حروب أوروبا الدينية... وحروبنا!
هل تكون حروب وصدامات العالم العربي الراهنة منذ 2011 مثلاً، وأحداثه المتوالية، مدخلاً لحركة إصلاحية كبرى؟ لقد أزاحت هذه الأحداث منذ عام 2003 ثم 2011، دكتاتوريات متسلطة متغلغلة في العراق وليبيا وأنهت «حكومات أبدية» أو زعزعتها في تونس ومصر وسورية، ومن جانب آخر عرت الأحداث جماعات الإسلام السياسي وبخاصة الإخوان المسلمين والسلفيات الجهادية المقاتلة، في دول رئيسة مثل المملكة العربية السعودية ومصر وليبيا وسورية وحتى تونس، ونجمت عنها نتائج متباينة، ولكن رغم هذا المخاض الهائل من المحيط الى الخليج، لم تنضج الحركة السياسية الاجتماعية البديلة، ولم تتولد شرارة الإصلاح ولا بدا هلاله، لا في شمال إفريقيا ولا في مصر والسودان، ولا في العراق أو دول الشام، ولم تتوصل النخب الفكرية والسياسية في كل هذه الدول الى شكل من الإجماع السياسي، حتى على ضرورة الديموقراطية أو حتميتها للنهضة والإصلاح، كما كانت عليه الحال قبل «الربيع العربي» مثلا! ولا وقفنا مطولا أمام هذا العنف الرهيب الذي جمعت عليه «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» وغيرها كلمة «الجهاد»، ووحدت صفوف المقاتلين، و«نشرت الإسلام» في ربوع أوروبا، من موسكو الى برلين وبلجيكا وبرلين ومدريد.
شخصيا، كانت صدمتي الكبرى، ربما مع الكثيرين، ما جرى ولا يزال في العراق، حيث كانت المعارضة السياسية في الداخل والخارج تهدي الجماهير المنّ والسلوى والكعك والكباب وتعطيهم الشمس بيد والقمر بالأخرى، خلال سنوات منازلة الدكتاتورية، ثم فشلت هذا الفشل المحير في قيادة مجتمع ما بعد سقوط النظام حتى بات الكثيرون يتحسرون على بعض مظاهر الحياة في ظله، ولم تفلح في أن تبني شيئا خارج الطائفية والفساد، وما هو مؤلم أكثر أن الكثير من هؤلاء المعارضين كانوا مقيمين في دول الغرب وفي ظل ديموقراطيات وإدارات مدن وبلديات تعمل بدقة الساعة الذرية، ومع هذا، لم تستفد هذه المعارضة ورموزها من «سنوات النفي»، واحتفظ بعضها بثقافتها الحزبية الفاسدة وتعصباتها الطائفية بل مطامعها الانتهازية، التي أغرقت الشعب العراقي في الأوحال منذ ذلك الحين إلى اليوم، وها هو يثور من جديد في البصرة والنجف، بعد أن هدأت مناطق الأكراد و«العرب السنة»!
ولا يشفي الغليل أو يقنع العليل التحجج بالتدخل الإيراني والحرس الثوري حتى لو سلمنا وآمنا بذلك، ولا ينبغي التعذر بالسياسة الأميركية والمخططات الغربية، فالكثير من تجارب التغيير في العالم الثالث جوبهت بجار قوي أو سياسات غربية مضادة أو قوى محلية فاسدة مفسدة، بل بجنرالات وعسكر وانقلابات، إلا أن هذه التجارب نجحت، في حين لا يرى أحد نهاية لمآسي وعثرات العراق، التي لا تجد حلاً منذ سقوط الدكتاتور!
هل العراق عشائرية مناطقية... مثل ليبيا؟ وهل صراعات ليبيا تبرر ما يجري في العراق؟
كلا بالطبع، فالعراق ليس ليبيا، إذ كانت الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية وأسماء المثقفين والفنانين والباحثين جزءا أساسيا من صورة العراق، وقد ظلت موجودة ومؤثرة، فأين هذا مما يجري في ليبيا خلال الفترة نفسها؟ إن ما بعد نكسة يونيو (حزيران) 1967، حيث أطبق على أنفاسها نظام معمر القذافي المستبد الأصم نحو أربعين سنة، بدد فيها الأموال وأباد الزرع وجفف الضرع، وجمد الحياة السياسية والعقول، وأفسد حاضر البلاد ومستقبلها.
لقد عرفت أوروبا مثلا الحروب الدينية قبل أن تنهض في القرون اللاحقة، فهل نحن على الدرب نفسه سائرون؟ وهل نملك حقا الوقت والصبر والزاد؟
كانت حروب أوروبا الدينية خمساً أساسية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وقد شهدت ألمانيا وهولندا وإسبانيا وفرنسا أعوام 1555,1581,1589، وحرب الثلاثين سنة 1618- 1648 حروبا دينية مدمرة وأعمالا وحشية ومجاعات مخيفة، جعلت ذوي العقول في أوروبا يعون مخاطر الحروب الدينية والاشتباكات الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، والحاجة الماسة الى ترسيخ السلام وتنشيط التجارة، وتقول كتب تاريخ أوروبا إنه لم ينزل بمدينة ما نزل بمدينة «مجد بورغ» magdeburg، عاصمة «سكسونيا»، وسط ألمانيا الحالية، مدينة التجارة المزدهرة التي قد نقارن ما جرى لها بما جرى لمدينة حلب العريقة في سورية، إذ وقع بهذه المدينة الألمانية من الويلات الفظيعة في حرب الثلاثين عاما، بسبب ميولها البروتستانتية، ما وقع!
وقد حوصرت المدينة وتم اقتحامها بعد ذلك ودمرت بالنار، ويقول كتاب «تاريخ العالم» لهامرتون، المجلد السادس، «هلك عشرون ألفا من السكان في مذبحة وحشية لم يميز فيها الجنود بين رجال أو نساء أو أطفال أو شيوخ أو شباب، وارتاعت أوروبا من تلك المذبحة الهائلة التي ظلت مستمرة خمسة أيام عام 1551». (ص420).
وقد سلمت الكاتدرائية الشهيرة فيها من الحريق الهائل يومذاك، إلا أن الكنيسة التاريخية هذه، نالها دمار كامل بعد قرون خلال الحرب العالمية الثانية على يد طائرات الحلفاء التي دمرت نصف المدينة.
وقد نتساءل: لماذا من غير المرجح أن نستفيد كثيراً من الأهوال التي تمر بنا خلال السنوات الأخيرة؟ ربما لعدة أسباب من بينها غياب حرية الفكر والبحث، وقلة المعلومات الدقيقة المعلنة، وعدم رغبة الشعوب والأحزاب وحتى المثقفين في التصارح والتحاسب، ومن بينها للأسف استمرار التعصب المذهبي والقومي والديني والسياسي، وعدم نشر الوثائق، وعدم وجود مراكز الأبحاث المستقلة والجامعات الحرة والباحثين الجريئين، ولهذا كله لن نشهد بعد كل هذا الدمار «حركة إصلاح فكرية» أو قفزة مؤثرة خلال هذا القرن الذي مضى أو كاد خُمسه!
أحد رجال الثقافة العرب تساءل في إحدى «ندوات القرين» بالكويت قبل عشر سنوات: «يقولون ثقافتنا في خطر، ما هي ثقافتنا حتى نقول إنها مهددة»؟ وقال معقب أقل يأسا: «هل التعليم العربي أو الكويتي يؤدي إلى تحرير الفكر؟ كل مناهجنا موجهة مثل اقتصادنا»!
فأين المخرج؟