الصراع الآخر على أعتاب أوروبا
تحظى الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا باهتمام الجميع، وهو أمر طبيعي، لكن هذا ليس عُـذراً لتجاهل أزمة أخرى تختمر على أعتاب أوروبا، فقد عادت التوترات بين أرمينيا وأذربيجان إلى التصاعد مرة أخرى، وهذا يزيد احتمالات اندلاع حرب أخرى.
قبل أيام قمت بزيارة إلى ممر لاتشين، الطريق الوحيد الذي يربط السكان من أصل عِـرقي أرمني في ناغورنو كاراباخ بأرمينيا والعالَـم الخارجي، ومنذ شهر ديسمبر منع الأذربيجانيون الوصول إلى الممر تحت ذريعة الاحتجاج البيئي، ومن الواضح أن هذا يحدث بدعم من النظام في باكو.
مع قيام «المحتجين» بإعاقة حركة المرور المدنية أو التجارية إلى ناغورنو كاراباخ بالكامل، تحذر منظمة العفو الدولية من حرمان نحو 120 ألف شخص من السكان من أصل عِـرقي أرمني من المنافع والخدمات الأساسية، بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة والرعاية الصحية.
بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى حرب ناغورنو كاراباخ في عام 2020 بين أذربيجان وأرمينيا، تعهدت أذربيجان بضمان حرية الحركة على طول الطريق في كلا الاتجاهين، وأقرت محكمة العدل الدولية بأن أذربيجان تنتهك التزامها برفض رفع الحصار، وعلى هذا فقد أصدرت أمراً في الثاني والعشرين من فبراير يُـطالِب أذربيجان باتخاذ كل الخطوات اللازمة لرفع الحصار، ولكن بعد مرور شهر لم يتغير أي شيء.
برغم أن قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة على طول الممر من المفترض أن تحمي المسار، فإنها لم تتحرك، وما لم تضغط أوروبا والمجتمع الدولي في عموم الأمر على أذربيجان لحملها على رفع الحصار، فقد تتحول الأزمة الإنسانية الحالية إلى كارثة إنسانية.
تستخدم أذربيجان الحصار وغيره من التدابير لخنق ناغورنو كاراباخ، وكثيرا ما يُـمـنَـع المقيمون هناك من العودة إلى منازلهم، كما تُـقـطَـع عنهم إمدادات الغاز والكهرباء على نحو منتظم دون سابق إنذار أو تفسير، ومن الواضح أن القصد هو جعل الحياة صعبة قدر الإمكان على السكان الأرمن، ولا يخلو الأمر من خطر حقيقي من تطهير عرقي وشيك، فلا يجوز لنا أن نحول أنظارنا بعيداً عن الأحداث الدائرة هناك.
من جانبه، استمر النظام الأذربيجاني (والمتصيدون التابعون له على الإنترنت) في التصغير من شأن التأثيرات المترتبة على الحصار أو حتى وجوده، لكنه رغم ذلك يرفض السماح للمراقبين الدوليين بالوصول إلى هناك لتقييم الوضع، فتتمثل الأولوية الأولى للمجتمع الدولي إذاً في إرسال بعثة لتقصي الحقائق إلى الممر تحت رعاية الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. يجب أن نوضح أن رئيس أذربيجان إلهام علييف سيواجه عواقب مؤكدة إذا استمر في الاستهزاء بقرار محكمة العدل الدولية الـمُـلزِم.
أوضحت حرب ناغورنو كارباخ في عام 2020 أن أذربيجان تتمتع بميزة عسكرية كبيرة على أرمينيا، بسبب الأسلحة التي اشترتها من روسيا وتركيا وإسرائيل، وقد تكرر التأكيد على هذه الحقيقية في سبتمبر، عندما استولت أذربيجان على أراض داخل أرمينيا ذاتها- بما في ذلك مواقع استراتيجية فوق مدينة جيرموك- بعد يومين فقط من تجدد القتال.
وعلى الرغم من أن أرمينيا لا تزال ملتحقة بعضوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي (التحالف الإقليمي الذي يربط روسيا بخمس دول سوفياتية سابقة قريبة)، فإنها لم تحصل على دعم صريح عندما طلبت المساعدة في أعقاب الهجوم على أراضيها السيادية، بل تُـرِكَـت ضعيفة وحيدة.
ما يزيد الطين بلة أن أذربيجان أبقت على قواتها على الأراضي الأرمنية ورفضت إعادة أسرى الحرب الأرمن، ومع توقف محادثات السلام، تبرز إشارات تحذيرية واضحة مفادها أن أذربيجان تعتقد أن بإمكانها أن تحقق من خلال الوسائل العسكرية ما لا يمكنها تحقيقه بالمفاوضات السلمية، ولا يمكن استبعاد هجوم متجدد على أرمينيا في الأشهر المقبلة.
مع عجز روسيا، التي تزود أرمينيا بالأمان تقليديا، عن تقديم المساعدة- أو عدم رغبتها في ذلك- يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور أكبر في الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة. أدرك كل من رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه الحقيقة وقررا تكريس رأس مال سياسي كبير لهذه القضية، وبعد تجدد اندلاع الأعمال العدائية في سبتمبر، أرسل الاتحاد الأوروبي بعثة إلى أرمينيا لمراقبة الحدود مع أذربيجان.
لكن الأمر يتطلب قدرا أكبر كثيرا من الجهد، فمن الأهمية بمكان الآن المسارعة إلى توسيع بعثة الاتحاد الأوروبي، التي تنتشر حاليا على الأراضي الأرمينية فقط، لتشمل مراقبة الحدود بين أرمينيا وأذربيجان بكامل طولها، ويجب على القادة الأوروبيين أن يمارسوا الضغوط على حكومة علييف لحملها على السماح لموظفي الاتحاد الأوروبي بالدخول إلى الأراضي الأذربيجانية، وبطبيعة الحال، لن تتمكن بعثة الاتحاد الأوروبي غير المسلحة من وقف الأعمال العدائية، لكن تصعيد وجودها من شأنه أن يفرض المزيد من الضغوط على أذربيجان لحملها على اختيار التفاوض بدلا من المواجهة العسكرية.
على مدار العام الماضي، أقام الاتحاد الأوروبي علاقات اقتصادية وثيقة على نحو متزايد مع أذربيجان، نظرا لتحولها السريع بعيدا عن الغاز والنفط الروسيين، ولكن يتعين على قادة الاتحاد الأوروبي أن يبلغوا علييف بوضوح أنه لن يُــسـمَـح له بالتصرف دون خشية من عقاب، وأن مصالح أوروبا التجارية القصيرة الأمد لن تفوق قيمها أو مصالحها البعيدة الأمد في الحفاظ على السلام والاستقرار في جنوب القوقاز. إذا استمرت أذربيجان في الاستهزاء بالتزاماتها الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية الـمُـلـزِمة قانونا، فيجب أن تواجه عواقب سياسية واقتصادية.
أرمينيا دولة ديموقراطية ناشئة تقع في جوار عامر بالتحديات، ومع تضاؤل نفوذ روسيا، يتعين على أوروبا أن تضطلع بدور أكبر في المنطقة، وهذا ليس شكلا من أشكال الصدقة أو الإحسان، فالعمل الآن من أجل منع اندلاع صراع كبير آخر- أو حتى عملية تطهير عِـرقي- في فنائنا الخلفي يصب في مصلحة الجميع.
* أندرس فوغ راسموسن الأمين العام الأسبق لمنظمة حلف شمال الأطلسي (2009-2014) ورئيس وزراء الدنمارك سابقاً، ومؤسس مؤسسة تحالف الديموقراطيات.