأ خزائنك بالذهب بطريقة غير المعادن.
- حقاً؟! كيف؟
- من نهر دجلة يا مولاي.
- نهر دجلة؟
- نعم يا مولاي... نشقّ منه ترعاً إلى قلب الأراضي البور، ونُقيم السدود على امتداد مجراه.
- أرني ماذا ستفعل.
***
وبدأ العمل في شق القنوات وأقيمت السدود وأصلحت الأراضي البور، فنما الزرع وحفل الضرع وتدفقت المحاصيل في خزينة الدولة، وعمّ الرخاء بفضل ما حققه فيلسوف العلم العربي أبوإسحاق الكندي.
***
بالطبع هناك الكثير مما يمكن أن يُقال عن الفيلسوف العربي الكندي، ولكن نحن نعيش في عصر الاختصار، والصفحة الأخيرة أقرب ما تكون إلى محطة الاستراحة في «الجريدة»، ثم إن تقديم معلومة متكاملة عن حدثٍ تاريخي بهذا القدر من الكلمات، ليس بالأمر الهيّن على الكاتب.