قال لي ذاك الصديق الذي رحل دون أن أودعه كما آخرين كثر في السنوات الأخيرة، قال ابقي فسيأتي بهاء وأريدك أن تتعرفي عليه وكان معتاداً أن يعرفني بأصدقائه الكثر من فنانين تشكيليين وموسيقيين وصحافيين مخضرمين وشباب، جلسنا طويلا ذاك المساء في قهوة زهرة البستان، وأنهينا ربما كل المتوافر من مشروبات على قائمة الطلبات من أنواع الشاي والقهوة، ولم يأت بهاء الذي انتظرته بحرقة رغم أني لم أكن أعرف أي بهاء هو؟
جاء النادل ليكرر على صديقي العبقري «أستاذ جميل محتاجين مشاريب تانية؟» لم أستطع الانتظار أكثر فرددت: «لا شكراً»، ثم وجهت كلامي لجميل بأننا قد أنهينا كل قائمة المشروبات، ولم يأت صديقك الذي تنتظره وإنني مضطرة أن أتركه، بل إن عليه أن يعود هو الآخر للمنزل في الجيزة وزحمة المواصلات و... و.... و. ضحك أستاذي وصديقي الجميل جميل عطية إبراهيم، وقال كانت فرصتك أن تلتقي بمن قلتِ عنه إنه رائع، جاء رده ليثيرني والتوقف بعض الشيء لمعرفة من يكون وقبل أن يجيب كنت قد خمنت أنه بهاء طاهر ذاك الذي قرأت له «الحب في المنفى» وكانت الرواية التي شدتني للبحث عن كل رواياته بل المحاولة للوصول إليه خاصة أننا كنا نعمل للمنظمة نفسها التابعة للأمم المتحدة، إلا أن كل محاولاتي بلقائه باءت بكثير من الفشل في جنيف حيث كان يقيم قبل أن يتقاعد، وحيث ناجى البحيرة وبجعها، أو في القاهرة.
بشيء من الطفولية المتبقية بعد كل عوامل الزمن تشبثت بيدي جميل لأمنعه من الحركة قبل أن يعد بتحديد موعد مع الرائع بهاء طاهر، فكان أن وعد وهو يقهقه كعادته ويسخر من طفوليتي المتأخرة!!
مر وقت ربما طويل ليس بعدد الساعات بل بشغف اللقاء الذي لم يحدث، حتى التقيت ببهاء طاهر، وبدأ سيل الحديث الذي لم يعرف الفواصل والنقط، بل القفز بين المراحل والفقرات وأنا أكثر من الأسئلة وهو ببهائه المعهود يجيب بكثير من اللطف والجمال، بعدها كان لي مع الأديب الرائع والمبدع بهاء طاهر لقاءات أحيانا في ذاك المقهى بالزمالك على الناصية قريبا من شقته وأخرى في مقاه أخرى.
وفيما كان صلب الأحاديث عن الرواية والأدب إلا أن كثيرا من جلساتنا معا شملت كيف يكون أديبا مبدعا مثله يعمل مترجما في منظمة دولية ببيروقراطيتها ولغتها الخشبية؟ كيف يتحمل هو الجلوس لساعات طويلة وهو يترجم ويستمع لكلام إما أنه صيغ في كتب وتقارير أريد لها أن تروج لفكرة ما وإما أنه جزء من حوار بين مندوبي الدول المدافعين عن الأوضاع في بلدانهم وكلامهم فيه كثير من النفاق إن لم يكن الكذب؟!
كان يضحك بهدوء شديد وهو يحاول أن يشرح ويفسر كيف يدمج بين العالمين، عالم شديد الخصوصية والإبداع والجمال وآخر بعيد جدا عن الجمال والواقعية، وربما حتى عن الصدق، ويردد «دي حكاية ودي حكاية تانية»، لم أفهمه والسنون تمر ولقاءاتنا تقل حتى أصبحت نادرة وفي السنوات الأخيرة، انقطعت رغم أننا نستنشق أخباره القادمة عبر المقربين منه وخصوصا تلامذته المبدعين.
تتحول أعماله إلى مسلسلات تلفزيونية، فنعيد الاتصال للتهنئة والقول إنهم لم يستطعيوا حتى الآن أن يقدموا في المسلسل جمال الرواية التي كتبها، وهو يدافع بل يكرر على العكس «المسلسل كان جميل». بهاء الذي كان يرى الجمال في تفاصيل اللحظة ويعشقها كما هي، بل هو الذي في إحدى الجلسات حاول أن يفسر لماذا كان الانتقال إلى العمل الروتيني في الأمم المتحدة مفيداً أيضا لبنائه الروائي، وهو الذي لم يكن يرى إلا الجمال ويبعد ناظريه عن أي شكل من أشكال القبح رغم أنه كان يعرف أنهما يتجاوران أحيانا.
عندما مرض جميل واختفى من الصورة، أي مشهد اللقاءات مع الأصدقاء، وتعثر الوصول إليه حتى بدافع مؤازرته في محنته المرضية، بحثنا عن بهاء وما هو إلا بعض الوقت حتى اختفى هو الآخر من تجمعات الأصدقاء وابتعد صوته الرقيق بتلك النبرة الخاصة، استسلمنا ربما إيمانا بحق الأصدقاء حتى لو كانوا أدباء وشخصيات عامة، حقهم في الابتعاد والخصوصية، وتوقفنا عن الإلحاح في الزيارة أو سماع الصوت عبر الهاتف، فمر الوقت كما كل شيء جميل، ليأتي الخبر أن بهاء قد رحل أيضا مثله مثل جميل دون وداع حقيقي، وداع لا علاقة له بصيوان العزاء والسير حتى المدافن بل وداع يليق به.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.
جاء النادل ليكرر على صديقي العبقري «أستاذ جميل محتاجين مشاريب تانية؟» لم أستطع الانتظار أكثر فرددت: «لا شكراً»، ثم وجهت كلامي لجميل بأننا قد أنهينا كل قائمة المشروبات، ولم يأت صديقك الذي تنتظره وإنني مضطرة أن أتركه، بل إن عليه أن يعود هو الآخر للمنزل في الجيزة وزحمة المواصلات و... و.... و. ضحك أستاذي وصديقي الجميل جميل عطية إبراهيم، وقال كانت فرصتك أن تلتقي بمن قلتِ عنه إنه رائع، جاء رده ليثيرني والتوقف بعض الشيء لمعرفة من يكون وقبل أن يجيب كنت قد خمنت أنه بهاء طاهر ذاك الذي قرأت له «الحب في المنفى» وكانت الرواية التي شدتني للبحث عن كل رواياته بل المحاولة للوصول إليه خاصة أننا كنا نعمل للمنظمة نفسها التابعة للأمم المتحدة، إلا أن كل محاولاتي بلقائه باءت بكثير من الفشل في جنيف حيث كان يقيم قبل أن يتقاعد، وحيث ناجى البحيرة وبجعها، أو في القاهرة.
بشيء من الطفولية المتبقية بعد كل عوامل الزمن تشبثت بيدي جميل لأمنعه من الحركة قبل أن يعد بتحديد موعد مع الرائع بهاء طاهر، فكان أن وعد وهو يقهقه كعادته ويسخر من طفوليتي المتأخرة!!
مر وقت ربما طويل ليس بعدد الساعات بل بشغف اللقاء الذي لم يحدث، حتى التقيت ببهاء طاهر، وبدأ سيل الحديث الذي لم يعرف الفواصل والنقط، بل القفز بين المراحل والفقرات وأنا أكثر من الأسئلة وهو ببهائه المعهود يجيب بكثير من اللطف والجمال، بعدها كان لي مع الأديب الرائع والمبدع بهاء طاهر لقاءات أحيانا في ذاك المقهى بالزمالك على الناصية قريبا من شقته وأخرى في مقاه أخرى.
وفيما كان صلب الأحاديث عن الرواية والأدب إلا أن كثيرا من جلساتنا معا شملت كيف يكون أديبا مبدعا مثله يعمل مترجما في منظمة دولية ببيروقراطيتها ولغتها الخشبية؟ كيف يتحمل هو الجلوس لساعات طويلة وهو يترجم ويستمع لكلام إما أنه صيغ في كتب وتقارير أريد لها أن تروج لفكرة ما وإما أنه جزء من حوار بين مندوبي الدول المدافعين عن الأوضاع في بلدانهم وكلامهم فيه كثير من النفاق إن لم يكن الكذب؟!
كان يضحك بهدوء شديد وهو يحاول أن يشرح ويفسر كيف يدمج بين العالمين، عالم شديد الخصوصية والإبداع والجمال وآخر بعيد جدا عن الجمال والواقعية، وربما حتى عن الصدق، ويردد «دي حكاية ودي حكاية تانية»، لم أفهمه والسنون تمر ولقاءاتنا تقل حتى أصبحت نادرة وفي السنوات الأخيرة، انقطعت رغم أننا نستنشق أخباره القادمة عبر المقربين منه وخصوصا تلامذته المبدعين.
تتحول أعماله إلى مسلسلات تلفزيونية، فنعيد الاتصال للتهنئة والقول إنهم لم يستطعيوا حتى الآن أن يقدموا في المسلسل جمال الرواية التي كتبها، وهو يدافع بل يكرر على العكس «المسلسل كان جميل». بهاء الذي كان يرى الجمال في تفاصيل اللحظة ويعشقها كما هي، بل هو الذي في إحدى الجلسات حاول أن يفسر لماذا كان الانتقال إلى العمل الروتيني في الأمم المتحدة مفيداً أيضا لبنائه الروائي، وهو الذي لم يكن يرى إلا الجمال ويبعد ناظريه عن أي شكل من أشكال القبح رغم أنه كان يعرف أنهما يتجاوران أحيانا.
عندما مرض جميل واختفى من الصورة، أي مشهد اللقاءات مع الأصدقاء، وتعثر الوصول إليه حتى بدافع مؤازرته في محنته المرضية، بحثنا عن بهاء وما هو إلا بعض الوقت حتى اختفى هو الآخر من تجمعات الأصدقاء وابتعد صوته الرقيق بتلك النبرة الخاصة، استسلمنا ربما إيمانا بحق الأصدقاء حتى لو كانوا أدباء وشخصيات عامة، حقهم في الابتعاد والخصوصية، وتوقفنا عن الإلحاح في الزيارة أو سماع الصوت عبر الهاتف، فمر الوقت كما كل شيء جميل، ليأتي الخبر أن بهاء قد رحل أيضا مثله مثل جميل دون وداع حقيقي، وداع لا علاقة له بصيوان العزاء والسير حتى المدافن بل وداع يليق به.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.