كما في الطب يوجد في السياسة والاقتصاد أخطاء في المواقف والقرارات لا يمكن إصلاح ضررها، وقبل أيام تذكرت هذا التعبير الطبي عندما قرأت رأي الفتوى والتشريع بشأن إلغاء قرار المعاشات التقاعدية الاستثنائية التي تم إقرارها لوزراء الحكومة السابقة والتي تبلغ ستة آلاف مدى الحياة.
فقد أفتت إدارة الفتوى والتشريع (وفتواها غير ملزمة) أن القرار لا يجوز الرجعة عنه لأنه اتخذ وفقاً للمادة (80) من قانون التأمينات التي تسمح بالاستثناء، وإذا أصر مجلس الوزراء على إلغاء القرار والعودة إلى القواعد العامة فيمكن للوزراء المعنيين اللجوء إلى المحكمة الإدارية، وهي إذا رفضت إلغاء قرار الإلغاء فيكون أمامنا حالة جديدة من الضرر الذي تحقق ولا رجعة فيه، وستظل آثاره المتمثلة بالصرف المالي الكبير ومحاولة الآخرين تقليده موجودة رغم إيقافه.
وربما يكون في هذا الخطأ الجديد سواء كان متعمداً أو بسبب الجهل وعدم الخبرة درساً جديداً لمجلس الوزراء كي يقوم بدراسة جميع القرارات دراسة موسعة ومتكاملة قبل إصدارها، فكثيرة هي القرارات التي أوقعت ضررا مستمراً وكانت آثارها دائمة رغم إيقاف القرارات وأكبر مثال على ذلك هو الغزو العراقي للبلاد الذي كانت نواياه ومؤشراته واضحة، ولكن كان القرار الكويتي هو عدم الاستعداد وعدم الاستعانة بقوات صديقة فحدثت الكارثة، ورغم تحرير البلاد فإن بعض آثاره لا تزال باقية في دماء الشهداء وآلام أسرهم وأضرار اقتصادية وسياسية أخرى، وأيضاً هناك قرارات اتخذت بعد ذلك لم يعد إصلاحها ممكنا مثل قرارات الكوادر التي لم تحقق المساواة والعدالة بين التخصصات والأعمال المتشابهة فسببت شكوى دائمةً، وبعض قرارات أملاك الدولة التي كانت الحكومة مؤتمنة عليها، ولكن أقيمت عليها مشاريع مخالفة كلفت الملايين من المال العام، وأيضاً العُطل المزاجية للمدارس التي ساهمت في تخريب التعليم، وأيضاً الشهادات المزورة والمضروبة التي أفسدت كثيراً من المؤسسات الحكومية، وكذلك قرار تأجيل سداد القروض لسنة كاملة الذي كلف مئات الملايين بغير داع، والآن يعاني الكثير من المدينين من ارتفاع الفائدة، وأيضاً تعيينات بعض القياديين بالواسطة ومنهم من نهب المال العام وفر خارج البلاد، وأخيراً طلب استقالة رئيس مجلس القضاء بالمخالفة للقانون، وغير ذلك من القرارات التي تثبت أننا أمام حزمة ثقيلة من الأخطاء التي تسببت بها قرارات فاسدة أو غير مدروسة.
الكويت الآن في وضع أخطر، حيث تعج البلاد بالصراعات بين أطراف متحاربة من المتنفذين الساعين للسيطرة على القرار الحكومي، حيث تم استخدام كل الوسائل من كل طرف لإقناع الحكومة والضغط عليها كي تقتنع وتنفذ القرارات التي يريدها هذا الطرف أو ذاك، وجُندت كثير من وسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات النارية والوشاية لإظهار أن الإرادة الشعبية تؤيدها وذلك لاحتواء القرار الحكومي وتشويه الآخر وإبعاده عن قدرة التأثير على قرارات الحكومة، كما يتزامن ذلك مع طرح بعض النواب اقتراحات خطيرة غير مدروسة لتغيير الدستور واللائحة الداخلية لمجلس الأمة مدعومة بحشد سياسي وإعلامي، كل ذلك في غياب شبه تام للطرح المحايد الملتزم بالمصلحة العليا للبلاد، لذلك وفي هذه الأجواء غير الصحية فإن أي قرار حكومي خطأ وغير مدروس أو متأثر بهذه الضغوط سيكون له ضرر مدمر على البلاد وقد يكون الضرر لا رجعة فيه.