في الظروف الاستثنائية، التي تحدث فيها حالة تشابك أو خلط للأوراق، وتداخل في أعمال السلطات، وتخطّي الحدود المرسومة لكلّ منها في الدستور، وتتسع دائرة التباين في وجهات النظر، وتنتج معها خلافات واختلافات سياسية حادة، وتراكمات من المتواليات والممارسات المخالفة للدستور أو القوانين، فإنّ الأمر يستوجب - بعد حُسن التوكل على الله - تكريس المرجعيات والعودة إلى الجذور والتمسك بالدستور، النظام الأساسي المهيمن على الدولة وسلطاتها، من خلال العودة إلى صاحب السيادة، الذي هو مصدر السلطات، متمثلاً بالشعب، إذ إن ذلك يعبّر عن قمة الفطنة وعمق الإدراك، وأفضل مراتب الحكمة وبُعد النظر، وهو ما لمسناه لدى قيادتنا السياسية ممثلة بسمو الأمير، في خطابه الذي ألقاه نيابة عنه سمو ولي العهد، أمس الأول.
رأينا كيف أن الوضع آل إلى حالة من حالات الفوضى وخلط الأوراق وتداخل الاختصاصات والأعمال، وقد ساهم في ذلك حقبة استمرت عشر سنوات منذ انتخاب مجلس 2013، الذي جاء خارج سياق التوافق والرضائية، وبعيداً عن التعبير عن الإرادة الشعبية الحقيقية، وقد كرّس ممارسات واضحاً تجاوزها للدستور وتقييد الحريات والعبث بالبنية التشريعية على نحو شوّهها، ولحقت بذلك ممارسات ومخالفات مجلسي الأمة 2016 و2020، وتداخلت أعمال السلطات، ووجد في تراث من الممارسات والسوابق الفاسدة سنداً لها، مثل حلّ وتعليق أحكام الدستور عامَي 1976 و1986، وعدد من الممارسات الفاسدة في مجالس الأمة 1992,1996,1999، و2003,2008,2009.
ولم يكن مجلسا 2012 و2022، اللذان تم إبطالهما بأحكام من المحكمة الدستورية - بعد أن انحرفت أغلبياتهما البرلمانية، فتجاوزت اختصاصاتها التشريعية والمالية والرقابية، وسلكت دروب التعسف في ممارسة السلطة - يخلوان من اتجاهات قضائية خاطئة اختلط فيها دور اختصاصها بين محكمة طعون انتخابية استناداً إلى المادة 95 من الدستور، ومحكمة دستورية مناط اختصاصها محصور بالرقابة على دستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح، وفقاً للمادة 173 من الدستور.
فكان لا بدّ من إحداث «حالة إفاقة سياسية»، وهو ما رأيناه في اتجاهات تصحيح المسار التي جاءت بخطاب 22/ 6/ 2022 من قبل سمو الأمير، الذي ألقاه سمو ولي العهد، ثم تم التأكيد عليه بخطاب «العهد الجديد» في 18/10/ 2022، وها نحن نرى إعادة تثبيته والتمسك به في خطاب أمس الأول، لتعزيز ضمانات تصحيح المسار.
ولعل ما أورده الخطاب من توجهات لحل مجلس 2020 عودة وانتصاراً للإرادة الشعبية يمثّل منتهى الصواب والحكمة والديموقراطية والمرجعية الدستورية، والبارز في الخطاب أنه جاء فيه «.... وسيواكب ذلك إصلاحات سياسية وقانونية مستحقة لنقل الدولة إلى مرحلة جديدة من الانضباط والمرجعية القانونية، منعاً للخلاف ودرءاً للتعسف في استعمال السلطة من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضماناً لحيدة ونزاهة السلطة القضائية بتعزيز نظام الحوكمة للمحكمة الدستورية في تكوينها واختصاصاتها».
وهو توجّه مأمول به أن يضع معالجات وإصلاحات فعالة، فشلت أو قصّرت مجالس الأمة في التصدي لها، بسبب تكوينها الفاسد أو صراع المصالح والمكاسب الشخصية وإيثار المصالح الانتخابية على المصلحة العامة، وهو ما يتطلب مبادرات عملية تنطلق من الدستور ومرجعياته لتحقيق إصلاحات سياسية وقانونية باتت ضروراتها حاضرة، لإنهاء فساد النظام الانتخابي وممارسة التعسف البرلماني، واختلاط وتداخل أعمال السلطات، بما في ذلك القضاء تكويناً واختصاصاً، فالتاريخ لا يرحم، ومسؤوليات حفظ الدولة وصون مرجعية دستورها والحفاظ على فصل السلطات وحدودها المقررة والمرسومة بالدستور صارت مخرجاً لا خيار فيه، وضعاً للأمور في نصابها ومنع التغوّل على السلطات، وتداخل الصلاحيات أو التعسف في استخدامها، مروقاً من الدستور - وبكل أسف باسمه - وهو براء من كل ذلك.
ولتكن دلالات المشاركة الواسعة بالانتخابات القادمة هي التعبير العملي من الأمة بقبولها بتلك الإصلاحات السياسية والقانونية المستحقة، وانتصاراً لإرادتها، التي تقاذفتها الأهواء والمصالح وغياب المرجعيات لفترات زمنية، بسبب الانحراف في الممارسات بالعمل التنفيذي والبرلماني ومن الجميع، وانعكاسات ذلك على القضاء!