هيرش يرصد مرحلة حروب كيسنجر ضد البيروقراطية «5/3»
• أكد في كتابه «ثمن القوة» أن نيكسون أدار السياسة الخارجية بنفسه
يروي هيرش في كتابه أن «المصادر الأساسية تشمل أكثر من 1000 مقابلة مع مسؤولين أميركيين ودوليين، بعضهم متقاعد والبعض الآخر لا يزال في الحكومة، وقد شاركوا جميعاً في صناعة السياسة وتنفيذها بطريقة مباشرة. ووافق معظم من قابلتُهم على ذكر أسمائهم.
وقد استندتُ أيضاً إلى وثائق داخلية ومذكرات منشورة تعود إلى شخصيات شاركت في صنع التاريخ خلال تلك الحقبة».
لكن رغم طلباته المتكررة، لم يوافق كيسنجر ونيكسون على مقابلة هيرش في المرحلة التحضيرية لهذا الكتاب.
كانت ملخصات كيسنجر والتوصيات المرافقة لها لتصبح قريباً الوثائق الأكثر سرّية في البيت الأبيض خلال عهد نيكسون
عالَم الدبلوماسية
في أواخر شهر يناير، بدأ كيسنجر يجمع فريقاً مؤقتاً في مقر نيكسون بعد الانتخابات، في فندق بيار. وكان لورانس إيغلبيرغر من أوائل مساعديه، وهو مسؤول في السلك الدبلوماسي يتمتع بمؤهلات جمهورية مثالية، وكان ليصبح خلال الأسابيع القليلة اللاحقة مساعد كيسنجر الشخصي وواحداً من أقرب نوابه. بلغ إيغلبيرغر 38 عاماً حينها، وبدا رجلاً حذقاً ومنفتحاً من مدينة ستيفنز بوينت، بولاية ويسكونسن، لكنّه كان يحمل أيضاً جانباً صارماً في شخصيته، فقد عُرِف بمعاداته الشرسة للسوفيات، ودعمه الشديد لاستعمال القوة في عالم الدبلوماسية.
كانت والدته قد عملت في الحملات المحلية الخاصة بعضو «الكونغرس»، ميلفين ليرد، عن ولاية ويسكونسن، وهو الرجل الذي عيّنه نيكسون وزير الدفاع للتو. أرسل كيسنجر مذكرة هالبرن إلى إيغلبيرغر، وطلب منه أن يعدّلها كي تصبح مذكّرة موجّهة من كيسنجر إلى الرئيس من دون عِلْم هالبرن.
ويتذكر مساعد آخر لكيسنجر، وهو روجر موريس، الذي كان بدوره مسؤولاً في السلك الدبلوماسي، ردة فعل إيغلبيرغر على مذكرة هالبرن، فهو سأل فوراً: «ماذا حلّ بوزير الخارجية»؟
حين انتشرت الأخبار عن انقلاب كيسنجر ونيكسون وسط كبار المسؤولين في وزارة الخارجية تصاعدت مظاهر المعارضة
اللعبة البيروقراطية
ارتبك إيغلبيرغر بسبب مذكرة هالبرن. وبما أنه لم يكن يعرف معلومات كافية عن خلفية الإجراءات المعمول بها لتقييمها، فقد حاول بكل هدوء أن يطلب المساعدة والنصائح من هالبرن، كما يحصل دوماً في الأوساط البيروقراطية. كان كيسنجر، وهالبرن، وإيغلبيرغر، بارعين جداً في اللعبة البيروقراطية، رغم خلفياتهم المختلفة، لكن برز استثناء واحد: بدا وكأن كيسنجر لم يكن يدرك في المرحلة الأولى أنه قد يقع ضحية هذا النوع من المناورات بعدما أصبح مسؤولاً حكومياً مرموقاً.
تعامل هالبرن مع هذه المكيدة بكل هدوء: «أعطيتُ الوثيقة إلى هنري، ولم أشاهدها مجدداً. ثم رآني إيغلبيرغر وأخبرني بأن هنري يريد مساعدته لإعادة صياغة المذكرة قبل نقلها إلى الرئيس. كان هنري قد طلب من إيغلبيرغر ألا يخبرني بما يحصل، لذا طلب منّي إيغلبيرغر ألا أقول شيئاً. لم يكن هنري يعرف إذاً أنني أعلم ما فعله بمذكرتي». لم يرغب هالبرن، الذي كان يتوق إلى تسلّم منصب مهم في فريق كيسنجر، في إفساد فرصه عبر تبنّي مواقف لا نفع منها.
لكن هالبرن اضطر لمواجهة إهانة بسيطة في تلك المرحلة. كان كيسنجر يخشى أن يرغب غودباستر بالتخلي عن مهمته القتالية بشكلٍ دائم، ويبقى كبير المستشارين العسكريين في البيت الأبيض، بما يشبه دور الجنرال ماكسويل تايلور في إدارة كينيدي، عام 1961. سيصبح غودباستر في هذه الحالة منافساً مباشراً له. ويقول هالبرن إن الحل الذي اختاره كيسنجر كان يقضي بإقناع غودباستر بأن الأمن القومي يخضع لسيطرة مسؤول براغماتي قوي الإرادة. وبما أن جزءاً كبيراً من المسؤولين العسكريين في «البنتاغون» ينظر بعين الشبهة إلى هالبرن، فمن الأفضل أن يبقى هذا الأخير بعيداً عن الأنظار. كان هالبرن محقاً إذاً حين قال: «تعلّق جزء من مهام إيغلبيرغر في فندق «بيار» بطردي من مكتب هنري حين يعرف أن غودباستر قادم».
كان غودباستر من أوائل من دعوا الرئيس المُنتخَب إلى إحكام قبضته على مجلس الأمن القومي. والهدف من ذلك يتعلق بطرح آلية تضمن تدخّل الرئيس في القرارات السياسية الكبرى، مما يعني منع وزيرَي الخارجية والدفاع من التورط في خلافات لا يمكنهما الخروج منها بطريقة لائقة. لم يكن غودباستر يعرف طبعاً أن اقتراحاته البسيطة ستُستعمَل لتبرير إعادة التنظيم الجذرية التي يقودها نيكسون وكيسنجر، وهو ما ينسف احتمال نشوب خلاف بين «البنتاغون» ووزارة الخارجية من خلال إلغاء دور هذه الوزارة. وبموجب نظام مجلس الأمن القومي الجديد، سيتمكن كبار المسؤولين العسكريين من طرح اقتراحاتهم المهمة أمام كيسنجر مباشرةً، ومن دون موافقة وزير الدفاع أو نائبه مسبقاً.
كان غودباستر من أوائل من دعوا الرئيس المُنتخَب إلى إحكام قبضته على مجلس الأمن القومي والهدف يتعلق بطرح آلية تضمن تدخّل الرئيس في القرارات السياسية الكبرى
خداع برايس هارلو
في 27 ديسمبر، قدّم كيسنجر اقتراح هالبرن المرتبط بإعادة تنظيم المجلس والمؤلف من 10 صفحات إلى الرئيس المُنتخَب، بعدما نجح في خداع برايس هارلو وأبطل صلاحيات الجنرال غودباستر. هو اعتذر في ملاحظة جانبية عن طول الوثيقة (حتى عام 1967، كانت الصفحات العشر طويلة بالنسبة إلى نيكسون على ما يبدو)، وذكر أن غودباستر «يوافق على توصياته». وقد أعطى نيكسون موافقته في ذلك اليوم. وفي اليوم التالي، تم استدعاء أهم مستشاري السياسة الخارجية في الإدارة الجديدة إلى منزل عطلة نيكسون في «كي بيسكاين»، بفلوريدا، لعقد اجتماع مدته 5 ساعات حول الشؤون الخارجية. إلى جانب كيسنجر، حضر ليرد، وروجرز، وهارلو، وغودباستر، ونائب الرئيس المُنتخَب سبيرو أغنو. كان كيسنجر قد حضّر وثيقة فيها نقاط النقاش، وقدّمها نيكسون أمام مستشاريه لنيل موافقة رسمية، بعدما أوضح أنه وافق أصلاً على عملية إعادة التنظيم. ثم حصل على ما يريده.
حصلت الصحافة على ملخّص عن الاجتماع، لكن تمّ تضليلها عمداً. قيل للصحافيين، كما ذكرت «نيويورك تايمز» في صباح اليوم التالي، إن نيكسون كان ينوي «توسيع دور مجلس الأمن القومي»، وأمر كيسنجر بتقديم خطة إعادة التنظيم «خلال الأسابيع القليلة اللاحقة». تعاملت أولى التقارير المرتبطة بخطة إعادة التنظيم المقترحة مع مواقف كيسنجر ونيكسون بشكلها الظاهري. وبدأ جيمس ريستون، الصحافي البارز في «تايمز»، يقيم روابط ستتحول لاحقاً إلى علاقة وثيقة مع كيسنجر، فذكر أن ارتباط أحد أهداف الإدارة الجديدة بإعادة بناء مجلس الأمن القومي واسترجاع «الصلاحيات التي كان يملكها في عهد الرئيس أيزنهاور»، بعد يومَين على تعيين كيسنجر مستشاراً للأمن القومي، هو وضع «مُطمئِن».
وفي مقالة تحليلية نُشِرت بعد بضعة أيام، رفع مدير مكتب «تايمز» في واشنطن حينها، ماكس فرانكل، مكانة كيسنجر الأكاديمية إلى مرتبة قريبة من العَظَمة المطلقة. وكتب فرانكل: «لقد أصبح، في عمر الخامسة والأربعين، قائداً لأول جيل من الأكاديميين في العصر الذرّي لكونه يحاول التكيّف مع عواقب توازن الرعب». وقد عكست هذه التعليقات الإيجابية عن كيسنجر راحة فائقة وسط الصحافة في واشنطن، لأن نيكسون لم يختر شخصاً أقل ذكاءً أو ذا توجهات يمينية أكثر تطرفاً. ربما تعلّق عامل مؤثر آخر بالهيبة التي تعطيها جامعة هارفارد للمتخرّجين منها. في مطلق الأحوال، كان واضحاً أن كيسنجر لن يضطر لاستمالة الصحافة لمصلحته، فقد استفاد من هذه الميزة منذ تسلّمه منصبه.
حتى هالبرن الذي تفاخر دوماً بنزعته البراغماتية وشارك في إنشاء نظام مجلس الأمن القومي الجديد بقدر جميع المسؤولين الآخرين باستثناء كيسنجر لم يفهم في البداية جميع أهداف كيسنجر الحقيقية
انقلاب ومفاوضات
خلال بضعة أيام، حين انتشرت الأخبار عن انقلاب كيسنجر ونيكسون وسط كبار المسؤولين في وزارة الخارجية، تصاعدت مظاهر المعارضة. لكنّ المعارضين المحتملين اضطروا أولاً لاستمالة وزير الخارجية الجديد.
يتعلق أحد ألغاز حقبة نيكسون بالسبب الذي دفع الرئيس المُنتخَب إلى تعيين ويليام روجرز وزيراً للخارجية. كان روجرز (55 عاماً) عند تعيينه، وهو جمهوري مرموق شَغَل منصب المدعي العام في إدارة أيزنهاور، وقد جمعته هو وزوجته صداقة مع عائلة نيكسون في سنوات الأزمة، عندما كان نيكسون نائب الرئيس أيزنهاور.
وحين زاد نجاح روجرز بمجال المحاماة في نيويورك وواشنطن، خلال الستينيات، حصل تباعد بين الرجلَين، علماً بأن نيكسون كان يزاول المحاماة أيضاً في نيويورك بعد هزيمته في انتخابات حاكم كاليفورنيا. لم يكن روجرز أول خيار فكّر به نيكسون لمنصب وزير الخارجية. لكن حين ناقش تعيين روجرز للمرة الأولى، يتذكر برايس هارلو أن الحاضرين اتفقوا على أنه يستطيع تسلّم المفاوضات مع الروس. وقد اعتبره هارلو رجلاً «بارداً، ولئيماً، وصارماً». ورداً على سؤال عن السبب الذي جعل روجرز ووزارته يتقبلان سيطرة كيسنجر عليهما، اكتفى هارلو بقول ما يلي: «روجرز لم يأخذ عناء المحاولة. كان يستطيع النيل من كيسنجر بسهولة».
عملياً، لم يفُز كيسنجر في حروبه البيروقراطية، لأن روجرز لم يحاول منعه، بل لأن نيكسون أراد حصول ذلك. وافق روجرز على تسلّم وزارة الخارجية، وهو يعرف أن البيت الأبيض سيدير الشؤون الخارجية، وأن علاقته بالوزارة ستبقى محدودة. حين ذكر نيكسون هذا المنصب أمامه للمرة الأولى، يقول روجرز إنه تردد في البداية بترك شركة المحاماة التي يملكها، وأوصاه بعرض المنصب على نيلسون روكفلر. كذلك، أخبر روجرز الرئيس المُنتخب بأنه لا يعرف الكثير عن الشؤون الخارجية، فأجابه نيكسون أن جهله بهذه المسائل هو السبب في منحه هذا المنصب. يقول روجرز: «كنتُ مستعداً للعب دور ثانوي. فهمتُ أنه يريد أن يدير السياسة الخارجية بنفسه ولا يرغب في تقاسم هذا الدور مع أي شخص آخر. في النهاية، يستحق الرجل الذي ترشّح للرئاسة وفاز أن يتخذ قراراته بنفسه. كنتُ أعرف أن نيكسون سيكون اللاعب الأساسي. وعندما ظهر كيسنجر علمتُ أنه سيكون ذا قيمة كبيرة للرئاسة».
كان استعداد روجرز لأداء دور ثانوي ضمانة لنجاح إعادة هيكلة الإجراءات البيروقراطية. وكان النظام الجديد، رغم جميع عيوبه، ليعمل بطريقة متناغمة (بما أن نيكسون هو الرئيس) لو لم يقرر كيسنجر، في مرحلة معيّنة من أولى سنواته في السلطة، أن يصبح وزير الخارجية بالاسم والفعل. بدا روجرز مستعداً لتقبّل حدود دوره.
مشاكل وخضوع
استنتج عدد من كبار المسؤولين في وزارة الخارجية، بعد مرور سنوات، أن معظم مشكلة روجرز مع نيكسون كانت من صُنعه. ويوضح إليوت ريتشاردسون الذي كان وكيل وزارة الخارجية: «لم يتمكن روجرز من الاقتناع نفسياً بالخضوع لنيكسون، وصبّ هذا الوضع في مصلحة هنري مباشرةً. وشعر روجرز أنه أفضل من حيث الشخصية والقدرة على إصدار الأحكام، ولم يتمكن من الخضوع لأحد، وهو ما يجب أن يفعله أي وزير خارجية كفوء. لم يكن روجرز يميل إلى المشاركة في عملية التخطيط الاستراتيجي، لكنّه لم يأخذ عناء المحاولة».
أدى تردد روجرز في القتال إلى إحباط معنويات المسؤولين في وزارة الخارجية فوراً. وحتى قبل تقديم مذكرة هالبرن حول مجلس الأمن القومي إلى نيكسون في «كي بيسكاين»، أخبر إيغلبيرغر روجر موريس عن تلك المذكرة سرّاً. من باب الولاء للسلك الدبلوماسي، قرر المساعدان لاحقاً إخبار آرثر هارتمان، الدبلوماسي المحترف الذي كان مسؤولاً عن المجموعة الكبرى بين الأقسام في وزارة الخارجية، وهي الجهة التي تولّت مراقبة تدفّق الوثائق داخل الوزارة قبل عهد كيسنجر. ويتذكر موريس ما حصل قائلاً: «قلنا له إنه سيدمّر نفسه وسيخسر جميع أنواع الصلاحيات. يجب ألا يعرف أحد بما حصل». وأوضح هارتمان، الذي أصبح لاحقاً مساعد وزير الخارجية، أن أحداً لم يكن مستعداً لمحاربة كيسنجر. قال هارتمان لموريس: «لا يمكننا إقناع أحد بالتحرك».
شعر موريس وإيغلبيرغر بالاستياء والغضب، واعتبر الأول هذه التطورات «قضية خاسرة»: «أرادت وزارة الخارجية الانتظار لمعرفة فرص عودة المدّ البيروقراطي إلى الوزارة بعد تلاشي أول موجة حماس في البيت الأبيض».
كان أورال ألكسيس جونسون الأكثر خبرة في تلك المرحلة من بين كبار المسؤولين الذين عيّنهم روجرز والأكثر استياءً مما حصل. بما أنه نائب وكيل الشؤون السياسية في إدارة جونسون، كان يحمل مواصفات المسؤول الصارم والكتوم والمعادي الشرس للشيوعية في وزارة الخارجية. لقد كان يؤيد استعمال القوة في فيتنام، وأوصله هذا الموقف، فضلاً عن جولاته الطويلة في واشنطن، إلى منصب طال انتظاره: في عام 1966، تم تعيينه سفيرا في اليابان. أعاده روجرز قبل تنصيب الرئيس، ووعده بتحسين منصبه كي يصبح وكيل وزير الخارجية، وأكد منحه صلاحيات كاملة بصفته كبير المسؤولين في السلك الدبلوماسي. أدرك جونسون، خلال لحظات معدودة في فندق بيار، أن هذه الوعود كلها أصبحت في خطر. هو شارك في إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي في عهد أيزنهاور، وكان دوره محورياً في إنشاء المجموعة الكبرى بين أقسام وزارة الخارجية التي قرر كيسنجر حلّها لاحقاً. وسرعان ما جمعه لقاء قصير ومزعج مع كيسنجر. يقول جونسون: «أخبرتُ هنري بأنني سمعتُ بما حصل، وتكلمتُ عن مساوئ هذا الوضع. تحاورنا بشكلٍ محتدم طوال خمس دقائق. أردتُ أن تجمعني به علاقة مشابهة لعلاقتنا مع مكجورج باندي. أردتُ أن أفهم متى تَصدر الأوامر منه أو من الرئيس». كان كيسنجر مباشراً في كلامه أيضاً، فقال: «سبق وصدر القرار، وسيبقى الوضع على حاله». أدرك جونسون، بعد دردشة قصيرة مع روجرز وريتشاردسون، أن أياً منهما لم يعرف حقيقة الوضع. هو عاد إلى اليابان لتوديع الفريق هناك، وكان يعرف أن علاقته مع كيسنجر لن تصبح يوماً مشابهة لعلاقته مع مكجورج. ثم أرسل رسالة خاصة إلى ريتشاردسون من طوكيو وعبّر فيها عن تحفظاته، لكن كان الأوان قد فات. حين عاد إلى واشنطن، أدرك أن الأمر تمّ بحُكم الواقع. وعندما بدأ جونسون، البيروقراطي بامتياز، يعمل مع كيسنجر عن قرب، هاجمه الكثيرون في وزارة الخارجية، لكنّه كان يقوم بما يلزم من وجهة نظره. يوضح أحد مساعديه: «كان مقتنعاً بأن ما يفعله يصبّ في مصلحة البلد، وأنه مضطر للخضوع لهنري لحماية السلك الدبلوماسي».
حين وصلت أخبار سطوة البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية، حتى أصغر المسؤولين افترضوا أن كيسنجر أدرك منذ مرحلة مبكّرة أن نيكسون يريد رسم مستقبل الولايات المتحدة سراً ومن دون مواجهة أي معارضة، رغم تصريحاته العلنية عن «الخيارات السياسية» والمعارضة الحرّة، ويبدو أنه يريد تحقيق هدفه مع كيسنجر وحده. لكن أغفل كيسنجر عن مفارقة بارزة مفادها أن الرئيس وكبار مستشاريه كانوا يرفضون سماع رأي المعارضين بشأن سياسة مُصمّمة ظاهرياً لفتح قنوات المعارضة. هكذا أضعف كيسنجر دوره ولم يتكلم عن لقائه مع جونسون في مذكراته إلا بطريقة محدودة. كتب كيسنجر أن جونسون بذل جهوداً حمقاء «لتشجيع بيل روجرز على محاربة تحرّك ضمني دفاعاً عن تفوّق وزارة الخارجية. كانت محادثة مدتها خمس دقائق مع نيكسون كافية كي تكشف عدم تحمّل الرئيس المُنتخَب لذلك التفوق».
كان كيسنجر يخشى أن يرغب غودباستر في التخلي عن مهمته القتالية بشكلٍ دائم ويبقى كبير المستشارين العسكريين في البيت الأبيض
خلافات حادة
لا يعتبر كيسنجر، في مذكراته، الخلافات المرتبطة بإجراءات مجلس الأمن القومي «مهمة من حيث قوتها الحقيقية، بل من حيث الشكل... كما أنها لم تكن عاملاً أساسياً لمنحي صلاحيات بالقدر الذي يزعمه الكثيرون». هو كرر هذا الرأي خلال سنواته الأولى في البيت الأبيض، فأخبر مجموعة من المراسلين: «لا أصدّق أنني أستطيع، أنا و7 أشخاص آخرين، أن نسيطر على وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في آن». هو أصرّ على أنّ الرئيس، لا هو، اتخذ القرار النهائي.
في السيرة التي كتبها الأخوان كالب، ثمّة اقتباس لكلامه حين قال: «لا وجود لما يُسمّى (سياسة كيسنجر) في المسائل الجوهرية. تقضي مهمّتي بنقل جميع الخيارات السياسية الممكنة إلى الرئيس. لو كانت (سياسة كيسنجر) موجودة، كانت الآلية الجديدة التي ابتكرناها في مجلس الأمن القومي، فضلا عن العلاقات بين الوكالات الحكومية، لتغرق في الفوضى».
لكن كانت إجراءات الأمن القومي المُعدّلة تضمن سيطرة كيسنجر الحصرية على تدفّق الوثائق إلى الرئيس نيكسون لدراستها، بدل الاكتفاء بتقديم الخيارات إلى الرئيس الذي لم يكن يتحمّل أي شكل من المعارضة. وبما أن واحداً من أهم الأسرار الخفيّة حول الإدارة الأميركية يتعلق بتراجع استقلالية مشاورات الرئيس ودراساته، لم يفهم إلا عدد ضئيل من المسؤولين أن نيكسون كان يتّكل على النصائح التي يقدّمها كيسنجر في أوساطه الخاصة.
حتى هالبرن، الذي تفاخر دوماً بنزعته البراغماتية، وشارك في إنشاء نظام مجلس الأمن القومي الجديد بقدر جميع المسؤولين الآخرين، باستثناء كيسنجر، لم يفهم في البداية جميع أهداف كيسنجر الحقيقية. في 25 يناير 1969، وبعد 5 أيام على بدء العهد الرئاسي الجديد، انعقدت أول جلسة لمجلس الأمن القومي. كانت تتمحور حول فيتنام وكُلّف هالبرن، الذي أصبح حينها كبير مساعدي كيسنجر، بتلخيص جميع الوثائق وتحضير مذكرة شاملة للرئيس.
يتذكر هالبرن أنه قال لنفسه: «لا يُفترض أن نكشف عن مواقفنا الخاصة، بل يُفترض أن نرسل ملخصات عن الخيارات الممكنة».
بعد سنوات، أدرك هالبرن إلى أي حد كان ساذجاً، فقال: «كان هنري يقول علناً إننا سنغربل المسائل للرئيس بكل بساطة. لم أكن أعرف أن هنري أراد أن يقدّم له القرارات التي يُفترض أن يتخذها. لقد فوجئتُ لأني كنتُ لا أزال أصدّق ما قاله هنري». كانت ملخصات كيسنجر والتوصيات المرافقة لها لتصبح قريباً الوثائق الأكثر سرّية في البيت الأبيض خلال عهد نيكسون.