في ظلال الدستور: ردة عن الدولة إلى القبيلة لا ردة عن الإسلام

نشر في 30-10-2022
آخر تحديث 29-10-2022 | 19:22
 المستشار شفيق إمام يخطئ من يظن أن حروب الردة التي خاضها المسلمون في الأيام الأخيرة من حياة النبي عليه الصلاة والسلام وفي عهد أبي بكر أنها كانت حروباً دينية، وهو خطأ ساعد على شيوعه أعداء الإسلام الذين يزعمون كذباً أن الإسلام انتشر بالسيف، وأن الأعراب كانوا مكرهين على اعتناقه فنكصوا على أعقابهم مسرعين وارتدوا عنه خلافاً لما هو معلوم في الدين من أن حرية العقيدة كانت ولا تزال شرطاً لصحة الإسلام، في قول الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» خاصة وقد أعلن سيدنا أبو بكر الصديق نفسه أنه لا يحارب المرتدين حرباً دينية لأنهم على الإسلام، وإنما سيحاربهم حرباً سياسية، لأن الردة كانت فتنة لا يؤمن خطرها على الدولة الإسلامية، وقد امتدت لتشمل الخلافة كلها عدا الحواضر الثلاث المدينة ومكة والطائف، وقد جاءت وفود القبائل المتمردة إلى المدينة تعلن بقاءها على دين التوحيد، فلم يكن تمردها ردة عن الإسلام، بل ردة عن الدولة الى القبيلة، بعد أن وحد الإسلام قبائل العرب في شبه الجزيرة العربية في دولة واحدة، كان الإيمان يملأ قلوب أبنائها، ولكن كانت عصبية القبائل قوام حياتهم قبل الإسلام، والخصومات المتصلة التي تثيرها العصبية بينها والحروب والغزوات التي تنشب بينهم، حتى قال شاعر منهم متحدثا عن كثرة غاراتهم :

وأحياناً على بكرٍ أخينا

إذا ما لم نجدْ إلا أخانا

ولم يستطع أهل المدن والقرى أن يبرؤوا من العصبية، ولم يكن لهؤلاء أو أولئك سابق عهد بدولة سوى بقايا أساطير عن ملوك التبابعة وملكة سبأ في حصونهم التي كانوا يعيشون فيها، ويتسلطون على أهلها وعلى من حولها في حواضر الجنوب وبواديه، ولم تكن قد انقضت سوى بضع سنوات على إنشاء الدولة المركزية المنظمة التي أقامها الرسول، عليه الصلاة والسلام، في المدينة، على أساس الإخاء بين المهاجرين والأنصار، وتشمل بسلطانها مناطق اليهود والنصارى، وتحمي سرايا الدولة حماها في كل الأنحاء، وتحمي أركان الدولة بالحدود والتعزيزات ومن المدينة خرجت جيوش المسلمين في الغزوات وفي فتح مكة.

فلا عجب ولا غرابة إذا تمردت بعض القبائل على الدولة، مع استمرارها على معتقداتها الدينية، الإسلام أو المسيحية، فلم يكن دافع المسلمين في هذه القبائل فيما أطلق عليه حروب الردة، سوى دوافع العصبية للقبيلة في مواجهة قريش التي تستأثر بقيادة الدولة ورئاستها، لتستقل القبائل بشؤونها وشيوخها، وهو ما يحدث في الدولة الحديثة، حين يتمرد إقليم أو أكثر على الدولة الأم مطالبا بالانفصال، ويستخدم العنف لتحقيق هذا الانفصال، فتقوم الدولة بقوتها العسكرية بسحق هذا التمرد والقضاء عليه، لتثبيت دعائم حكمها وتقديم المشاركين في هذا التمرد الى العدالة، لما ينطوى عليه التمرد على الدولة، وفصل جزء من أراضيها من ارتكاب جريمة الخيانة العظمى، والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام في القوانين الحديثة.

ونستعرض فيما يلي ما أطلق عليه حروب الردة في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، لاتساع نطاق هذه الحروب وخطورتها، ثم حركات التمرد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنها كانت محدودة، وقد تم إخمادها كذلك في عهد أبي بكر، رضي الله عنه.

أولاً- حروب الردة في عهد أبي بكر:

وقد اتصف القرار الذي اتخذه سيدنا أبو بكر بحروب الردة بالحكمة، وأنه ثاقب البصر، أما سبب هذا التمرد فهو رفض القبائل المتمردة أداء الزكاة لبيت المال، واسترداد بعض القبائل سلطانها وخروجها على الدولة بهذا العصيان لكى لا يستحق على أفرادها الزكاة، بزعم أنهم كانوا يؤدونها الى النبي (صلى الله عليه وسلم) إنفاذاً لأمر المولى عز وجل في قوله سبحانه لنبيه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»، لذلك فإن أداءهم الزكاة لبيت المال لم يعد مأموراً به من المولى عز وجل، ولم تعد صلاة النبي سكنا لهم بعد أن مات.

وكانت وفود القبائل التي أعلنت هذا العصيان قد جاءت إلى المدينة لتعلن بقاءها على التوحيد في الدين، ولم يوافق سيدنا عمر الخليفة على قتالهم رضي الله عنهما، وذلك قبل أن يستفحل أمر الفتنة والتمرد قائلا له: يا خليفة رسول الله ارفق بهم، كيف تقاتلهم، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام «من قال لا إله إلا الله فقد عصم دمه وماله»، وكان رد أبي بكر رضي الله عنه: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليها»، وهو حوار ديموقراطي بين الصاحبين، يدل على إكبار الخليفة لسيدنا عمر، وإكبار الأخير للخليفة الذي قابل حرب الردة بأحزم ما تقابل به فتنة.



فقد كان أبو بكر رضي االله عنه يرى أن الوحدة السياسية للدولة الإسلامية هي وجه عملة وأن التوحيد في الدين هو وجهها الآخر، وكان الموقف عصيبا بين الصاحبين، إلا أن سيدنا عمر، رضي الله عنه، بعد أن استفحل أمر التمرد وثبت خطأه قبّل رأس الخليفة أبي بكر الصديق.

وقد هبت الأمة الإسلامية لحروب المرتدين فعقد الخليفة أحد عشر جيشاً، وعلى رأسهم أفضل القادة العسكريين ومنهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وشرحبيل ليعيدوا للدولة وحدتها السياسية وقد تحقق لها النصر والوحدة.

ولولا فضل سيدنا أبي بكر في هذا القرار التاريخي الذي اتخذه في حروب الردة، بعد فضل المولى عز وجل، لواجه الإسلام محنة فنائه واختفائه، وقد اصطفاه الله عز وجل مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليغير العالم ويطهر الدنيا، حيث انطلقت جيوش المسلمين بعد حرب الردة لتفتح العالم، وتزلزل أركان الإمبراطورية الفارسية وتكتسح بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية كما انتزع العرب مصر من الإمبراطورية البيزنطية وسحقوا القوات الفارسية في موقعة القادسية سنة (637م) وفي موقعة نينوى سنة (642م) وقد تم كل ذلك في عهد الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وبعد ذلك في سنة (711م) اكتسحت القوات الإسلامية شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي ثم عبرت مضيق جبل طارق إلى إسبانيا، لتكون الدولة الإسلامية، أكبر وأخطر إمبراطورية عرفها التاريخ.

ثانيا- حركات تمرد في عهد النبي:

ويبين من استعراض حركات التمرد التي ثارت في الشهور الثلاثة من حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن اثنتين منها كان أصحابها من المسلمين وقاموا بها مع استمرارهم على الإسلام دين التوحيد، وأن اثنتين أخريين كانتا من قبائل تدين بالمسيحية وكان هدف حركات التمرد الأربع الانشقاق على الدولة ووحدتها، وهي الحركات التالية:

1- حركة بن كعب بن عوف باليمن ومعه قبيلته عنس من قبيلة مذحج في سنة 11هـ في اليمن التي استولت على المنطقة الممتدة من صنعاء الى عمان الى الطائف.

وكان أبناء اليمن لهم ملك قديم، وإن تداولت على حكمهم الحبشة والفرس، وبين هذا وذاك حكم أهل البلاد، وكانت لهم كهانة تمزج بأي عقيدة كتابية أو غير كتابية، وكان من بين آلات السحر عند اليمنين تشويه الخلقة، ولهذا لم يكن مثيراً للدهشة أو الاستغراب أن ينجح الأسود العنسي فيما حققه من فوز عاجل في بداية هذه الفتنة، وقد كان مسخا مشوها حتى قيل إنه لحم بغير عظم، فلم يكن من عوائق النجاح وسامة الخلقة في ظل هذا السحر الذي اعتادوا عليه.

2- حركة تمرد قام بها طليحة بن أسد خزيمة الذي ادعى النبوة وتبعته قبائل أسد وغطفان وطيئ وعباس وذبيان والتي عادت تحت رعاية الدولة الإسلامية بعد هزيمته من المسلمين وقتله.

3- حركة تمرد تزعمها مسيلمة بن حبيب (الكذاب) وكان كاهناً من قبيلة كبيرة تدين بالنصرانية في (بني حنيفة) تقطن اليمامة بين نجد والأحناف واستمرالتمرد بعد وفاة الرسول إلى أن قضى عليه المسلمون في عهد أبي بكر، ومن مؤيديه طلحة النمري الذي قال له ( أشهد أنك كذاب في ادعائك النبوة، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب (ربيعة) أحب إلينا من صادق (مضر)

4- حركة التمرد التي تزعمتها سجاح بنت الحارث من بني تغلب وكانت عالمة راسخة في الديانة المسيحية التي تدين بها قبيلتها وحالفت مسيلمة وقيل تزوجته وكانت قد زحفت بقومها على ارض بنى تميم، التي استردها المسلمون بعد القضاء على التمرد.

وترتيبا على ما تقدم فإن التكييف الصحيح لحروب الردة من واقع هذه الأحداث كلها التي لا نملك لها تأويلا أو تغييراً وقد نقلناها بأمانة وصدق من مراجع كتّاب ومؤرخين سطروا هذه الأحداث، هي أن حروب الردة لا تعدو أن تكون ردة من القبائل عن الوحدة السياسية للدولة من شيوخها وأولي الأمر فيها الذين كان يحرقهم الشوق للجاه والنفوذ والسلطان على أفراد القبيلة، ويؤرقهم بالعصبية المقيتة للدولة التي استأثرت برئاستها قريش، ولم تكن ردة عن دين التوحيد الإسلام.

back to top