امتلك راتب موهبة فنية كبيرة، وتراكمت لديه خبرات حياتية بالغة الثراء والتنوع، وتحوّل الفتى الأرستقراطي إلى ممثل فريد في الأداء، ولا يحمل أصداءً من فنان أو نجم آخر، وجسّد عشرات الشخصيات المتباينة، وتعدّدت أقنعته بين الكوميديا والتراجيديا، وتعاون مع كبار النجوم والمخرجين في المسرح والسينما العربية والعالمية.

الشرير الظريف

Ad

وقد جسّد أدوار الشرير الظريف في أفلام عدة، منها دور «الأسطى رجب» في «بيت بلا حنان» (1976)، إخراج علي عبدالخالق، ودور «مدبولي» في «دندش» (1981)، إخراج يحيى العلمي، وفي عام 1980 قدَّم شخصية «عبدالجواد الغطريفي» في «شعبان تحت الصفر»، إخراج هنري بركات، وشخصية «نبيه بيه» في فيلم «البداية» (1986)، إخراج صلاح أبوسيف.

كما تألق في أعمال سينمائية أخرى، وألقى الكثير من النقاد السينمائيين باللوم على بعض المخرجين المصريين لأنهم فرضوا على جميل راتب الأداء الانفعالي الذي اشتهر به، سواء في أدوار الشر أو الكوميديا، بينما يختفي هذا الأداء في أفلامه الفرنسية والتونسية، وعدد قليل من الأفلام المصرية، مثل «لا عزاء للسيدات»، إخراج هنري بركات، و«حكاية وراء كل باب»، إخراج سعيد مرزوق، الذي ينقسم إلى ثلاث حكايات يظهر جميل في إحداها بعنوان «ضيف على العشاء»، وفيلم «خائفة من شيءٍ ما» الذي جسَّد فيه دور وكيل نيابة يحقِّق في إحدى جرائم القتل.

وفي أكثر من لقاء تلفزيوني صرح جميل راتب بأنه يميل إلى هذه الأدوار لأنها تتطلب كثيرًا من البحث والجهد والتحدي، وقد مزج ببراعة أدائه بين الانفعال الداخلي والخارجي، واتسم بأسلوبه المميز في تقمُص الشخصيات، وظهر في هيئة الشرير «الجنتلمان» الخارج على القانون، ويتمتع بكبرياءٍ لافت، كما أنه تألق أيضًا في الأدوار الإنسانية، وفي الحالتين برع في تجسيد الشخصيات المتباينة، وظل ينتقي أدواره بعناية فائقة، ويرفض الأعمال دون المستوى، ويصاحبه قلق الفنان واحترامه لذاته وجمهوره.

الحياة المبكرة

بدأت قصة جميل أبوبكر راتب، بمولده في القاهرة عام 1926 لأسرة أرستقراطية محافظة، وكان والده رجلًا وطنيًّا شارك في ثورة 1919، ووالدته (عالية سلطان) تتحدر من أسرة عريقة في صعيد مصر، وعمتها هدى شعراوي، رائدة النهضة النسائية المصرية، وظل يفخر بصلة قرابته لها، ويتحدَّث عن دورها في الحياة الاجتماعية خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكان له شقيقتان فقط هما منى وزاهية.

في ذلك الوقت كان أبناء الطبقة الأرستقراطية يلتحقون بالمدارس الأجنبية، ولكن الأب حرص على أن يلتحق ابنه بمدارس مصرية، ليكون على دراية كاملة بقواعد اللغة العربية، وظهرت إجادته للفصحى لاحقًا بعد عودته إلى مصر، ومشاركته في مسلسل «الكعبة المشرفة» عام 1981، الذي لعب فيه دور «إبليس» بشخصيات مختلفة على مدى 30 حلقة.

تعلّق جميل راتب بالفن منذ صباه، وتزامن التحاقه بالمدرسة الثانوية الإبراهيمية في أواخر الثلاثينيات، وازدهار الأنشطة الفنية في المدارس المصرية، وفي عامه الدراسي الأول، انضم إلى فرقة المسرح، وقدّم الكثير من العروض، وكان يحرص على حضورها الكثير من نجوم ذلك العصر، وتتنافس الفرق المدرسية في مسابقات سنوية، وحصل راتب على جائزة الممثل الأول، وأفضل ممثل أكثر من مرة على مستوى المدارس المصرية والأجنبية في مصر.

والتحق الشاب الصغير بكلية الحقوق الفرنسية في مصر، وكان في العشرين من عمره، حين شارك في عام 1946 في فيلمه الأول «أنا الشرق» مع ملكة جمال فرنسا النجمة كلود جودار، ونخبة من الممثلين المصريين، منهم جورج أبيض وحسين رياض وتوفيق الدقن.

ويدور الفيلم حول مجموعة من المغامرين الأجانب، يدعون أنهم بعثة آثار حتى يتمكنوا من التنقيب عن الذهب في صحراء مصر الغربية، ويقيمون في ضيافة إحدى القبائل العربية، ويكتشف حقيقة نشاطهم زعيم القبيلة «الشيخ فاضل»، ويقرِّر التصدي لهم.

وسافر راتب بعدها إلى فرنسا لاستكمال دراسته بكلية الحقوق، لكن شغفه بالفن دفعه بعيدًا عن مواصلة تعليمه العالي، وغضب والده حين علم بذلك، وامتنع عن إرسال المنحة التي كانت تبلغ 300 جنيه وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، واضطر عاشق التمثيل أن يعمل في عدد من المهن البسيطة، منها نادل في بعض المقاهي، وحمّال بضائع بسوق خُضر، وكومبارس، كما حصل على وظيفة مترجم، لإجادته اللغتين الفرنسية والإنكليزية.

وأتاحت تلك التجربة للفتى الأرستقراطي أن يتعرف إلى طبقات مختلفة من الشعب الفرنسي، وكانت فترة شديدة الثراء بالنسبة إليه، اكتسب خلالها خبرات حياتية متعددة، وازداد تقديره واحترامه للطبقات الأقل حظًّا، وشعر بآلامها ومعاناتها، واختزن في ذاكرته ملامح الوجوه المجهدة، ودأب أصحابها من أجل كسب الرزق.

وطرق راتب أبواب مسارح باريس، ولعب أدوارًا أساسية في بعض الفرق المغمورة، ثم أسس فرقته المسرحية مع بعض أصدقائه، فلفت الأنظار إلى موهبته. وشارك بعدها في مسرحيات لكبار الكُتَّاب، منهم شكسبير وموليير وأوغست ستريندبرغ وألبير كامو وبرانديللو، وصعد إلى خشبة مسرح «كوميدي فرانسيز»، وحقق نجاحًا كبيرًا، وظهرت صوره في الجرائد الفرنسية، وأشاد النقاد بموهبة هذا الممثل المصري، وإتقانه الشديد للتمثيل باللغة الفرنسية.

الوريث والأرجوحة

عاد جميل راتب إلى مصر في عام 1951 لفترة قصيرة، وذهب للقاء الفنان سليمان نجيب، واقتنع الأخير بموهبته، ومنحه دورًا أساسيًا في مسرحية «الوريث» مع فرقته المسرحية، ثم طار مجددًا إلى باريس، واستأنف نشاطه الفني في المسرح، وظل يتطلع إلى المشاركة في فيلم سينمائي، دون أن يجد الفرصة المواتية، ويحقق حلمه بالظهور على الشاشة بعد تجربته الأولى في فيلم «أنا الشرق».

في ذلك الوقت كان العديد من نجوم هوليوود، قد ذهب إلى لندن وباريس للعمل هناك، وسُميت تلك الفترة بـ «الحقبة المكارثية» التي استغرقت عشرة أعوام (1950ـ1960)، وشهدت إقصاء عدد كبير من الفنانين بتهمة الشيوعية أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

وأُتيحت الفرصة لراتب في باريس أن يشارك في فيلم ” Trapeze ”أو "الأرجوحة” عام 1956، إخراج كارول ريد، وبطولة بيرت لانكستر وتوني كيرتس وجينا لولو بريجيدا. وتدور أحداثه في إطار رومانسي داخل عالم السيرك.

وظهر جميل راتب بشخصية «ستيفان» أحد اللاعبين في السيرك، والصديق المقرب من «لولا» (جينا لولو بريجيدا)، ومثَّل في الفيلم بثلاث لغات، الإنكليزية والفرنسية، والعربية التي تحدث بها في حواره مع الممثل مينور واتسون، رغم أن كلاهما كان يجسِّد شخصية غير عربية.

ولفت راتب الأنظار في «الأرجوحة»، وقادته المصادفة إلى المشاركة في دور صغير بالفيلم الشهير «لورنس العرب» (1962)، إخراج ديفيد لين، وبطولة مجموعة من النجوم منهم بيتر أوتول وأنتوني كوين وعمر الشريف. ويحكي قصة حياة الضابط البريطاني «توماس إدوارد لورانس»، أثناء وجوده ضمن القوات الإنكليزية في القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918).

وكان «لورانس العرب» بمنزلة نقطة تحوُّل في مسيرة عمر الشريف، لكن الأمر لم يكن مماثلًا بالنسبة إلى جميل راتب، فقد سعى الأول إلى العالمية، وشارك بعدها في كثير من الأفلام الأميركية، بينما لم تستهوِ راتب الثقافة الأميركية، وسبح ضد التيار وظل متمسكًا بالثقافة الأوروبية والفرنسية على وجه التحديد، ويتملكه الحنين للعودة إلى وطنه.

غيمة في كوب ماء

شارك راتب في 15 فيلمًا فرنسيًّا، أشهرها «غيمة في كوب ماء» (2012)، الذي يحكي عن السيد «نون»، المصوِّر المصري الذي يعيش وحيدًا في فرنسا بعد وفاة زوجته، وتربطه علاقة صداقة بفتاة رومانية تُدعى «آنا»، جارته في البناية التي يسكن فيها، وهما يشتركان في حب المعكرونة الإسباغيتي، ومشاهدة أفلام «الويسترن» التي يؤديها النجم الأميركي كلينت إيستوود.

كما لعب دور الجد في فيلم «خليل حفيد مستر نون»، ودارت أحداثه في إطار من الفانتازيا الشاعرية، حول حفيد يلتقط تفاصيل حياة جده اليومية ليصنع عنه فيلمًا وثائقيًا. ولكن الجد يختفي فجأة، ويتضمن هذا الشريط السينمائي قدرًا كبيرًا من الاحتفاء بقيم الصداقة والنُبل الإنساني.

أنتونى كوين يبكي على كتف صديقه المصري

حفل ألبوم الفنان جميل راتب بذكريات كثيرة مع نجوم السينما العالمية، أثناء فترة إقامته في فرنسا، وحدث أن مر بضائقة مالية، ولم يجد عملًا ينفق منه على نفسه، فلجأ إلى النجم الأميركي أنتوني كوين الذي توطدت صداقته معه بعد فيلم «لورانس العرب»، فعرض عليه كوين أن يكون مساعد مخرج في فيلمه «زيارة السيدة العجوز»، وكان يهتم بتوجيهاته خلال مدة تصوير هذا الفيلم.

وكان أنتوني كوين تربطه علاقة طيبة بالرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، وتزامن وقت اغتيال كنيدي مع تصوير أحد المشاهد، وطلب المخرج من جميل راتب وفريق العمل، إخفاء الخبر عن كوين، حتى ينتهي من تمثيل المشهد.

وخرج كوين من غرفته لأداء المشهد، وفي أثناء سيره استمع إلى أحاديث العاملين عن تعرض كينيدي لاعتداء، وقتها توجه إلى راتب وسأله عن حقيقة الأمر، فأخبره الأخير بأن الرئيس الأميركي تعرض لإصابات طفيفة، وبعد انتهائه من التصوير، استفسر مرة أخرى، وصدمه الخبر كالصاعقة، وعاد مسرعًا إلى غرفته ورفض دخول أي شخص حتى مخرج الفيلم.

وتوجه راتب إلى غرفة كوين، بناءً على طلب المخرج وفريق العمل، وطرق الباب، وحين سمع النجم الأميركي صوته، سمح له بالدخول، وغادر معه موقع التصوير، واستقلا السيارة، وفي الطريق بكى كوين على كتف راتب، ووقتها شعر الفنان المصري أنه أصبح صديقًا غاليًا لدى أحد أساطين السينما الهوليوودية.

وبعد سنوات التقى راتب وكوين أثناء تصوير فيلم «عمر المختار» عام 1981، إخراج مصطفى العقاد، إلا أنهما لم يتقابلا معًا في أي مشهد، وأدى الفنان المصري أداءً صوتيًا «مدبلجًا» لشخصية الضابط الإيطالي «توميللي»، وشارك في «الدبلجة» مجموعة من الفنانين، منهم عبدالله غيث (دور عمر المختار)، وعمر الحريري وعادل المهيلمي وابراهيم الشامي وحسين الشربيني.

«دنيا البيانولا» تصطدم بالرقابة

جمعت الصداقة بين الفنان جميل راتب والمخرج المسرحي كرم مطاوع، وكان الأخير معجبًا بأداء راتب، وأول مَنْ قدَّمه على المسرح بعد عودته إلى مصر في فترة السبعينيات، حين شارك في المسرحية الغنائية «دنيا البيانولا» عام 1974، تأليف محمود دياب وبطولة المطربة عفاف راضي والمطرب محرم فؤاد.

وتعرضت «دنيا البيانولا» لصدام مع الرقابة لانتقادها سياسة الانفتاح الاقتصادي، وأثارت تحفظ وزير الثقافة آنذاك، يوسف السباعي، ووجه اللوم إلى فريق العمل لهجومهم على الحكومة من على خشبة مسرح الدولة. ودارت أحداث المسرحية حول بيت قديم يُعرض للبيع ليتحوَّل إلى بوتيكات.

وبعد «دنيا البيانولا» توالت أعمال راتب في المسرح، وقدّم من تمثيله وإخراجه مسرحية «الأستاذ» للكاتب سعدالدين وهبة، وشارك مع الفنانة سناء جميل في بطولة مسرحية «الزيارة» (1994) عن رائعة الكاتب السويسري فردريش دورينمات «زيارة السيدة العجوز»، وقام بإخراجها الفنان محمد صبحي، وحققت نجاحًا كبيرًا، وعُرِضَت على أحد المسارح في باريس.

فاتن حمامة توصي «الجنتلمان» بحماية عمر الشريف

تعرف الفنان جميل راتب على الفنانة فاتن حمامة أثناء تصوير فيلم «لورانس العرب» عام 1962، ووقتها كانت متزوجة من الفنان عمر الشريف، وحدث موقف طريف بينهما، عندما أوصت راتب أن يهتم بزوجها، قائلة له: «خلّي بالك من عمر».

وعندما سافر راتب والشريف إلى القدس لتصوير الفيلم، لحقت بهما فاتن، وتزاحم الجمهور على النجمة المصرية وزوجها عمر الشريف، ولم يتعرفوا إلى جميل راتب، حينها قال راتب مازحًا لفاتن: «خُدي بالك انتِ مني».

وبعد سنوات، التقى «الجنتلمان» مع سيدة الشاشة فاتن حمامة في العديد من الأعمال الفنية، منها الفيلم التلفزيوني «حكاية وراء كل باب» (1979)، تأليف توفيق الحكيم وإخراج سعيد مرزوق، وشارك في بطولته أحمد مظهر وأحمد رمزي وصفية العمري. وفي السينما من خلال فيلم «ولا عزاء للسيدات»، قصة كاتيا ثابت وإخراج هنري بركات، وشارك في البطولة عزت العلايلي وناهد جبر وحسين الشربيني.

واجتمع جميل وفاتن لآخر مرة عام 1991 في المسلسل الدرامي «ضمير أبلة حكمت»، تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج إنعام محمد علي، وشارك في هذا العمل مجموعة من النجوم منهم أحمد مظهر ويوسف شعبان وعايدة عبدالعزيز وعبلة كامل ومحمود الجندي وسميرة عبدالعزيز، وحقق نجاحًا كبيرًا.