سيمور هيرش يكشف أسرار السياسة الخارجية في عهد نيكسون «5/1»
• في كتابه القيم «The Price of Power» عن فترة حساسة بالولايات المتحدة
تشمل المصادر الأساسية أكثر من ألف مقابلة مع مسؤولين أميركيين ودوليين، بعضهم متقاعد والبعض الآخر لا يزال في الحكومة، وشاركوا جميعاً في صناعة السياسة وتنفيذها بطريقة مباشرة، ووافق معظم من قابلتُهم على ذكر أسمائهم، واستندتُ أيضاً إلى وثائق داخلية ومذكرات منشورة تعود إلى شخصيات شاركت في صنع التاريخ في تلك الحقبة، لكن رغم طلباته المتكررة، لم يوافق كيسنجر ونيكسون على مقابلة هيرش في المرحلة التحضيرية لهذا الكتاب.
منصب مرموق
بعد الانتخابات، جُهّزت مكاتب أكثر أناقة، مع مفروشات ذات طراز قديم، وسجّاد منسوج يدوياً، وإطلالة على «حديقة الورود»، ومواقد لا تنطفئ على مدار السنة، لكن لنعد أولاً إلى منتصف سبتمبر 1968، حين كانت الانتخابات الرئاسية على بُعد أقل من شهرَين وكان المسؤولون عن صياغة بيانات السياسة الخارجية والداخلية في حملة نيكسون منشغلين بنشاطاتهم في مكاتب نيويورك التي تفتقر إلى المفروشات، داخل موقعٍ كان مقراً رئيسياً لدار الكتاب المقدس الأميركية.
كان ريتشارد نيكسون متفوقاً بأشواط على نائب الرئيس هوبرت هامفري وفق استطلاعات معهدَي «هاريس» و«غالوب»، لكنه كان يعرف أن السباق لم ينتهِ بعد، وكان معظم مستشاريه مقتنعين بأن فرص نيكسون للفوز في الرئاسة تتوقف على حرب فيتنام والمسائل المرتبطة بها. لهذا السبب، جرت اتصالات سرّية مع رئيس فيتنام الجنوبية، نغوين فان ثيو، في محاولة خفية وحذرة لثنيه عن المشاركة في أي محادثات سلام قبل الانتخابات. ونظراً إلى حجم المخاطر المطروحة، أصبح ريتشارد آلن، منسّق أبحاث السياسة الخارجية البالغ من العمر 32 عاماً في فريق نيكسون، عضواً أساسياً في هذه الحملة، وكان آلن واحداً من مسؤولين قلائل تابعوا دعم نيكسون خلال الأشهر التي تلت هزيمته الكارثية في كاليفورنيا، حتى أنه توقّع أن يصبح نيكسون رئيس البلد، أو وزير الخارجية، أو شخصية مؤثرة في الحزب الجمهوري على الأقل.
وأدرك آلن في تلك المرحلة أنه لا يتمتع بخبرة كافية كي يصبح مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون، لكنه كان يفضّل شخصاً معيّناً لتولي هذا المنصب: هنري كيسنجر. اجتمع هذان الرجلان للمرة الأولى في عام 1962، ثم جدّد آلن التواصل معه بعد فترة قصيرة على انضمامه إلى حملة نيكسون.
عرْض كيسنجر نقْل تفاصيل محادثات السلام إلى نيكسون كان سرّاً ليصدم أصدقاءه في وفد باريس
عميل سري
تناول هذان المستشاران الفطور معاً قبيل المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في «ميامي بيتش»، واتفقا على التعاون لتجنب أي خلافات مريرة بسبب فيتنام، وأسفر تعاونهما عن تسوية تفضّل المفاوضات على المواجهة، ووافق المشاركون في المؤتمر على هذا التوجّه بلا مشكلة، وبعد المؤتمر ببضعة أسابيع، تواصل آلن مع كيسنجر مجدداً وطلب منه أن يصبح جزءاً من فريق نيكسون الاستشاري الخاص بالشؤون الخارجية، لكنه تردد بضعة أيام ثم أخبر آلن بأنه يفضّل عدم الانضمام إلى حملة نيكسون بشكلٍ رسمي.
بحلول 10 سبتمبر، اتصل هنري كيسنجر بآلن وذكّره بكل جدّية بأنه لا يزال على صلة ببعض الأصدقاء والشركاء في مفاوضات باريس للسلام التي تجريها إدارة جونسون، وأوضح أنه يستطيع التواصل معهم. هل تهتم حملة نيكسون بهذا العرض؟ شعر آلن بحماس شديد: «كان اتصاله يعني استكمال فريقنا، إنه رجل متخصص بالأسلحة النووية والسياسة الخارجية، وهو مؤلّف كتاب مؤثر عن الاستراتيجية النووية».
خلال ساعات، وصل عرض كيسنجر إلى المرشّح الذي سُرّ به طبعاً. اعتُبِر دوره كعميل سرّي بالغ الأهمية لأن نيكسون كان يعرف أن إدارة جونسون أطلقت محاولات يائسة لبدء محادثات سلام فاعلة في باريس ولتحسين فرص انتخاب هامفري، وكانت قدرة كيسنجر على اختراق الإدارة الديموقراطية عالية المستوى، وسمحت له مسيرته المهنية في جامعة «هارفارد» وعمله في البيت الأبيض خلال عهد كينيدي بتكثيف تواصله مع مستشاري وزارة الخارجية حول شؤون حلف الناتو وأوروبا الغربية، وفي عهد جونسون، وسّع كيسنجر شبكة معارفه كي تشمل كبار المسؤولين في البيت الأبيض، والبنتاغون، ووزارة الخارجية، حين كان هؤلاء يبحثون عن طريقة لإنهاء حرب فيتنام.
بينما كان نيكسون يظن أنه نال الموافقة على العرض قصد كيسنجر بعض أصدقائه في «هارفارد» وأماكن أخرى وكشف لهم سرّه وطلب نصائحهم
تسوية لحرب فيتنام
كان عرض كيسنجر بنقل تفاصيل محادثات السلام إلى نيكسون سرّاً ليصدم أصدقاءه في وفد باريس، فقد تابع هؤلاء الوثوق به خلال الأسابيع التي سبقت الانتخابات، فتعاملوا معه كأنه لا يزال جزءاً من الفريق الذي يسعى إلى إقرار تسوية لحرب فيتنام.
وكانت جهود التفاوض التي بذلها كيسنجر في عام 1967 قد أوصلته إلى باريس أربع مرات على الأقل، بين شهرَي يونيو وأكتوبر. لم تتسرب أي معلومة إلى الصحافة حينها. بحلول تلك الفترة، كانت سمعة كيسنجر قد أصبحت ممتازة في البيت الأبيض أيضاً.
نجح كيسنجر في حماية أسراره، لكنه حرص على إقناع الجميع بأنه جدير بالثقة، في يوليو 1968، قابل جون نيغروبونتي الذي كان مسؤولاً شاباً في السلك الدبلوماسي، وقد سافر معه خلال أول زيارة له إلى فيتنام الجنوبية في عام 1965. في تلك المرحلة، أُعيد تعيين نيغروبونتي للتو في محادثات باريس للسلام، فأبلغ كيسنجر بأنه لا يستطيع إخباره بالكثير، ما يعني أنه لم يكن يعرف معلومات كثيرة عن المحادثات السرّية في تلك الفترة، لكن أساء كيسنجر فهمه، وقال له: «بلى، يمكنك أن تخبرني بكل ما تريده لأني أعرف كل شيء الآن».
عملية محفوفة بالمخاطر
في سبتمبر 1968، لم يكن ريتشارد آلن يعرف جميع تفاصيل عمل كيسنجر مع إدارة جونسون، لكنه اكتشف سريعاً أنه يتواصل معه بحذر شديد. خلال آخر شهرَين من الحملة الانتخابية، قام الرجلان بأربع أو خمس محادثات عابرة للأطلسي، حيث كان كيسنجر يبادر بالاتصال من هاتف عمومي منعاً للتنصت عليه.
وكان جون ميتشل، شريك نيكسون القانوني ومدير حملته، من أهم معارف آلن لتسهيل تواصله مع كيسنجر، وقد أصبح لاحقاً مدعي عام نيكسون وكاتم أسراره. يتذكر آلن أنه أخبر ميتشل عن تواصله مع كيسنجر وأصرّ على سرية هذه الاتصالات فقال: «شدّدتُ بشكلٍ أساسي على حماية المصدر، لأن هذه العملية محفوفة بالمخاطر. كانت حماية دور كيسنجر مسألة بالغة الأهمية لتحقيق المصلحة الوطنية».
ريتشارد آلن لم يكن يعرف جميع تفاصيل عمل كيسنجر مع إدارة جونسون لكنه اكتشف سريعاً أنه يتواصل معه بحذر شديد
تفعيل المحادثات
في 17 سبتمبر، وافق الرئيس جونسون على محاولة أخيرة لتفعيل محادثات باريس للسلام قبل الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر. ساد جو من الهلع في صفوف الحزب الديموقراطي: كان هامفري متأخراً عن نيكسون في استطلاعات معهد «هاريس» ولم يكن بصدد إحراز أي تقدّم.
وافقت صيغة السلام المقترحة على واحدة من نقاط التفاوض الأساسية التي تطرحها هانوي، أي وقف القصف من دون شروط مسبقة رسمية شرط أن توافق على إجراء محادثات سلام فورية، وكان يُفترض ألا تقوم شمال فيتنام بالمثل قبل توقّف سقوط القنابل، مع أن صيغة جونسون أوضحت أن هانوي يُفترض أن تكبح نشاطاتها العسكرية في المرحلة اللاحقة.
طُرِحت اقتراحات مشابهة على هانوي في الأوساط الخاصة منذ أكثر من سنة، لكن من دون إحراز أي تقدّم، لأن جونسون أصرّ على الالتزام بمفاوضات جدّية وحل سريع للحرب بعد بدء محادثات السلام، وقبل أقل من شهرين على نهاية الحملة الانتخابية، تخلى جونسون أخيراً عن هذا الشرط، وكانت الصيغة الجديدة لتُحقق إنجازاً في المحادثات في بداية أكتوبر وتتماشى مع أمر الرئيس جونسون بوقف قصف شمال فيتنام في 1 نوفمبر.
كان ريتشارد نيكسون أفضل مصدر للأحداث اللاحقة، فهو تطرق إليها في مذكراته التي نُشِرت في عام 1978. كتب نيكسون أن قرار جونسون بوقف القصف «لم يكن مفاجئاً لي. كنتُ أعرف منذ بضعة أسابيع أن التخطيط بدأ لهذا النوع من التحركات... سمعتُ بهذه الخطة عبر قناة غير مألوفة. بدأ كل شيء في 12 سبتمبر، حين تلقيتُ تقريراً من جون ميتشل مفاده أن هنري كيسنجر مستعد لمساعدتنا عبر تقديم توصياته».
في 26 سبتمبر، بعد أسبوعَين على أول اتصال بين ميتشل وكيسنجر، كتب نيكسون: «اتصل كيسنجر مجدداً، وقال إنه عاد للتو من باريس حيث سمع بحصول تطور هائل في ملف فيتنام، ثم نصحني بأن أتجنب أي أفكار أو اقتراحات جديدة إذا كنت أنوي التكلم عن فيتنام في الأسبوع اللاحق»، وكان حجم المجازفات الشخصية التي أخذها كيسنجر هائلاً حين قرر مساعدة معكسر نيكسون.
الرئيس جونسون وافق على محاولة أخيرة لتفعيل محادثات باريس للسلام قبل الانتخابات الرئاسية
المرشّح الأوفر حظاً
أُعجِب نيكسون وأقرب مستشاريه بعمل كيسنجر. في 27 سبتمبر، بعد فترة قصيرة على تلقي التحذير المرتبط بتحقيق إنجاز محتمل في باريس، قام نيكسون بدردشة غير رسمية مع الصحافي جوزيف كرافت الذي اعتبره فريق نيكسون من المراسلين الحياديين القلائل في الحملة الانتخابية.
وأثناء رحلة من تشاتانوغا إلى تامبا، حين كان الرجلان يناقشان مناصب السياسة الخارجية في البيت الأبيض في عهد الجمهوريين، فوجئ كرافت عندما أخبره نيكسون بأن كيسنجر هو المرشّح الأوفر حظاً لمنصب المساعد الخاص لشؤون الأمن القومي.
وفي مقابلة تم تصويرها في عام 1977، لكنها لم تُنشَر على القنوات التلفزيونية، تذكّر كرافت أنه قابل كيسنجر بعد بضعة أيام، فبدا كتوماً جداً ولم يُفصِح عما كان يفعله، وعندما أخبره بما سمعه، ذُعِر بالكامل وطلب منه ألا يذكر شيئاً أمام أحد، ولم يكن كرافت يعرف بتورط كيسنجر في عملية السلام طبعاً.
في أواخر شهر سبتمبر، تلقّت حملة نيكسون ثاني تقرير من كيسنجر. كتب نيكسون في مذكراته أن كيسنجر حذّر من احتمال أن يأمر جونسون بوقف القصف في منتصف أكتوبر تقريباً.
كان كيسنجر محقاً. في 9 أكتوبر، خلال الاجتماع الأسبوعي الدوري في باريس بين وفود من شمال فيتنام والولايات المتحدة، تحقق إنجاز آخر، إذ سأل وفد شمال فيتنام السفير أفيريل هاريمان إذا كان الموقف الأميركي الجديد يعني وقف القصف ضد شمال فيتنام إذا وافقت حكومة هانوي على تغيير سياستها والجلوس على طاولة المفاوضات في باريس مع ممثلين عن حكومة فيتنام الجنوبية بقيادة نغوين فان ثيو، فأجاب هاريمان بالإيجاب وتكلم عن ضرورة أن توافق شمال فيتنام على احترام المنطقة منزوعة السلاح بين شمال وجنوب فيتنام، ويُفترض أن تمتنع أيضاً عن أي أعمال عنف ضد مدن فيتنام الجنوبية.
كرافت فوجئ عندما أخبره نيكسون أن كيسنجر هو المرشّح الأوفر حظاً لمنصب المساعد الخاص لشؤون الأمن القومي
مذكرات نيكسون
ثم طرح ممثلو هانوي سؤالاً مباشراً: «هل ستوقفون القصف إذا أعطيناكم جواباً إيجابياً واضحاً حول مشاركة حكومة سايغون»؟ بدأت إدارة جونسون سلسلة من المشاورات المكثفة في سايغون وواشنطن للتوصل إلى الجواب المناسب، وكان جانب ضمني من هذه الصفقة يتعلق بمشاركة فيتنام الجنوبية في المفاوضات أخيراً مع جبهة التحرير الوطني «فيت كونغ» التي تمثّل المعارضة في الجنوب.
في 12 أكتوبر، اتصل كيسنجر بآلن مجدداً وأخبره، وفق مذكرات نيكسون، بأن «احتمال تحرك الإدارة الأميركية قبل 23 أكتوبر أصبح وارداً جداً»، وبعد يومَين، قررت إدارة جونسون الرد على سؤال هانوي بالإيجاب، فأطلقت بذلك المفاوضات الأخيرة التي تضمن توقّف القصف في 1 نوفمبر.
وكان آخر اتصال أجراه كيسنجر قبل الانتخابات الأكثر قوة. قبل 12 ساعة تقريباً من وقف القصف، اتصل كيسنجر بآلن وأخبره بأنه يملك معلومة مهمة، ثم قال له إن هاريمان ونائب وزير الدفاع سايرس فانس شربا الشامبانيا غداة التفاوض على وقف القصف وسيتم الإعلان عن الاتفاق قريباً.
وبحلول هذه المرحلة، بدأت حملة هامفري تزداد قوة بسبب شائعات متواصلة عن تحقيق إنجاز في باريس واستعداده المستجد لفصل نفسه عن الرئيس في ملف الحرب، وكشفت أحدث الاستطلاعات حينها أنه متأخر عن نيكسون بفارق نقطتَين، وكان واضحاً أن نتائج الانتخابات ستكون متقاربة.
ويستحيل حتى الآن تقييم الأثر الكامل لدور كيسنجر في فوز نيكسون في الانتخابات، إذ لم تُذكَر الجهود التي بذلها أو أهمية المعلومات التي نقلها في السجلات الرسمية، لكن من الواضح أن حملة نيكسون، التي تلقّت تنبيهات من كيسنجر حول نجاح محادثات السلام الوشيك، وجّهت مجموعة رسائل إلى حكومة ثيو لإقناعها بأن نيكسون سيتبنّى مواقف مختلفة من مفاوضات السلام إذا فاز بالرئاسة.
وبعد يومَين على إعلان البيت الأبيض مشاركة فيتنام الجنوبية في محادثات باريس للسلام، وقبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات الأميركية، خرّب ثيو الاتفاق حين أعلن في سايغون، في 2 نوفمبر، أن حكومته لن تشارك طالما تمثّل شمال فيتنام جبهة «فيت كونغ». ثارت حفيظة الرئيس جونسون وأمر مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية باكتشاف هوية من سرّب تفاصيل مفاوضات باريس إلى الجمهوريين.
تقارير لمصلحة نيكسون
ناقش كيسنجر في أول مجلّد من مذكراته، White House Years (سنواتي في البيت الأبيض)، التي نُشِرت في عام 1979، جزءاً بسيطاً من اتصالاته مع فريق نيكسون قبل الانتخابات، وكتب كيسنجر أن تواصله المباشر مع معسكر نيكسون بدأ بعد الانتخابات ببضعة أسابيع، حين دعاه دوايت تشابين (كان ليصبح قريباً سكرتير التعيينات في فريق نيكسون) إلى مقابلة الرئيس المُنتخَب في 25 نوفمبر. بعد ذلك الاتصال، كتب كيسنجر أن الرجال الحاضرين معه في تلك اللحظات استأنفوا الكلام بشكلٍ طبيعي «وكأن شيئاً لم يحصل. لم يتوقع أحد هناك أن يتعلق سبب ذلك الاتصال بعرض منصب مرموق عليّ في الإدارة الجديدة»، لكن أوضحت مصادر أخرى أن كيسنجر توقّع أن توصله تقاريره المحفوفة بالمخاطر لمصلحة حملة نيكسون إلى منصب مستشار الأمن القومي. ووفق السيرة التي كتبها مارفن وبرنارد كالب عن كيسنجر، كان هذا الأخير قد ناقش هذا المنصب سابقاً مع هلموت سونينفيلد، مسؤول استخباري في وزارة الخارجية الأميركية، وذكر كتاب الأخوين كالب أن سونينفيلد أخبر كيسنجر، بعد المؤتمر الجمهوري بفترة قصيرة، أنه أكثر من يستحق هذا المنصب.
حتى الآن يستحيل تقييم الأثر الكامل لدور كيسنجر في فوز نيكسون بالانتخابات إذ لم تتطرق السجلات الرسمية إلى جهوده أو أهمية المعلومات التي نقلها
حجم علاقاته وتأثيره
يتذكر ريتشارد آلن أن جيمس كوغ، مساعد بارز في الحملة الانتخابية، سأله عن الشخص الذي يوصي به لمنصب مستشار الأمن القومي، فأجابه آلن بلا تردد: «هنري هو الأفضل والألمع».
وتعليقاً على طريقة اختيار كيسنجر، يوضح نيكسون في مذكراته أنه اعتبر تقاريره السرية أساسية: «في آخر أيام الحملة، حين كان كيسنجر يقدم لنا المعلومات عن وقف القصف، أدركتُ حجم معارفه وتأثيره».
وهكذا وجد الرئيس الرجل الذي يبحث عنه وعرض عليه المنصب، بعد تواصلهما في 27 نوفمبر، فأعطى كيسنجر موافقته فوراً كما يقول نيكسون.
ولكن طرح كيسنجر تفاصيل مختلفة طبعاً، فكتب في مذكراته أنه لم يعرف طبيعة المنصب المعروض عليه حين تكلم مع نيكسون للمرة الأولى، وعندما عَلِم قبل لقائهما الثاني أنه يعني منصب مستشار الأمن القومي، طلب من الرئيس المُنتخَب أسبوعاً للتفكير بالعرض. ثم وافق بعد يومَين.
في تلك الفترة، حين كان نيكسون يظن أنه أخذ الموافقة على العرض، قصد كيسنجر أصدقاء له في «هارفارد» وأماكن أخرى وكشف لهم سرّه وطلب نصائحهم. خلال مؤتمر أكاديمي في جامعة «برينستون» في ذلك الأسبوع، قابل كيسنجر كارل كايسن، نائب مساعد شؤون الأمن القومي السابق في إدارة كينيدي، وتكلم معه سرّاً. يقول كايسن: «أخبرني هنري بأنه تلقى اتصالاً من نيكسون، وقد فوجئ حين طلب منه أن يصبح مستشار الأمن القومي في إدارته. ثم سألني: هل أنا مؤهّل لهذا المنصب، يا كارل؟ أشعر بخوف شديد». من بين الزملاء والأصدقاء الذين طلب كيسنجر نصائحهم، يتذكر معظمهم أنهم كانوا مقتنعين أن النصيحة الوحيدة التي أراد كيسنجر سماعها تقضي بتسلّم ذلك المنصب.