جميل راتب... سفير السينما المصرية «3-6»

• الجاسوس أدمون ينجح في «الصعود إلى الهاوية»

نشر في 16-04-2023
آخر تحديث 15-04-2023 | 17:21
عاد الفنان جميل راتب من باريس إلى القاهرة، وسار عكس التيار من العالمية إلى المحلية، وبدأت رحلته في السينما والمسرح المصري خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، وتعاون مع عدد كبير من المخرجين والنجوم، ولفت الأنظار بأدائه المميز لأدوار الشر، وحققت أعماله نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.. وتوالت رحلة صعوده الفني. مر جميل راتب بثلاث مراحل خلال مشواره الفني، الأولى قبل سفره إلى فرنسا، وكان هناك مسرح قائم بالفعل على يد كثير من الرواد، مثل يوسف وهبي وعزيز عيد ونجيب الريجاني، وكانت الترجمة والاقتباس من أهم ركائز الحركة المسرحية حتى نهاية حقبة الأربعينيات. وحين طار إلى باريس، غاب عن المشاركة في مرحلة بزوغ مسرح مصري متكامل، وظهور جيل من المؤلفين والمخرجين، منهم توفيق الحكيم وزكي طليمات وعزيز أباظة، وبدأت النهضة المسرحية خلال عصر الستينيات الذهبي، واهتمام الدولة المصرية بالمسرح.

حدث تغيٌر ملحوظ في الاتجاه إلى مسرح واقعي يتحدّث عن هموم المجتمع المصري، ومن فرسانه في التأليف نعمان عاشور وسعدالدين وهبة ويوسف إدريس، وفي الإخراج كرم مطاوع وسعد أردش وجلال الشرقاوي وعبدالرحيم الزرقاني وغيرهم.

وكان جميل راتب يتابع ذلك الحراك المسرحي، وحرص خلال زياراته إلى مصر على حضور العديد من العروض المسرحية، وتوطدت علاقته بمخرجي فترة الستينيات، ودفعته تلك النهضة إلى التفكير جديًا في العودة إلى وطنه، والمشاركة بموهبته الكبيرة في تلك التظاهرة الثقافية غير المسبوقة، وزادت قناعاته بأنه في الطريق الصحيح، ولا يمكن أن يمتهن عملًا آخر غير التمثيل.

وحمل راتب تجربة ثلاثين عامًا في فرنسا، ووجد أن هناك فارقًا كبيرًا قبل وبعد ثورة يوليو 1952 من حيث تغيُّر شكل المسرح المصري ونظرة المجتمع إلى مهنة التمثيل، واختفاء لقب «المشخصاتي»، وأصبحت هناك أكاديمية للفنون يتخرج فيها أجيالٌ من فناني الموسيقى والغناء والإخراج السينمائي والمسرحي.

اقرأ أيضا

ولحق راتب بالعربة الأخيرة في قطار المسرح والسينما الجادة، وربما هذا ما يفسر غزارة إنتاجه خلال السنوات الخمس الأخيرة من حقبة السبعينيات، وحماسه الجارف إلى التعاون مع مخرجين بحجم كمال الشيخ وصلاح أبوسيف وكرم مطاوع، ومن جيل الشباب ـ آنذاك ـ علي بدرخان وأحمد فؤاد وعلي عبدالخالق وغيرهم.

«حب في الزنزانة» لقاء استثنائي مع سعاد حسني وعادل إمام



الجنسية الفرنسية

كان جميل راتب يحمل الجنسيتين المصرية والفرنسية، واعتقد البعض أنه من أصول غربية، ويرجع ذلك إلى إطلالته الأرستقراطية، وإتقانه اللغتين الفرنسية والإنكليزية، ومظهره الخارجي الأنيق، وهو الشعور الذي عززته الفترة الطويلة التي عاشها في فرنسا.

وهذا الأمر كان خارجًا عن إرادته لأن ثقافته فرنسية، حيث تعلّم المسرح في فرنسا وعمل فيه أيضًا، لكنه حرص على عرض مسرحياته بين القاهرة وباريس، إيمانًا منه بأهمية تبادل الثقافات بين الدول، ورفض عروضًا كثيرة لا علاقة لها بالفن، تندرج تحت مسمى «المسرح التجاري»، لأن الفن بالنسبة إليه، يحمل قيمة ومضمونًا يحرك العقل والوجدان، ويؤثر بشكل إيجابي في وعي وثقافة المجتمع.

تألق جميل راتب في سينما السبعينيات، وبعد نجاح فيلم «على من نطلق الرصاص؟» (1975) مع المخرج كمال الشيخ، أسند إليه الأخير دور «الجاسوس أدمون» في فيلم «الصعود إلى الهاوية»، وشارك في البطولة محمود ياسين ومديحة كامل وإيمان وعماد حمدي وإبراهيم خان، وقدم راتب دور الجاسوس ببراعة، وحقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، بعد عرضه في أول أكتوبر 1987، تزامنًا مع الاحتفال بذكرى انتصار حرب أكتوبر 1973.

و»الصعود إلى الهاوية» رواية للكاتب صالح مرسي، وصدرت عن دار الهلال المصرية عام 1976، وتدور حول قصة حقيقية لجاسوسة مصرية تُدعى «هبة سليم»، اختار لها المؤلف اسم «عبلة»، وتم تجنيدها في باريس من قِبل الموساد الإسرائيلي أثناء فترة حرب الاستنزاف لتتجسس على بلدها، ويرصد جهاز المخابرات المصري الأمر، ويُكلِّف الضابط «خالد سليمان» بالقبض عليها وترحيلها إلى مصر، وقد أحيلت إلى المحاكمة وجرى إعدامها.

وجاءت النسخة السينمائية متطابقة مع الرواية، وقام صالح مرسي بكتابة السيناريو والحوار، وفي أثناء فترة التحضير للفيلم، استقر المخرج كمال الشيخ على أداء جميل راتب لشخصية «الجاسوس أدمون»، ويُعد من أهم أدواره على الشاشة خلال فترة السبعينيات.



ولا عزاء للسيدات

وقبل أن يسدل راتب الستار على فترة السبعينيات، شارك في ثلاثة أفلام عام 1979، أولها الفيلم التلفزيوني «حكاية وراء كل باب» أمام فاتن حمامة، وإخراج سعيد مرزوق، والتقى مرة أخرى سيدة الشاشة العربية في الفيلم السينمائي «ولا عزاء للسيدات»، تأليف كاتيا ثابت وإخراج هنري بركات.

وتخلى النجم الكبير عن أدوار الشر في «خائفة من شيء ما»، ولعب دور المحقق «رياض كامل» أمام مجموعة من النجوم منهم رشدي أباظة وعزت العلايلي ونجوى إبراهيم وعماد حمدي وأبوبكر عزت، والفيلم قصة فتحي أبوالفضل وإخراج يحيى العلمي.

ويدور الفيلم في إطار تشويقي حول اختطاف «راشد» الطالبة «عصمت»، ويذهب بها إلى منزله، ليُفاجأ باللص «رؤوف» الذي ينقذها ويهرب بها، ويعترف لعصمت بأنه يضطر للسرقة من أجل الحصول على المال اللازم لعلاج ابنته المريضة، فتتعاطف معه وتتوالى الأحداث.

«المحقق» يواجه رشدي أباظة في «خائفة من شيء ما»

عروس البحر

وطار جميل راتب إلى بيروت عام 1980، وشارك في الفيلم الكوميدي الغنائي «عروس البحر»، بطولة سمير غانم ووليد توفيق وإيمان ونجوم السينما اللبنانية سعيد بركات وسهير صالحاني ونبيلة كرم وسمير فوزي، وتأليف وإخراج سمير الغصيني.

ويحكي الفيلم قصة مطرب شاب (وليد توفيق) يحاول ارتقاء سلم الشهرة، وتشعر خطيبته بالغيرة الزائدة لانشغاله بالفن، وتحاول إبعاده عن الغناء، ويتعرف على فتاة أخرى تدفعه إلى طريق النجاح.

وفي نفس العام، جسَّد راتب شخصية الشرير الظريف «عبدالجواد الغطريفي»، أمام النجم عادل إمام في فيلم «شعبان تحت الصفر»، تأليف سمير عبدالعظيم وإخراج هنري بركات، وشارك في البطولة إسعاد يونس وعماد حمدي وإيمان وأحمد راتب، وصلاح نظمي.





أسد الصحراء

وقد بدأ جميل راتب نشاطه السينمائي في عام 1981، بالأداء الصوتي «المدبلج» لشخصية الضابط الإيطالي «توميللي» في الفيلم العالمي «أسد الصحراء» للمخرج مصطفى العقاد، وبطولة أنتوني كوين وإيرين باباس، ويتناول هذا الشريط السينمائي قصة كفاح المجاهد الليبي عمر المختار، وصُوِّر في موقع الأحداث الحقيقية بمنطقة صحراوية تبعد 64 كيلومترًا عن مدينة بنغازي، وبدأ التصوير في 4 مارس 1979، وانتهى في2 أكتوبر من نفس العام.

وضم «أسد الصحراء» نحو 250 ممثلًا وممثلة من 18 دولة منها الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ومصر، بالإضافة إلى أكثر من خمسة آلاف من الممثلين المساعدين. وكان أول عرض عالمي للفيلم يوم 4 أبريل 1981 في الكويت.

المخرج حسن الإمام يرشحه لدور رجل أعمال أمام فريد شوقي

خلف أسوار الجامعة

وشارك راتب في فيلم «دندش» تأليف سمير عبدالعظيم، وإخراج يحيى العلمي، وقام بدور «مدبولي مزيف العملة» أمام نيللي ومحمود ياسين ويونس شلبي، كما جسّد شخصية «الأستاذ رمزي» في «خلف أسوار الجامعة»، قصة ضحى نجدي وإخراج نجدي حافظ، وبطولة سعيد صالح وشويكار وصلاح السعدني وليلى حمادة.

وتدور أحداث «خلف أسوار الجامعة» حين عاد الأستاذ «رمزي» من لندن بعد أن حصل على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، ويصطدم بالطلاب ولا يستطيع التفاهم معهم، ومنهم الأصدقاء الثلاثة «حسن وأحمد وسناء» الذين يكتشفون مقتل جارتهم المتسولة العجوز ويتم القبض عليهم لوجودهم في نفس المكان.

وعاد النجم المتألق إلى أجواء الأكشن في فيلم «وحوش الميناء» (1983)، سيناريو عبدالحي أديب وإخراج نيازي مصطفى، وجسّد جميل راتب شخصية رجل الأعمال «درويش» أمام النجم فريد شوقي وبوسي وفاروق الفيشاوي وأحمد بدير وصلاح نظمي، ويعد هذا الشريط السينمائي استمرارًا لبعض أفلام الستينيات ذات طابع الحركة والإثارة، والصراع بين الخير والشر.

وفي نفس العام التقى راتب مرة ثانية فريد شوقي في فيلم «كيدهن عظيم» تأليف محمود أبوزيد وإخراج حسن الإمام، وشارك في البطولة عفاف شعيب وتحية كاريوكا وفاروق الفيشاوي ونجاح الموجي ونبيلة السيد، ودارت القصة في أجواء ميلودرامية حول المعلم «أبو العطوف» الذي يتفق مع المَعلمة «عطاطة» على زواج ابنه إبراهيم وابنتها سماسم، ويذهب «عبدالبصير» خال إبراهيم ليبارك للعروس فيتعرف على عطاطة التي لجأت للمحامي الذي عمل معه كاتبًا منذ عشرين عامًا، لإثبات نسب ابنتها من رجل الأعمال الثري «لطفي»، وتتصاعد الأحداث.



إنهم يسرقون الأرانب

وتتابعت رحلة التنوع والثراء السينمائي، وجسّد راتب شخصية رجل أعمال يُدعى «علي» في الفيلم الكوميدي «إنهم يسرقون الأرانب»، بطولة سمير غانم ولبلبة ويحيى الفخراني ونظيم شعراوي، وتدور القصة حول شابين يُزج بهما داخل السجن بتهمة الدجل والشعوذة، ويلتقيان خلف القضبان برجل أعمال شهير ويكتشفان امتلاكه خريطة بها خطة محكمة للسطو على أحد البنوك، فيسرقانها منه، ويستعدان لتنفيذ عمليتهم القادمة فور انقضاء عقوبتهما، وتتابع الأحداث.

واختتم راتب نشاطه عام 1983، بلقاء استثنائي مع السندريلا سعاد حسني والزعيم عادل إمام في فيلم «حب في الزنزانة»، إخراج محمد فاضل، وبطولة مجموعة من النجوم، منهم يحيى الفخراني وعبدالمنعم مدبولي وماجدة زكي، وفاز هذا الشريط السينمائي بجائزة أفضل فيلم من المركز الكاثوليكي بمصر عام 1984.

والمفارقة أن المخرج محمد فاضل، استقر خلال فترة تحضير هذا الفيلم على ترشيح جميل راتب للمشاركة بدور مهم، بينما ترشح للبطولة النجم أحمد زكي وفردوس عبدالحميد (زوجة المخرج)، وكانا في ذلك الوقت وجهين جديدين، وتم توقيع العقد بالفعل، وفوجئا بخبر مكتوب في إحدى الجرائد أن الفيلم سيقدمه الفنانان عادل إمام وسعاد حسني.

وجسّد جميل راتب في «الحب في الزنزانة» شخصية «الشرنوبي» وهو رجل أعمال، يتاجر في الأغذية الفاسدة ويدفعه جشعه وجبروته للاتفاق مع أحد الشباب للاعتراف بالجريمة بدلًا منه ويُحكم عليه بالسجن، وخلف أبواب الزنزانة يتعرف على سجينة تدعى «فايزة» بسجن النساء وقع في حبها وتبادلا مشاعر الحب من خلال الرسائل، وبعد الإفراج عنهما يتزوجان ويقرران الانتقام من ذلك التاجر الجشع.

«عروس البحر» مغامرة كوميدية مع سميرغانم ووليد توفيق

تعذر لقائه بسعاد حسني في «الصعود إلى الهاوية»

التقى جميل راتب مع السندريلا سعاد حسني في أفلام عِدة، وشاركها بطولة «على من نطلق الرصاص؟» (1975) بعد عودته من باريس إلى القاهرة، وفي نفس العام تعذر لقاءهما الثاني في فيلم «الصعود إلى الهاوية».

بدأت القصة في فبراير عام 1976، حين أعلنت السندريلا اعتذارها عن عدم المشاركة في فيلم «الصعود إلى الهاوية» للمخرج كمال الشيخ، وهو الدور الذي قبلته النجمة مديحة كامل، وأدت دور «الجاسوسة عبلة» وأصبح من أهم أدوارها على الشاشة.

وسر رفض السندريلا لدور «الجاسوسة» هو أنها كانت تستعين بالكاتبين صلاح جاهين ورأفت أمين كمستشارين تأخذ رأيهما وتطلعهما على السيناريوهات قبل إبداء رأيها النهائي بشأنها، وبناءً على ملاحظاتهما على سيناريو هذا الفيلم انسحبت من العمل.

وبدورها كشفت الفنانة شهيرة، تفاصيل خاصة بفيلم «الصعود إلى الهاوية» وسبب رفض زوجها الفنان الراحل محمود ياسين تقديمها نفس الدور (الجاسوسة)، بدعوى أنها في بدايتها الفنية، وسيكرهها الجمهور. وكان المخرج كمال الشيخ قد رشحها للدور بعد اعتذار سعاد حسني.



حكاية «فرط الرمان» مع يوسف شاهين

جمعت الزمالة والصداقة بين الفنانين الراحلين جميل راتب ويوسف شاهين، وتشابهت بدايتهما الفنية إلى حد كبير، فالأول سافر إلى فرنسا، وجذبه تيار الفن، والثاني ذهب إلى أميركا لدراسة الإخراج السينمائي، ولكن شاهين عاد إلى مصر في غضون سنوات قليلة، بينما مكث راتب نحو ثلاثة عقود في باريس.

وتأخر لقاؤهما الفني حتى عاد راتب إلى القاهرة، وشارك في بطولة فيلم «شفيقة ومتولي» (1978)، وكان مقررًا أن يُخرجه يوسف شاهين، وبعد تصويره بعض المشاهد، شعر شاهين بمتاعب صحية، وأسند المهمة للمخرج علي بدرخان، وقام راتب بدور «أفندينا» أمام سعاد حسني وأحمد زكي وأحمد مظهر ومحمود عبدالعزيز.

وفي عام 1985، شارك راتب في فيلم «الوداع يا بونابرت» للمخرج يوسف شاهين، وهو إنتاج مصري - فرنسي مشترك، وضم مجموعة كبيرة من الممثلين، منهم الفرنسيان ميشيل بيكولي وباتريس شيرو، ومن مصر محسنة توفيق وصلاح ذوالفقار وهدى سلطان وتحية كاريوكا وتوفيق الدقن وسيف الدين عبدالرحمن ومحسن محيي الدين وأحمد عبدالعزيز وعبلة كامل. وتألق جميل راتب في دور «فرط الرمان» وهي شخصية حقيقية واسمه الأصلي «بارثلميو يني» الرومي الذي قاد مجموعة من الجنود لدعم الاحتلال الفرنسي لمصر، ولقبه المصريون بـ«فرط الرمان» لشدة احمرار وجهه، بينما وصفه المؤرخ الفرنسي بريجون بأنه كان وحشًا آدميًا.

وترشح «الوداع يا بونابرت» لجائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي الدولي عام 1985، وأعيد عرض الفيلم مرة أخرى في الدورة التاسعة والستين بنفس المهرجان عام 2016 بعد معالجة نسخة الفيلم رقميًا.

واستمرت الصداقة بين اثنين من عباقرة السينما المصرية، وكان جميل راتب يعتبر يوسف شاهين أستاذه في الفن، وجمعتهما مواقف ورؤى مشتركة، ولكن «الوداع يا بونابرت» ظل تعاونهما الفني الوحيد.

back to top