تلاعب أميركي متعمّد في المعلومات الاستخبارية عن سورية «الأخيرة»
• خلال استقصاء للصحافي سيمور هيرش في كتابه «قتل بن لادن»
في مقابلات جديدة مع ضباط استخباريين وعسكريين ومستشارين حاليين وسابقين، لاحظتُ تصاعد المخاوف، أو حتى الغضب أحياناً، بسبب ما اعتبروه في مناسبات متكررة تلاعباً متعمداً بالمعلومات الاستخبارية. اعتبر مسؤول استخباري رفيع المستوى، في رسالة إلكترونية أرسلها إلى أحد زملائه، تأكيد الإدارة الأميركية على مسؤولية الأسد مجرّد «خدعة»، فكتب أن «الهجوم لم يكن على صلة بالنظام الحالي». وأخبرني مسؤول استخباري مرموق سابق بأن إدارة أوباما غيّرت المعلومات المتاحة لتمكين الرئيس ومستشاريه من جعل المعطيات الاستخبارية المُجمّعة بعد أيام على وقوع الهجوم توحي بأنها خضعت للتحليل والانتقاء في الوقت الحقيقي، تزامناً مع حصول الاعتداء.
عندما أعلن أوباما، في 10 سبتمبر، أن إدارته كانت تعلم أن فريق الأسلحة الكيماوية التابع للأسد هو من حضّر الهجوم مسبقاً، لم يكن يبني كلامه على معلومات تم اعتراضها أثناء تبادلها، بل على اتصالات جرى تحليلها بعد أيام على وقوع هجوم 21 أغسطس. أوضح المسؤول الاستخباري أن البحث عن الاتصالات المهمة يعود إلى تدريبٍ تم رصده في ديسمبر السابق، حيث استعان الجيش السوري بفريق الأسلحة الكيماوية ووزع أقنعة الغاز على عناصره، كما أعلن أوباما لاحقاً. لكن لم يكن التقييم الحكومي الصادر عن البيت الأبيض أو خطاب أوباما يصفان الأحداث الدقيقة التي مهّدت لهجوم 21 أغسطس، بل اشتقت تلك المواقف من الخطوات التي يطبّقها الجيش السوري بعد أي هجوم كيماوي. يقول المسؤول السابق: «لقد اخترعوا قصة عن خلفية ما حصل، وتكثر العناصر التي تتألف منها هذه القصة. هم استعملوا نموذجاً يعود إلى شهر ديسمبر». ربما لم يعرف أوباما أن هذه المعلومات تشتق من تحليل لبروتوكول الجيش السوري عند إطلاق أي هجوم بالغاز ولا ترتكز على أدلة مباشرة، لكنه توصّل في مطلق الأحوال إلى حُكْم متسرّع.لم يسرد باراك أوباما كامل القصة حين حاول إقناع الآخرين بأن الأسد كان مسؤولاً عن الهجوم بالأسلحة الكيماوية قرب دمشق في 21 أغسطس 2013 فهو تغاضى في بعض الحالات عن معلومات استخبارية مهمة
تشويه المعلومات
تزامن تشويه المعلومات بشأن الهجوم وتوقيته مع استعداد البيت الأبيض لتجاهل المعطيات الاستخبارية القادرة على إضعاف وجهة نظره. كانت هذه المعلومات تتعلق بـ «جبهة النصرة»، الجماعة الإسلامية المتمردة التي صنّفتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة تنظيماً إرهابياً. من المعروف أن هذه الجماعة نفّذت عدداً كبيراً من التفجيرات الانتحارية ضد المسيحيين وطوائف مسلمة غير سُنّية داخل سورية، وهاجمت «الجيش السوري الحر» العلماني، وهو حليفها الظاهري في الحرب الأهلية. كان هدفها المعلن يقضي بإسقاط نظام الأسد وفرض الشريعة الإسلامية. (في 25 سبتمبر، انضمّت «جبهة النصرة» إلى جماعات ثورية إسلامية أخرى لرفض «الجيش السوري الحر» وجماعة علمانية تُعرَف باسم «الائتلاف الوطني السوري»).
عميل إسرائيليلم يحصد الهجوم الصاروخي الأميركي المقترح ضد سورية أي دعم من الرأي العام يوماً وقد لجأ أوباما سريعاً إلى الأمم المتحدة والاقتراح الروسي لتفكيك مُجمّع الأسلحة الكيماوية السورية
في 20 يونيو، تلقى ديفيد ر. شيد، نائب مدير وكالة استخبارات الدفاع، وثيقة سرّية تتألف من أربع صفحات وتُلخّص المعلومات المُجمّعة عن قدرة «جبهة النصرة» على استعمال غاز الأعصاب. يقول المسؤول الاستخباري البارز: «كانت المعلومات التي تلقاها شيد مفصّلة وشاملة، ولم تكن مجرّد قناعات ذاتية». هو أخبرني بأن الوثيقة لم تقيّم مسؤولية الثوار أو الجيش السوري عن الاعتداءات في شهرَي مارس وأبريل، بل إنها أكدت على التقارير السابقة التي تعتبر «جبهة النصرة» قادرة على اقتناء السارين واستعماله. حصل المعنيون أيضاً على عيّنة من السارين المستعمل، بمساعدة عميل إسرائيلي، لكن يقول المستشار الاستخباري إن الوثائق المتبادلة لم تشمل أي معلومات أخرى عن تلك العيّنة.
موقع كيماوي
بغض النظر عن هذه التقييمات، دعت هيئة الأركان المشتركة إلى إجراء تحليل شامل للتهديدات المحتملة. يوضح المسؤول الاستخباري السابق: «يُعتبر الأمر الخاص بالعمليات ركيزة أساسية لتنفيذ المهام العسكرية عند إصدار أوامر بشأنها، وقد يتطلب أحياناً إرسال جنود أميركيين إلى موقع كيماوي سوري للدفاع عنه ضد الثوار. إذا كان الثوار الجهاديون ينوون اجتياح ذلك الموقع، من المستبعد أن يحاربنا الأسد لأننا نحمي الأسلحة الكيماوية من الثوار. تتضمن جميع الأوامر الخاصة بالعمليات عنصر التهديدات الاستخبارية. تعاون محللون تقنيون من وكالة الاستخبارات المركزية، ووكالة استخبارات الدفاع، وخبراء أسلحة، وفِرَق رصد المؤشرات والتحذيرات، لمعالجة المشكلة... هم استنتجوا أن الثوار يستطيعون مهاجمة أي قوة أميركية بالسارين لأنهم قادرون على إنتاج هذا الغاز الفتّاك. كان التحليل يرتكز على إشارات واستخبارات بشرية، فضلاً عن نوايا الثوار المعلنة وقدراتهم التقنية».
قلق الغزوسلسلة من التقارير السرية عن سورية خلال الصيف ذكرت أن أعضاءً من «الجيش السوري الحر» كانوا يشتكون أمام عملاء في الاستخبارات الأميركية من الاعتداءات المتكررة من مقاتلي «جبهة النصرة» و«القاعدة» ضد قواتهم
برزت أدلة مفادها أن عدداً من أعضاء هيئة الأركان المشتركة شعر بالقلق، خلال الصيف، من احتمال حصول غزو برّي لسورية ومن رغبة أوباما المعلنة في منح جماعات الثوار دعماً غير فتّاك. في شهر يوليو، طرح رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارتن ديمبسي، تقييماً قاتماً، فأخبر لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ خلال شهادته العلنية عن ضرورة نشر «آلاف العناصر من قوات العمليات الخاصة وقوات ميدانية أخرى» للاستيلاء على ترسانة الأسلحة الكيماوية المنتشرة على نطاق واسع في سورية، فضلاً عن «مئات الطائرات، والسفن، والغواصات، ومعدات أخرى». تشير تقديرات البنتاغون إلى بلوغ عدد الجنود 70 ألف عنصر، ويتعلق السبب جزئياً باضطرار القوات الأميركية لحراسة أسطول الصواريخ السورية: لن يكون الوصول إلى كميات كبيرة من المواد الكيماوية التي تنتج غاز السارين مفيداً للقوى المتمردة إذا كانت هذه الجماعات تفتقر إلى الوسائل التي تسمح لها باستعمالها. في رسالة إلى السيناتور كارل ليفين، حذر ديمبسي من مواجهة عواقب غير مقصودة إذا قرر المعنيون الاستيلاء على الترسانة السورية، فقال: «لقد استنتجنا من تجارب السنوات العشر الماضية أن تغيير ميزان القوى العسكرية لن يكون كافياً من دون تحديد العوامل الضرورية للحفاظ على دولة فاعلة... إذا انهارت مؤسسات النظام في ظل غياب أي معارضة قابلة للاستمرار، قد نزيد قوة المتطرفين عن غير قصد أو نطلق العنان للأسلحة الكيماوية التي نحاول السيطرة عليها».
رفضت وكالة الاستخبارات المركزية التعليق على هذه المسألة. قال متحدثون باسم وكالة استخبارات الدفاع ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية إنهم لم يعرفوا بالتقرير الذي وصل إلى شيد، وأعلنوا أنهم عجزوا عن إيجاده عندما تلقوا مؤشرات على وجود تلك الوثيقة. في غضون ذلك، قال شون تيرنر، رئيس الشؤون العامة في مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، إن تحليلات جميع وكالات الاستخبارات الأميركية، بما في ذلك وكالة استخبارات الدفاع، تشير إلى نجاح «جبهة النصرة» في تطوير القدرات اللازمة لتصنيع السارين».
لا يشعر خبراء الشؤون العامة في الإدارة الأميركية بالقلق من قدرات «جبهة النصرة» العسكرية بقدر ما عبّر عنه شيد في تصريحاته العلنية. في أواخر شهر يوليو، عرض هذا الأخير معلومات مقلقة عن قوة «جبهة النصرة» في «منتدى آسبن الأمني» السنوي، في كولورادو. وفق تسجيل للعرض الذي قدّمه، قال شيد حينها: «ثمة 1200 جماعة متفرقة في المعارضة على الأقل. وداخل صفوف هذه المعارضة، تُعتبر «جبهة النصرة» الأكثر فاعلية وبدأت قوتها تتوسّع». من وجهة نظره، يطرح هذا الوضع مخاوف جدّية علينا. إذا لم يُعالَج الوضع، «أشعر بقلق شديد من سيطرة أكثر العناصر تطرفاً» (تكلم عن «القاعدة» في العراق أيضاً). ثم تابع قائلاً: «ستزيد الحرب الأهلية سوءاً مع مرور الوقت... لم تبدأ مرحلة العنف الجامح بعد». لم يذكر شيد شيئاً عن الأسلحة الكيماوية في كلامه لأنه ممنوع من التطرّق إلى هذا الموضوع. كانت التقارير التي تلقاها مكتبه شديدة السرّية.
غياب الدعمإدارة أوباما التزمت بإسقاط نظام الأسد ومتابعة دعم الثوار وسعت في تصريحاتها العلنية منذ وقوع الهجوم إلى إضعاف نفوذ الجماعات السلفية
لم يحصد الهجوم الصاروخي الأميركي المقترح ضد سورية أي دعم من الرأي العام يوماً، وقد لجأ أوباما سريعاً إلى الأمم المتحدة والاقتراح الروسي لتفكيك مُجمّع الأسلحة الكيماوية السورية. انهار أي احتمال بتنفيذ تحرك عسكري في 26 سبتمبر، حين انضمّت الإدارة الأميركية إلى روسيا ووافقت على مسودة قرار الأمم المتحدة الذي يدعو نظام الأسد إلى التخلص من ترسانته الكيماوية. كان تراجع أوباما مريحاً بالنسبة إلى عدد من كبار الضباط العسكريين. (أخبرني مستشار رفيع المستوى في مجال العمليات الخاصة بأن الهجوم الصاروخي الأميركي غير المدروس ضد المطارات العسكرية ومواقع الصواريخ السورية كان ليصبح مرادفاً لتقديم دعم جوي مكثّف إلى «جبهة النصرة» لو أنه جرى بالشكل الذي تصوّره البيت الأبيض في البداية).
يطرح إصرار الإدارة الأميركية على تشويه الحقائق المحيطة بهجوم السارين سؤالاً حتمياً: هل نعرف كامل القصة عن استعداد أوباما للتخلي عن «خطّه الأحمر» وتهديده بقصف سورية؟ هو زَعَم سابقاً أنه يملك تبريراً قوياً لقراره لكنه وافق فجأةً على نقل المسألة إلى الكونغرس، ثم وافق على عرض الأسد بالتخلي عن أسلحته الكيماوية. يبدو أنه تعامل في مرحلة معينة مع معلومات متناقضة: إنها أدلة قوية بما يكفي لإقناعه بإلغاء خطته الهجومية وتقبّل الانتقادات الحتمية من الجمهوريين.
كان قرار الأمم المتحدة، الذي تبنّاه مجلس الأمن في 27 سبتمبر، يتعامل بطريقة غير مباشرة مع الفكرة القائلة إن قوات الثوار، مثل «جبهة النصرة»، ستضطر بدورها للتخلي عن أسلحتها: «يُفترض ألا تستعمل أي جهة في سورية الأسلحة [الكيماوية]، أو تُطوّرها، أو تنتجها، أو تقتنيها، أو تخزّنها، أو تحتفظ بها، أو تنقلها». كذلك، يدعو ذلك القرار إلى إبلاغ مجلس الأمن فوراً بإقدام أي «أطراف غير حكومية» على اقتناء أسلحة كيماوية. لم يذكر القرار أي طرف بطريقة مباشرة. فيما يتابع النظام السوري عملية التخلص من ترسانته الكيماوية، تكمن المفارقة الحقيقية في احتمال أن تصبح «جبهة النصرة» والجماعات الإسلامية المتحالفة معها الأطراف الوحيدة التي تستطيع الحصول على العناصر اللازمة لتصنيع السارين داخل سورية، علماً أن هذا الغاز أصبح سلاحاً استراتيجياً لا يشبه أياً من المعدات الأخرى في مناطق الحرب. أمام هذا الوضع، قد تبرز الحاجة إلى التفاوض حول مسائل أخرى كثيرة.خلال الاجتماعات العلنية والخاصة بعد هجوم 21 أغسطس تجاهلت الإدارة الأميركية المعلومات الاستخبارية المتاحة حول قدرة «جبهة النصرة» على الوصول إلى غاز السارين
الوصول إلى كميات كبيرة من المواد الكيماوية التي تنتج غاز السارين لن يكون مفيداً للقوى المتمردة إذا كانت هذه الجماعات تفتقر إلى الوسائل التي تسمح لها باستعمالها
الجيش السوري الحر وجبهة النصرة
ذكرت سلسلة من التقارير السرية عن سورية خلال الصيف أن أعضاءً من «الجيش السوري الحر» كانوا يشتكون أمام عملاء في الاستخبارات الأميركية من الاعتداءات المتكررة من مقاتلي «جبهة النصرة» و«القاعدة» ضد قواتهم. شملت تلك التقارير، وفق مستشار استخباري مرموق اطّلع على محتواها، أدلة مفادها أن «الجيش السوري الحر» يشعر «بالقلق من هؤلاء المجانين أكثر من الأسد». يتألف «الجيش السوري الحر» في معظمه من منشقين عن الجيش السوري النظامي. التزمت إدارة أوباما بإسقاط نظام الأسد ومتابعة دعم الثوار، وقد سعت في تصريحاتها العلنية منذ وقوع الهجوم إلى إضعاف نفوذ الجماعات السلفية. في بداية شهر سبتمبر، أثار جون كيري ضجة واسعة خلال جلسة استماع في الكونغرس حين زعم فجأةً أن «جبهة النصرة» وجماعات إسلامية أخرى كانت مجرّد لاعبة صغيرة في المعارضة السورية. لكنه تراجع عن هذا الادعاء لاحقاً.خلال الاجتماعات العلنية والخاصة بعد هجوم 21 أغسطس، تجاهلت الإدارة الأميركية المعلومات الاستخبارية المتاحة حول قدرة «جبهة النصرة» على الوصول إلى غاز السارين وأصرّت على اعتبار نظام الأسد الطرف الوحيد الذي يملك أسلحة كيماوية. إنها الرسالة التي نقلتها اجتماعات سرّية متنوعة وتلقاها أعضاء الكونغرس خلال الأيام التي تلت الاعتداء، حين كان أوباما يبحث عن من يدعم هجومه الصاروخي المُخطط له ضد المنشآت العسكرية السورية. أخبرني مشرّع خبير في الشؤون العسكرية منذ أكثر من عقدَين بأنه خرج من أحد الاجتماعات وهو مقتنع بأن «نظام الأسد وحده يملك غاز السارين وأن الثوار لا يملكونه». وبعد صدور تقرير الأمم المتحدة في 16 سبمتبر وتأكيده على استعمال السارين في 21 أغسطس، صرّحت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة سامانثا باور، خلال مؤتمر صحافي: «يجب أن نشدد على أن نظام [الأسد] وحده يملك السارين، وما من أدلة لدينا على وجود السارين لدى المعارضة».
لا يمكن التأكد من إبلاغ مكتب باور بالتقارير السرّية حول «جبهة النصرة»، لكن كان تعليقها يعكس الموقف الذي يطغى على الإدارة الأميركية ككل. يقول المسؤول الاستخباري السابق: «افترض الجميع سريعاً أن الأسد هو المذنب. سارع المدير الجديد لوكالة الاستخبارات المركزية إلى استخلاص هذا الاستنتاج... تصاعدت الضغوط السياسية لإقناع أوباما بمساعدة الثوار، وتمنى الكثيرون أن يضطر أوباما للتحرك بعد ربط الأسد بهجوم السارين. لكنّ جزءاً من أعضاء هيئة الأركان المشتركة الذين تبلّغوا بحصول هجوم وشيك لم يكن واثقاً من صوابية هذه الخطوة للأسف».