أطلقت الموجة الأخيرة من الاختبارات الصاروخية وغيرها من الاستفزازات العسكرية في كوريا الشمالية وفرة من التكهنات حول دوافع البلد، لكن تحمل معظم التوقعات عيباً مشتركاً، فهي تفترض أن فهم تحركات كوريا الشمالية لا يرتبط بعوامل داخلية بل بمعطيات خارجية.
يعتبر البعض الاختبارات رداً على العمليات العسكرية الأخيرة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، أو محاولات لتحسين قدرات كوريا الشمالية الدفاعية، ويزعم البعض الآخر أنها جزء من استراتيجية الزعيم كيم جونغ أون لانتزاع التنازلات التي يريدها من العالم الخارجي عبر افتعال أزمة يستطيع إخمادها لاحقاً مقابل بعض المكاسب. كذلك، يعتبرها آخرون تكتيكاً هجومياً للضغط على كوريا الجنوبية استعداداً لتنفيذ عملية غزو في نهاية المطاف، لكن يظن البعض أن الحرب في أوكرانيا هي محور القصة كلها، مما يعني أن كيم استوحى تحركاته من نجاح التهديدات النووية التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وهو مقتنع بأن الحرب ستمنع أي رد قوي ضد كوريا الشمالية، لكن تعكس هذه الآراء كلها وجهة نظر غربية تبالغ في تقدير أهمية التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة للتعامل مع شؤون العالم وتستخف في المقابل بالدوافع المحلية التي تحرّك صناعة السياسة. من الأفضل إذاً أن يدرك المسؤولون المكلّفون بصياغة رد مناسب على أحدث موجة من الاستفزازات الكورية الشمالية أن الأحداث الحاصلة في بيونغ يانغ تبقى أهم من تلك التي تشهدها العاصمة واشنطن.
تاريخياً، كانت حكومة كوريا الشمالية تطلق أكثر التحركات استفزازاً في مجال السياسة الخارجية حين تواجه مشاكل محتدمة محلياً. قد لا يكون تكتيك افتعال أزمة خارجية لتحويل الأنظار عن المشاكل الداخلية جديداً، لكنه جزء من صناعة السياسة في كوريا الشمالية أكثر من أي مكان آخر، نظراً إلى الجهود التي بذلها كيم طوال عقود لترسيخ نظام أيديولوجي محدد وسط الشعب وضمان صمود عائلته في السلطة. يتعلّم الكوريون الشماليون منذ الولادة أن العرق الكوري نقي وبريء وأعلى مستوى من الأعراق الأخرى، ويطّلعون على التهديدات الدائمة التي يواجهها الشعب بسبب الولايات المتحدة المخادعة، ويقتنعون بأهمية صمود قيادة قوية وأصيلة لدرء هذه التهديدات وقيادة الأمة في الاتجاه الصحيح وصولاً إلى إطلاق ثورة اشتراكية. لهذا السبب، يمكن اعتبار معظم المشاكل المحلية نتيجة للغدر الغربي، مع أن الإخفاقات الخطيرة تُشكك بمنطق النظام الدكتاتوري الذي يقوده كيم. إذا كان البلد يتخبط بأسوأ الطرق في الداخل ويُعتبر عاجزاً في الخارج، سينهار سبب وجود النظام. نتيجةً لذلك، ردّت القيادة تاريخياً على أخطر التحديات التي تواجهها عبر محاولة إقناع الرأي العام المحلي بأن عائلة كيم تبقى آخر خط دفاع عن الشعب الكوري الشمالي في هذه العلاقة الشائكة مع أخطر الخصوم.
يبدو أن تحركات كوريا الشمالية الراهنة تصبّ في هذه الخانة، وتكشف أحدث الأدلة أن اقتصاد البلد تضرر أكثر مما يظن الكثيرون بسبب العزلة المرتبطة بأزمة كورونا، والعقوبات الدولية، والتضخم العالمي، وسوء الإدارة الداخلية، فوفق أفضل تحليل أجراه «معهد بيترسون للاقتصاد الدولي»، قد تكون المرحلة الراهنة الأسوأ منذ حقبة المجاعات الكبرى في منتصف التسعينيات. يستنتج هذا التحليل أيضاً أن كوريا الشمالية أصبحت تحت عتبة الحد الأدنى من حاجات البشر على الأرجح خلال أحدث دورة حصاد.
ليس مصادفة أن تشدد وسائل الإعلام الحكومية في هذه الفترة على قوة كوريا الشمالية العسكرية، مع التركيز على البرنامج الصاروخي الذي اعتُبِر لفترة طويلة مؤشراً على القوة الوطنية واستقلال البلد ورُبِط بنظام كيم. كانت هذه المقاربة جزءاً من حملة دعائية محلية أصبح البلد بأمسّ الحاجة إليها. شددت مواضيع تلك الحملة على الدور المحوري لكيم جونغ أون في هذه التطورات العسكرية وأهمية توجيهاته الاحترافية، وربطت مشاعر الفخر الوطني بهذا التطور، وشجّعت الرأي العام على التضحية بالذات لحماية الأمن القومي. لا تُستعمَل هذه الخطوات على ما يبدو لتحقيق هدف دولي عملي بقدر ما تصبو إلى تحسين مكانة نظام كيم.
تتعدد العوامل الكامنة وراء تصرفات كوريا الشمالية في الفترة الأخيرة، وتؤثر المعطيات الاستراتيجية والجيوسياسية ومفاهيم الأمن على الوضع الراهن طبعاً، لكن يغفل الكثيرون عن دور الضرورات السياسية الداخلية، وغالباً ما يزعم صانعو السياسة الأميركية أن «جميع أنواع السياسات محلية بطبيعتها»، لكن يجب أن يتذكروا أيضاً أن الظروف الجيوسياسية قد تحمل طابعاً محلياً أحياناً.
* ميتشيل ليرنر
يعتبر البعض الاختبارات رداً على العمليات العسكرية الأخيرة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، أو محاولات لتحسين قدرات كوريا الشمالية الدفاعية، ويزعم البعض الآخر أنها جزء من استراتيجية الزعيم كيم جونغ أون لانتزاع التنازلات التي يريدها من العالم الخارجي عبر افتعال أزمة يستطيع إخمادها لاحقاً مقابل بعض المكاسب. كذلك، يعتبرها آخرون تكتيكاً هجومياً للضغط على كوريا الجنوبية استعداداً لتنفيذ عملية غزو في نهاية المطاف، لكن يظن البعض أن الحرب في أوكرانيا هي محور القصة كلها، مما يعني أن كيم استوحى تحركاته من نجاح التهديدات النووية التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وهو مقتنع بأن الحرب ستمنع أي رد قوي ضد كوريا الشمالية، لكن تعكس هذه الآراء كلها وجهة نظر غربية تبالغ في تقدير أهمية التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة للتعامل مع شؤون العالم وتستخف في المقابل بالدوافع المحلية التي تحرّك صناعة السياسة. من الأفضل إذاً أن يدرك المسؤولون المكلّفون بصياغة رد مناسب على أحدث موجة من الاستفزازات الكورية الشمالية أن الأحداث الحاصلة في بيونغ يانغ تبقى أهم من تلك التي تشهدها العاصمة واشنطن.
تاريخياً، كانت حكومة كوريا الشمالية تطلق أكثر التحركات استفزازاً في مجال السياسة الخارجية حين تواجه مشاكل محتدمة محلياً. قد لا يكون تكتيك افتعال أزمة خارجية لتحويل الأنظار عن المشاكل الداخلية جديداً، لكنه جزء من صناعة السياسة في كوريا الشمالية أكثر من أي مكان آخر، نظراً إلى الجهود التي بذلها كيم طوال عقود لترسيخ نظام أيديولوجي محدد وسط الشعب وضمان صمود عائلته في السلطة. يتعلّم الكوريون الشماليون منذ الولادة أن العرق الكوري نقي وبريء وأعلى مستوى من الأعراق الأخرى، ويطّلعون على التهديدات الدائمة التي يواجهها الشعب بسبب الولايات المتحدة المخادعة، ويقتنعون بأهمية صمود قيادة قوية وأصيلة لدرء هذه التهديدات وقيادة الأمة في الاتجاه الصحيح وصولاً إلى إطلاق ثورة اشتراكية. لهذا السبب، يمكن اعتبار معظم المشاكل المحلية نتيجة للغدر الغربي، مع أن الإخفاقات الخطيرة تُشكك بمنطق النظام الدكتاتوري الذي يقوده كيم. إذا كان البلد يتخبط بأسوأ الطرق في الداخل ويُعتبر عاجزاً في الخارج، سينهار سبب وجود النظام. نتيجةً لذلك، ردّت القيادة تاريخياً على أخطر التحديات التي تواجهها عبر محاولة إقناع الرأي العام المحلي بأن عائلة كيم تبقى آخر خط دفاع عن الشعب الكوري الشمالي في هذه العلاقة الشائكة مع أخطر الخصوم.
يبدو أن تحركات كوريا الشمالية الراهنة تصبّ في هذه الخانة، وتكشف أحدث الأدلة أن اقتصاد البلد تضرر أكثر مما يظن الكثيرون بسبب العزلة المرتبطة بأزمة كورونا، والعقوبات الدولية، والتضخم العالمي، وسوء الإدارة الداخلية، فوفق أفضل تحليل أجراه «معهد بيترسون للاقتصاد الدولي»، قد تكون المرحلة الراهنة الأسوأ منذ حقبة المجاعات الكبرى في منتصف التسعينيات. يستنتج هذا التحليل أيضاً أن كوريا الشمالية أصبحت تحت عتبة الحد الأدنى من حاجات البشر على الأرجح خلال أحدث دورة حصاد.
ليس مصادفة أن تشدد وسائل الإعلام الحكومية في هذه الفترة على قوة كوريا الشمالية العسكرية، مع التركيز على البرنامج الصاروخي الذي اعتُبِر لفترة طويلة مؤشراً على القوة الوطنية واستقلال البلد ورُبِط بنظام كيم. كانت هذه المقاربة جزءاً من حملة دعائية محلية أصبح البلد بأمسّ الحاجة إليها. شددت مواضيع تلك الحملة على الدور المحوري لكيم جونغ أون في هذه التطورات العسكرية وأهمية توجيهاته الاحترافية، وربطت مشاعر الفخر الوطني بهذا التطور، وشجّعت الرأي العام على التضحية بالذات لحماية الأمن القومي. لا تُستعمَل هذه الخطوات على ما يبدو لتحقيق هدف دولي عملي بقدر ما تصبو إلى تحسين مكانة نظام كيم.
تتعدد العوامل الكامنة وراء تصرفات كوريا الشمالية في الفترة الأخيرة، وتؤثر المعطيات الاستراتيجية والجيوسياسية ومفاهيم الأمن على الوضع الراهن طبعاً، لكن يغفل الكثيرون عن دور الضرورات السياسية الداخلية، وغالباً ما يزعم صانعو السياسة الأميركية أن «جميع أنواع السياسات محلية بطبيعتها»، لكن يجب أن يتذكروا أيضاً أن الظروف الجيوسياسية قد تحمل طابعاً محلياً أحياناً.
* ميتشيل ليرنر