شارك ملك الكوميديا في بطولة 10 أفلام سينمائية منها «صاحب السعادة كشكش بك» (1931)، و«سلامة في خير» (1937)، و«سي عمر» (1941)، و«لعبة الست» و«أحمر شفايف» (1946)، وفيلمه الأخير «غزل البنات» (1949)، وشارك في بطولته مع كوكبة من النجوم، منهم ليلى مراد وأنور وجدي ويوسف وهبي وسليمان نجيب والموسيقار محمد عبدالوهاب.
اسكتش فكاهي
وُلِد الريحاني عام 1889 في حي «باب الشعريَّة» بالقاهرة، لأب عراقي من مدينة الموصل يُدعى إلياس ريحانة، كان يعمل بتجارة الخيل، وتلقَّى نجيب تعليمه في مدرسة «الفرير» الفرنسية بالقاهرة، وفيها ظهرت موهبته التمثيلية، فانضم إلى فريق التمثيل المدرسي، واشتهر بين مُعلميه وزملائه بقدرته على إلقاء الشعر العربي.
وبعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة حاليًا)، اضطر لقطع دراسته إثر رحيل والده، وعمل موظفًا بسيطًا في شركة لإنتاج السُكَّر بصعيد مصر، لكنه ضاق بالعمل الوظيفي، وقدم استقالته، وعاد إلى القاهرة، وعرض على صديقه محمد سعيد أن يُكوِّنا معاً فرقة مسرحية لتقديم الاسكتشات الفكاهية لجمهور الملاهي الليلية.
وكان لنشأته في حي شعبي وتجربته الوظيفية أثر على تجربته الفنية، وتمتّع بخفة الظل، وكشف السلبيات الاجتماعية، وقرّر أن يمضي في طريق الفن، وطرق أبواب المسارح، للبحث عن فرصة حقيقية أمام عمالقة التمثيل في عصره.
لحية الإمبراطور
وخاض نجيب تجربة التمثيل للمرة الأولى في مسرحية تراجيدية بعنوان «صلاح الدين الأيوبي»، وكان الفنان جورج أبيض يقوم بدور الملك الإنكليزي ريتشارد الأول قلب الأسد، بينما اختير للريحاني دور صغير (ملك النمسا) ويقتضي أن يبارزه، وينطق ببضع كلماتٍ فقط.
وتزامن عرض المسرحية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وكانت الصحف والمجلات تنشر صورًا لملوك وأباطرة الدول المتحاربة ومن بينها صورة الإمبراطور النمساوي فرانس جوزيف الأول، فخطر للريحاني أن يتقمَّص شخصيته، وذات ليلة قبل أن يظهر على خشبة المسرح، وضع لحية اصطناعية على وجهه، وحين رآه الجمهور ضجَّ بالضحك، وغضب جورح أبيض وطرده من الفرقة.
وغُلِّقت أبواب المسارح في وجه الممثل المغمور، وبات عاطلًا عن العمل، وأخذ يتردد على مقهى في شارع عماد الدين بوسط القاهرة، يجلس هناك ساعات طويلة، وذات يوم قرّر تكوين فرقة مسرحية مع الفنان عزيز عيد وآخرين في صيف عام 1915، وتبرع لهم أحد الأثرياء بمبلغ 10 جنيهات، واختاروا للفرقة اسم «فرقة المسرح العربي»، لكنها لم تصمد طويلاً أمام المنافسة الشرسة مع الفرق الكبرى.
كشكش بك
وعاد الريحاني إلى تقديم الاسكتشات الفكاهية في الملاهي، وسطع نجمه من خلال شخصية «كشكش بك»، ومن خلالها تناول بشكل ساخر سلبيات المجتمع، وفي أواخر العشرينيات، أسس مع صديق عمره الكاتب بديع خيري «فرقة الريحاني»، وقدمت عروضاً مقتبسة من المسرحيات الكوميدية الفرنسية، وحقّقت الفرقة شهرة واسعة في أرجاء العالم العربي.
وانضم إليها عمالقة التمثيل في ذلك الوقت، منهم عباس فارس وماري منيب وميمي شكيب وعبدالفتاح القصري، وانفرد الريحاني بدور البطولة، وجسّد شخصية الإنسان البسيط الذي تضعه الظروف في مواقف حرجة، وقدمها في قالب كوميدي ساخر.
واجهت فرقة الريحاني منافسة شديدة من الفرق الأخرى، لا سيما فرقة «علي الكسّار الفكاهية»، وكلاهما حاول جذب الجمهور إلى مسرحه، والاعتماد على الارتجال والخروج على النص، وانطبع في الأذهان أن عروضهما هزلية، وغايتها انتزاع الضحك من دون تقديم مضمون جيد، وبات الجمهور يرتادها بحثًا عن التسلية فقط.
وفي عام 1931، طرأ تحوُّلٌ مفاجئ على مسيرة الريحاني، واقتبس مسرحية «توباز» للكاتب الفرنسي مارسيل بانيول، وكانت تلك أجرأ خطوة يتخذها نحو الكوميديا الجادة، إلا أنها صدمت جمهوره الباحث عن الضحك، ورغم فشلها، فإنها شهدت بداية نضجه كفنانٍ كوميدي.
كازينو بديعة
تزوّج نجيب الريحاني في عام 1925 من بديعة مصابني، وتعرف عليها أثناء أحد عروضه في بيروت، واصطحبها معه إلى مصر، وافتتحت ملهى اشتهر باسم «كازينو بديعة»، وأسست «فرقة بديعة مصابني» واكتشفت العديد من المواهب، منهم تحية كاريوكا وفريد الأطرش، وسامية جمال، وكارم محمود، وعبدالفتاح القصري.
ودارت في كواليس حياتهما الزوجية مشاحنات كثيرة، وتهدده شبح الإفلاس بالاعتزال، وانصرف الجمهور عن مسرحياته الجادة، وتشاجرت معه بديعة، وشنت عليه حملة في الصحف، واتهمته بأنه فنان كسول وتضاعفت معاناته، وحينها تلقى دعوة من إميل خوري، أحد الأثرياء الشوام الذي كان يقيم في فرنسا، لتمثيل فيلم عربي في باريس من إنتاج شركة «إخوان غومون» الفرنسيَّة، فقبِل على الفور.
وكان الريحاني مفلسًا تمامًا حتى أن خوري أرسل إليه تذكرة السفر، ولمّا وصل إلى باريس وقَّع عقدًا لتمثيل ثلاثة أفلام خلال ثلاث سنوات، وابتعد تماماً عن المسرح، وملأ جيوبه الخاوية بالمال، إلا أنه تلقى برقية تتعجّل عودته إلى القاهرة، وعرض عليه مرسلها العمل بمسرح «برنتانيا»، ففرح بتلك الفرصة، وتملكه الحنين إلى أضواء المسرح.
وأبحر «الضاحك الباكي» عائدًا إلى مصر في ديسمبر 1933، وفي 11 مارس من العام التالي، فتح الريحاني الستار على كوميديا «الدنيا لمّا تضحك»، وحققت المسرحية نجاحًا كبيرًا، واستقبله الجمهور في ليلة الافتتاح بعاصفة من التصفيق، حتى بكى من شدة التأثر، واستعاد بريق نجوميته مُجددًا.
واستمر زواج نجيب وبديعة حتى عام 1949، قبل وفاته ببضعة أشهر، بينما رحلت مصابني في 1974، وعمرها 82 عامًا، وكانت قد كشفت أسباب الطلاق في برنامج «السيدة»، تقديم الإعلامية ليلي رستم، حيث قالت إن كلا منهما كانت له طبيعة شخصية مختلفة، فهو كان يسهر لوقت متأخر وينام في النهار، ويجلس مع بديع خيري للتأليف وعمل الروايات، بينما كانت هي تريد التنزه نهارا فلا تجد زوجها متاحًا للخروج معها، فقد كان إما نائمًا أو مندمجًا في العمل، ومن هنا تشاجرا معا، وانفصلا.
الزوجة الألمانية
وأخفى الريحاني قصة زواجه من سيدة ألمانية تُدعى لوسي دي برناي، وبعد سنوات طويلة من وفاته، ظهرت ابنته «جينا» وكشفت تفاصيل كثيرة عن تلك الزيجة، وأن والدتها كانت تقيم في مصر في بدايات القرن الماضي، لارتباط جدها بعمله كمهندس، والتحقت بفرقة رقص، وتعرّف عليها نجم الكوميديا، وضمها لفرقته المسرحية، وارتبطا بقصة حب جارفة، لكنها غادرت إلى فرنسا، واستقرت هناك، بسبب الغيرة من بعض الفنانات بفرقة الريحاني.
وظل الفنان الكبير يبحث عن محبوبته لوسي، وعثر عليها في باريس بعد 16 عامًا، وتزوجا وأنجبا ابنتهما «جينا»، ولم يعلن زواجه من الراقصة الألمانية بسبب القوانين في عهد هتلر التي كانت تمنع زواج الألمانيات من أجانب، وفشلت الابنه في استخراج أوراق ثبوتية وشهادة ميلاد باسم والدها، لكن تم تسجيلها عن طريق الكنيسة كابنة للريحاني.
وانفصل نجم الكوميديا عن زوجته الألمانية، بسبب زواجه من المطربة بديعة مصابني التي كانت تغار عليه بشدة وترفض تمامًا أي أحاديث تدور ولو همسًا عن زواجه بأخرى، لذلك لم يعلن زواجه من لوسي خشية غضب مصابني.
والتقت جينا بوالدها لآخر مرة، وعمرها 10 سنوات، وذلك في عام 1947 بباريس، وكان يحصل على إجازة لمدة شهر من المسرح، ويقضيها معها، وعلمت بوفاته بعدها بأيام، ووقتها كانت صغيرة، وتعيش مع والدتها في ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية، وحزنت عليه حزنًا شديدًا.
الحنين والوفاء
وبعد سنوات شعرت جينا الريحاني بالحنين لمصر مسقط رأس والدها، رغم اعتراض والدتها، وتزوجت جينا من مواطن مصري من مدينة الغنايم بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، وعاشت معه في مدينة الإسكندرية الساحلية، ولظروف خاصة ابتعدت تمامًا عن الحياة العامة وتفرغت لتربية ابنها وابنتها.
عقب وفاة زوجها، تحمست جينا لإحياء تراث والدها وتكريمه بشكل يليق بإسهاماته الرائدة، ودوره في المسرح المصري ونجحت في الحصول على تكريم بمهرجان القاهرة السينمائي عام 2008، وتسلمت جائزته بعدما أقنعها رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس بالظهور وتسلُّم الجائزة بنفسها.
لم تشاهد جينا والدها كثيرًا، لكنها سمعت عنه من والدتها، وأن شخصيته الحقيقية تشبه كثيرًا دوره في فيلم «لعبة الست»، كان هادئًا وحنونًا ومُحبًا لأسرته رغم ابتعاده عنهم لظروف الحرب العالمية الثانية، ولغيرة بديعة مصابني.
وواجهت ابنة الفنان الراحل اتهامات كثيرة بأنها ليست ابنته، وأنها تنسب نفسها إليه من دون سند حقيقي، خصوصاً أن الريحاني كما تردد كان عقيمًا ولم ينجب، وردت على ذلك بأن الدولة المصرية لا يمكن أن تنطلي عليها أكاذيب من هذا القبيل، وأنها أطلعت إدارة المهرجان على أوراقها الثبوتية التي تؤكد نسبها لنجيب الريحاني.
وأظهرت جينا قدرًا كبيرًا من الوفاء لوالدها، من دون أن تلتفت كثيرًا لتلك الاتهامات، لأنها لا تسعى للحصول على ميراث، أو أموال أو هبات لكونها ابنة الريحاني، بل إن مشاعرها كابنة جعلتها تبذل الجهد رغم تقدمها في العمر، وتلتقي المسؤولين بوزارة الثقافة المصرية للحصول على موافقتهم بتكريم وتخليد أعمال والدها بشكل يليق به وبدوره مثلما حدث مع كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وسائر عمالقة الفن.
وأقامت جينا على نفقتها الخاصة لافتات حديدية ضخمة، وعلقتها في الشارع الذي يحمل اسم والدها بوسط القاهرة، كما حصلت على مقتنياته من المسرح الذي يحمل اسمه، ومنها المقعد الخاص به في غرفته بالمسرح، وقصاصات من ستارة العرض، واحتفظت بها، وتسعى لعمل تمثال له ووضعه في حديقة الأزهر بمنطقة الدرّاسة لكي تعرف الأجيال الحالية والقادمة مَنْ هو الضاحك الباكي.
أول من قدّم «ريا وسكينة» قبل مئة عام
قدّم الفنان نجيب الريحاني قبل 100 عام، أول عمل فني يتناول قضية السفاحتين الشهيرتين «ريا وسكينة»، وعُرِضت المسرحية في فبراير 1922 بعد شهور من تنفيذ حكم الإعدام في المجرمتين اللتين كانتا تعيشان بمدينة الإسكندرية، وحظيت المسرحية بنجاح جماهيري وقتها.وقُدِمت مسرحية «ريا وسكينة» من خلال فرقة الريحاني، وشارك نجيب في كتابتها مع حسين شفيق المصري، وأخرجها الريحانى وقامت ببطولتها معه بديعة مصابني، واستيفان روستي، وحسن فايق، وعبدالمجيد زكي، وقدّم نجيب دور السفاح مرزوق، بينما قام الممثل حسين إبراهيم بدور ريا، وظهرت بديعة مصابني في دور إحدى ضحايا العصابة.
وفي مذكرات الريحاني، كشف تفاصيل هذا العمل بقوله: «أعددتُ رواية (ريا وسكينة) وأخرجتها في مسرح (برنتانيا)، وفاق نجاحها كل حد، بحيث كنت أسمع بأذني النحيب والبكاء صادرين من الجمهور.. وكم سمعت البعض ينادي بصوت عالٍ: (كفاية.. قتلتونا يا ناس)».
وقدّم الريحاني «ريا وسكينة» بعد تقمصه الشخصية الساخرة «كشكش بك» لفترة طويلة، وعلى الرغم من أدائه التراجيدي المتميز، طوى تلك التجربة، ليعود مرة أخرى إلى عالم الكوميديا المحبب إلى جمهوره، وهناك بعض الصور والمعلومات عن تلك المسرحية في موسوعة المسرح المصري.
نجم الكوميديا هدّد أعضاء فرقته بالسُم
تمتع الفنان نجيب الريحاني بخفة ظل وحضور في حياته العادية، كما كان على المسرح وفي أعماله السينمائية، وسادت روح الدعابة والمواقف الطريفة في الكواليس مع أعضاء فرقته التي ضمت عددًا من عمالقة الفن والكوميديا، منهم ماري منيب وزينات صدقي وسراج منير وميمي وزوزو شكيب وعبدالفتاح القصري واستيفان روستي.ومن هذه المواقف حين كانت فرقة الريحاني تقدّم مسرحية يتضمن المشهد الأول منها مائدة كبيرة يجلس إليها الفنانون المشاركون في العرض، كأنهم يتناولون الطعام، وكان الفصل الأخير من المسرحية يتضمن مشهدًا يتناول فيه الممثلون مشروبًا مسمومًا طبقًا لأحداث الرواية.
وكان الطعام الذي يُقدّم في المشهد الأول من المسرحية عبارة عن أكسسوار مصنوع من الجبس، وذات يوم أراد الممثلون أن يقدم لهم الريحاني طعامًا حقيقيًا خلال المشهد، واشترطوا أنهم لن يصعدوا المسرح ولن يؤدوا أدوارهم إلا إذا أحضر الطعام، ويختاروا أصنافه بأنفسهم.
وتظاهر الريحاني بموافقته على طلبهم، لكنه تهرّب بطريقته الفكاهية، وقال لهم: «طيب أنا موافق، وحيث إنكم عاوزيني أقدِّم لكم طعامًا حقيقيًا في الفصل الأول، فأنا أيضًا لازم أسقيكم سُمًا حقيقيًا في الفصل الأخير، وإذا وافقتم على طلبي فسأوافق على طلبكم»!
وهنا ضحك الفنانون المشاركون في المسرحية وتنازلوا عن طلبهم بعد أن استطاع الريحاني التهرب من شراء الطعام بطريقة ذكية، واستمرت ليالي العرض بالأكسسوار المصنوع من الجبس.