صحافي وقيادي مخضرم يعمل في صحيفة خليجية، يوماً ما، جمع رؤساء الأقسام ليستمع إلى أفكارهم ويحاورهم وعندما انتهوا من تقديم اقتراحاتهم التفت إليهم قائلاً: «أنا ديموقراطي بالسمع لكنني دكتاتوري بالتنفيذ»، وتلك حالة تعكس ثقافة القرار الواحد والرأي الواحد، نحن مجتمعات تنبذ ثقافة الرأي الآخر بل تعاقب قائلها، وكثيراً ما نسمع شعارات يدّعي أصحابها تقبل النقد والرأي المختلف، لكنهم في الواقع يمارسون أسوأ أنواع الاستبداد الفكري.

ثمة برامج في الفضائيات الخليجية تفوح منها رائحة الانحطاط، همها الإثارة الرخيصة وجلب الجمهور الذي يشرب من نبع واحد، حفلة ردح وزعيق لا علاقة لها بالتعبير عن حرية الرأي ولا الرأي الآخر، مشاكس باحتراف همه تسجيل أكبر عدد من المشاهدين وليس مهماً إذا أسكت ضيفه أو تطاول عليه بالصراخ الشارعي!

Ad

قبل خمس عشرة سنة أعطيته وصفاً ما زال ينطبق عليه حتى اليوم، صراخه مع مضيفيه يعتبره «فضيلة» وإذكاؤه لروح الصراع و«الاشتباك الكلامي» صارت متعته، وحركات يديه وهو يمسك بالقلم، ليقاطع محاوريه، أصبحت مشهداً للتندر على الأسلوب والمماحكات التي تستهويه.

الرأي الآخر ليس «لافتة» ترفع على أعتاب دور الصحف والفضائيات والمنابر الإعلامية، بل ممارسة والتزاماً وثقة بالنفس، إنما أن تقول الشيء وتعمل ضده فهذا منتهى الاحتقار ولا يمتّ للديموقرطية وحرية التعبير بشيء.

أدب الاختلاف ليس «بدلة» ترتديها ثم تبدلها ساعة تشاء لتأخذ أخرى، بل هو تربية ونهج وسلوك، وفي العموم الشخصية العربية تميل إلى «عبادة الرمز» و«القائد الأوحد» وإلى من يوجهها ويأخذ بيدها ويقودها، أما إلى أين فهذا موضوع آخر.

لا يختلف الأمر بين من يقود مؤسسة إعلامية وأخرى ثقافية وثالثة فكرية، فهذه «النخب» لا تتقبل النقد ولا الرأي الآخر.

مذيع عربي اشتهر بالزعيق، ودعا إلى «إبادة» مجموعة من البشر ينتمون إلى طائفة دينية، وراح يصفهم بمفردات تنمّ عن جهل وتعصب وتقدم صورة حية عن حجم التناقض بين الشعار والواقع، ويزيل اللثام عن وجوه استمرأت التضليل والدجل بأنهم يجمعون الرأي والرأي الآخر على طاولة واحدة!

في بعض «المجالس النيابية» العربية وفي بعض الفضائيات العربية الصورة التي تخرج إلى الجمهور لا تخطئها العين... ضرب الكراسي والأحذية والكؤوس، عدا عن لغة الشتائم والعنصرية، بعد أن تعطلت لغة الكلام والحوار.

تم تشويه الديموقراطية لدينا واختزلت «بالصندوق» وورقة الاقتراع، فلا ثقافة ديموقراطية ولا تداول للسلطة، ولا محاسبة ولا عدالة اجتماعية، فقط ديكورات خارجية أو ركوب الموجة للوثوب على السلطة تحت حجة «حماية الديموقراطية».

حتى ثقافتنا الدينية تصل إلينا على موجة واحدة، أنت تستمع وتحفظ فقط، فالمتلقى هنا غير مسموح له بالاعتراض أو التفكير أو حتى مجرد إبداء الرأي، وما عليه إلا العمل بالقول «نحن نسمعك».