تعتبر القرارات «السيادية» من الأعمال والقرارات التي يشار إليها في فقه القانون العام بعبارة «الأعمال السياسية» أو «الأعمال الحكومية»، وهي تلك التي تتخذها السلطة التنفيذية بصفتها سلطة حكم لا سلطة إدارة، مما يكسبها الحصانة من الخضوع لأي رقابة قضائية وفق ما درج عليه القضاء الفرنسي منذ زمن وتبعه في ذلك القضاء العربي.
في العادة لا تتضمن المنظومة القانونية في أي بلد قائمة محددة للأعمال الحكومية أو القرارات السيادية كما لا نعرف معياراً مانعاً جامعاً لتمييزها، فيتم اللجوء الى المقاربات القضائية والفقهية التي تعرّف هذه الأعمال بأنها تلك التي تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من سلطة للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج، كأمن الدولة والأعمال الحربية والعلاقات السياسية وما شابهها، وكالقرارات التي تتصل بالعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كمرسوم الدعوة لانعقاد البرلمان وحله ومرسوم إحالة مشاريع القوانين.
وقد أخذ المشرع الكويتي بنظرية أعمال السيادة في المرسوم الأميري رقم 19 لسنة 1959 ومن ثم بالمرسوم بالقانون رقم 23 لسنة 1990 في شأن تنظيم القضاء الذي نص في المادة الثانية منه على أنه «ليس للمحاكم أن تنظر في أعمال السيادة»، ومن ناحية أخرى واستناداً الى نص المادة (1) من المرسوم بالقانون رقم 20 لسنة 1981 منحت المحكمة الإدارية ولاية قضاة الإلغاء والتعويض في عدة أنواع من المنازعات والقرارات الإدارية النهائية عدا القرارات الصادرة في شأن مسائل الجنسية وإقامة وإبعاد غير الكويتيين ودور العبادة وتراخيص إصدار الصحف والمجلات التي عادت وأخضعت للرقابة القضائية بموجب أحكام قانون المطبوعات والنشر رقم 3 لسنة 2006.
وبصرف النظر عن الجدل الفقهي في شأن صحة توصيف القرارات المذكورة في المادة (1) المشار اليها بالسيادية من عدمه، ومع تجاوز مسألة مدى انسجام تحصينها من الرقابة القضائية مع مبدأ كفالة حق التقاضي المكرّس في المادة 166 من الدستور الكويتي، نلاحظ وجود بعض الاختلاف وربما التذبذب في مقاربة القضاء الكويتي لمسألة القرارات السيادية مع اتجاه تقليدي بالميل نحو تحصينها من الرقابة.
المحكمة الدستورية:
تمسكت المحكمة الدستورية بسلطتها في توصيف الأعمال السيادية معتبرة في عدد من أحكامها التي من بينها الحكم الصادر بالطعن رقم 2/ 1999 الدستوري بتاريخ 27/ 4/ 1999 أنه من المستقر عليه أن المراد من تحديد الأعمال السيادية يرجع «إلى السلطة التقديرية للقضاء وحده، ليقرر ما يَعّد من أعمال السيادة وما لا يَعّد منها بحسب ظروف وطبيعة كل عمل من تلك الأعمال، والتي يجمعها إطار عام هي أنها تصدر عن الدولة بما لها من سلطة عليا وسيادة في الداخل والخارج»، فامتنع القضاء الدستوري نتيجة ذلك عن النظر في عديد من القرارات معتبراً اياها من الأعمال السيادية.
الا أن هذا النهج المتشدد طرأ عليه تغيير واضح وجريء بمناسبة نظر المحكمة الدستورية في حل مجلس الأمة، إذ وعلى عكس موقف المحكمة الإدارية التي أحجمت عن النظر في مرسوم حل مجلس الأمة رقم 443 لسنة 2011 الصادر بتاريخ 6/ 12/ 2011 على اعتبار أنه من الأعمال السيادية، قضت المحكمة الدستورية بشأن الطعنين رقم (6) و(30) لسنة 2012 بتاريخ 20/ 7/ 2012 بإبطال مرسوم الحل بانية موقفها على عدم صحة تكوينه لصدوره عن مجلس وزراء لم يوافق في تكوينه وإجراءات انعقاده صحيح الدستور، مؤكدة أنه «لا يجوز أن يتخذ الحل الذي رخص به الدستور للحكومة استعماله، وحدد طبيعته وإجراءاته والغرض منه، ذريعة إلى إهدار أحكام الدستور ومخالفتها».
وحديثاً كان موقف المحكمة الدستورية الصادر بتاريخ 19/ 3/ 2023 لافتاً إلى إعلان بطلان حل مجلس الأمة 2020 مستندة في ذلك على عدم صحة أسبابه، وهذا ما يعتبر موقفاً جريئاً للقضاء الدستوري الكويتي الذي لم يكتف بهذا الحكم بتنحية مبدأ السيادية جانباً بل سمح بطريقة ما للقضاء النظر في ملاءمة القرار الإداري، إذ اعتبر أن «الوزارة الجديدة استهلت أعمالها في اليوم التالي لتشكيلها بطلب حل مجلس الأمة من دون أن تتبين موقف ذلك المجلس منها ومدى إمكان التعاون بينها... فإن الحل يكون بذلك مفتقداً للسبب المبرر له مخالفاً الضوابط الدستورية».
المحاكم الإدارية:
بدورها، تذبذبت المحاكم الإدارية في الكويت بشأن مقاربة القرارات السيادية بين التشدد التقليدي في احترام حصانتها، وموقف أكثر مرونة وحداثة نحا باتجاه فرد سلطة القضاء بشكل أوسع على بعض القرارات الإدارية التي قد تتضمن اعتداء على الحقوق والحريات أو تحمل في طياتها تجاوزاً واضحاً للمشروعية القانونية.
قد لا يكون المقام سامحاً أن نوجز ببعض السطور كل تجليات هذا التردد، ونكتفي بالإشارة كمثل على ذلك الى أن القضاء الإداري الكويتي تصلّب مرّات كثيرة بعدم نظره في مسائل الجنسية وما يتعلق بها من قرارات، اعتبرها في حكم محكمة التمييز رقم 982/ 2005 إداري بتاريخ 26/9/ 2006، انها «تتسم بطابع سياسي أملته اعتبارات خاصة تتعلق بكيان الدولة ذاته»، وفي المقابل ومع تنامي الفكر القانوني المتجه نحو إعطاء ضمانات أكبر وأكثر للأفراد في مواجهة السلطات الإدارية، برزت عدة أحكام صادرة عن المحاكم الإدارية أعلنت فيه اختصاصها ولائياً بالنظر فيما عرض عليها من قرارات ذات صلة بالجنسية حيث قضت مثلاً بالدعوى المرفوعة من النائب السابق عبدالله البرغش أن القرار الصادر من الداخلية بسحب جنسيته وجنسية من كسبها معه بطريق التبعية لا يعتبر عملاً من أعمال السيادة بل قراراً إدارياً من أعمال الإدارة التي تخضع لرقابة القضاء الإداري الغاء وتعويضاً، وهذا ما أكدته محكمة التمييز في حكمها الصادر بالدعوى رقم 3253/2014 إداري/9 واستئنافها رقم 2315/ 2014 إداري/4.
الا أنه حسماً للموقف المتردد، وبتاريخ 17 أبريل 2022 انتهت هيئة توحيد المبادئ في محكمة التمييز بالأغلبية إلى أن «مسائل الجنسية بأكملها أصلية أو مكتسبة تخرج عن الاختصاص الولائي للمحاكم»
قد يكون موقف المحكمة الإدارية الخاص بتأكيد عدم اختصاصها الولائي في نظر مسائل الجنسية والقرارات التي ذكرتها المادة (1) من المرسوم بالقانون رقم 20 لسنة 1981 مبرراً لدى البعض بوجود نص صريح يحصن هذه القرارات من رقابتها، الأمر الذي يبدو أنه مختلف فيما يخص باقي القرارات الأخرى الخاضعة في توصيفها بالسيادية لتقدير القضاء، حيث نلاحظ أن بعض المحاكم الإدارية لم تستجب لطلبات الخصوم باعتبار بعض القرارات من الأعمال السيادية مؤكدة اختصاصها بالنظر فيها، والأمثلة على ذلك عديدة لا مجال لذكرها في هذه العجالة، مكتفين بالإشارة الى حكم محكمة التمييز بشأن الإستئناف رقم 1989/ 2015، إداري، الذي اعتبرت فيه المحكمة أن قرار وضع «قيد أمني» على أحد الأشخاص هو قرار سيادي.
* كاتب ومستشار قانوني.