في يوم ملكي طويل تخللته طقوس دينية مسيحية مهيبة وتقاليد ملكية تعود الى 1000 عام تتسم بالأبّهة والفخامة، وتم تكييفها لتعكس صورة بريطانيا في القرن الحادي والعشرين، توّج تشارلز الثالث (74 عاماً)، أمس، ملكاً، ليصبح الملك الـ 40 للمملكة المتحدة لبريطانيا وأيرلندا الشمالية.

وبدأت المراسم، التي حضرها 2300 ضيف من حول العالم، في مقدمهم ممثل أمير البلاد الشيخ نواف الأحمد ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد، يرافقه وزير الخارجية الشيخ سالم الصباح، بموكب مهيب رافق العربة «دايموند جوبيلي ستيت كوتش»، التي أقلّت الملك تشارلز والملكة القرينة كاميلا، من قصر باكنغهام، الى كنيسة ويستمنستر، حيث جرت مراسم كنسية لتتويجهما من قبل كبير أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي.

Ad

واصطفّ عشرات الآلاف من الأشخاص على جانبَي طريق الموكب وهم يهتفون للملك والملكة، على الرغم من هطول الأمطار المتقطع، وارتدى بعضهم تيجانا من الورق والبلاستيك والقماش، وحملوا الأعلام البريطانية والشعارات الملكية.

وداخل الكنيسة التاريخية، وببطء، وضع كبير أساقفة كانتربري تاج سانت إدوارد على رأس الملك تحت أنظار نحو 100 من رؤساء الدول وكبار الشخصيات، فضلا عن ملايين المتابعين عبر شاشات التلفزيون.

ودوّت طلقات نارية احتفالية عند برج لندن وفي أنحاء العاصمة وفي منطقة جبل طارق وإقليم برمودا على متن سفن في البحر. وخلال مراسم التتويج بالكنيسة، وبعد سماع دويّ نفير تقليدي، جرى ترديد عبارات «حفظ الله الملك تشارلز. عاش الملك تشارلز. ليحيا الملك الى الأبد».

وبدت الجدية على وجه الملك وهو يؤدي اليمين ليحكم بالعدل ويدعم كنيسة إنكلترا التي يتولى منصب رئيسها الفخري قبل الجزء الأكثر قداسة من المراسم عندما مسح رئيس أساقفة كانتربري على يديه ورأسه وصدره بالزيت المقدس الذي تمت مباركته في القدس.

وبعد تقديم رموز ملكية لتشارلز، وضع ويلبي تاج سانت إدوارد على رأسه، وسط صياح الحضور «حفظ الله الملك».

ومن بين المراسم التي شهدتها الكنيسة أداء نشيد «الكاهن الصادق» لهاندل، كما جرت العادة في كل حفل تتويج منذ عام 1727.

ولكن كانت هناك عناصر جديدة، مثل نشيد من تأليف أندرو لويد ويبر المشهور بعروضه في مسارح وست إند وبرودواي، إضافة إلى جوقة إنجيلية. وأقيم قداس وألقى زعماء دينيون تحية «غير مسبوقة» في النهاية. وتولى الأمير جورج، حفيد تشارلز، وأحفاد كاميلا دور الوصفاء.

وخلال المراسم التاريخية على مدى ساعتين، والتي تعود إلى عهد وليام الفاتح عام 1066، جرى أيضا تتويج كاميلا زوجة تشارلز الثانية ملكة للبلاد. كما أدى الأمير ويليام ولي العهد البريطاني يمين الولاء لوالده الملك تشارلز الثالث، في طقس يُعد جزءاً مهما من مراسم تتويج الملك.

وقال ويليام وقد جثا على ركبته أمام والده: «أنا ويليام أمير ويلز، أتعهد بالولاء لكم، أعدكم بأن ألتزم الصدق والوفاء لكم مدى الحياة بعون الرب».

ويمنع القانون في بريطانيا، تتويج أو توريث العرش لأي شخص غير بروتستانتي. بحسب الإحصاءات الرسمية، وتبعاً لآخر تعداد للسكان في إنكلترا وويلز لعام 2021، فإن أقل من نصف السكان، نحو 46.2 بالمئة، يعرّفون عن أنفسهم كمسيحيين، في حين أن 37.2 بالمئة منهم قالوا إنهم لا يعتنقون أي ديانة، أي نحو شخص من بين كل 4.

ويُعد الملك في بريطانيا «حارس العقيدة»، وهو لقب منحه بابا الكنيسة الكاثوليكية ليو العاشر للملك هنري الثامن عام 1521، وبقي الملوك من بعده يحملونه حتى بعد انفصال كنيسة إنكلترا عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.

في الإطار ذاته، زادت نسبة من يعرّفون عن أنفسهم كمسلمين في بريطانيا من 4.9 بالمئة عام 2011 إلى 6.5 بالمئة في أحدث إحصاء. كذلك فإن 2 بالمئة من السكان يعرفون عن أنفسهم كهندوس حالياً، في حين أن 2 بالمئة ينقسمون بين يهود، وسيخ، وبوذيين، وديانات أخرى، مثل البهائية والزرادشتية.

وقد تحول احتفال التتويج إلى مناسبة للاعتراف بالتنوّع الديني الذي بات سمة من سمات المجتمع البريطاني، ويعدّ من الملفات التي شكلت صورة تشارلز العامة منذ سنوات.

ففي التسعينيات، أثار الأمير تشارلز حينها جدلاً حين قال إنه عند اعتلائه العرش كوريث لوالدته، لن يكون «حارس العقيدة» فحسب، بل «حامياً لكل المعتقدات»، وفهم من ذلك يومها أنه ربّما ينوي التخلي عن اللقب التاريخي خلال أدائه القسم.

في الواقع، لم يتخلّ تشارلز الثالث عن ألقابه الدينية، «كحارس للعقيدة ورأس لكنيسة إنكلترا»، لأنّ ذلك يتطلّب تعديلاً للقانون. لكن طقوس التتويج شهدت مشاركة ممثلين عن مختلف الأديان، بما يتناسب مع شكل المجتمع البريطاني اليوم، بكل شرائحه.

وتقدّم مسيرة التتويج، عند توجّه الملك إلى كاتدرائية وستمنستر، ممثلون دينيون عن المسلمين الشيعة والسنّة، واليهود، والهندوس، والسيخ، والبوذيين، والجاينيين، والبهائيين، والزرادشتيين.

وفي مقدمة المسيرة، حمل صليب أهداه البابا فرنسيس للملك تشارلز، ويقال إنه يحوي ذخائر من صليب المسيح الحقيقي. وتعدّ هذه الخطوة دلالة على تجاوز الكنيستين الأنغليكانية والكاثوليكية لتاريخ الشقاق والاضطرابات بينهما. كذلك سلّم ممثلون عن عدد من الأديان، تشارلز بعض الشعارات الملكية غير المرتبطة برموز مسيحية. وشاركت قساوسة نساء علما انه قبل 70 عام لدى تتويج الملكة اليزابيث لم يكن مسموحاً ان تتسلم النساء هذا المنصب.

ويعرف عن الملك تشارلز الثالث أنه ممارس دينياً، وهو أصبح أول ملك يتلو صلاة خلال تتويجه، تطرّق فيها إلى واجبه في حماية المعتقدات كافة.

وفي الوقت ذاته، ركزت عظة رئيس أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، وهي سابقة لم تشهدها مراسم التتويج السابقة، خلال أعوام 1902,1937، و1953 إلى فهم كنيسة إنكلترا الحديث لدورها في حماية التنوّع وحرية المعتقد. وقال ويلبي إن الكنيسة «ستسعى إلى تعزيز بيئة يمكن للناس من جميع الأديان أن يعيشوا فيها بحريّة».

العربة الذهبية

وبعد انتهاء مراسم تتويجهما، غادر تشارلز وكاميلا كنيسة ويستمنستر على العربة الملكية الذهبية على طريق يمتد لمسافة 1.4 ميل، وصولا إلى قصر باكنغهام في موكب يُعرف باسم موكب التتويج بمشاركة نحو 4 آلاف جندي من 39 دولة.

واصطف المئات من الجنود بزيّهم القرمزي وقبعاتهم السوداء العالية على امتداد طريق ذا مول، وهو الشارع الواسع المؤدي إلى قصر باكنغهام، حيث احتشد عشرات الآلاف لمتابعة الحدث متجاهلين المطر الخفيف. ثم أطل الملك والملكة عبر الشرفة لتحية الآلاف.

ولم يكن هناك دور رسمي لنجل تشارلز الأصغر الأمير هاري بعد خلافه الكبير والعلني مع العائلة المالكة ولا لشقيقه الأمير أندرو الذي أُجبر على ترك الواجبات الملكية بسبب صداقته مع الممول الأميركي الراحل جيفري إبستين الذي دِينَ بارتكاب جرائم جنسية.

زيتٌ من القدس... وملابس من 1000 عام

في الجزء الذي يُعد الأكثر قدسية وروحانية ضمن مراسم تتويج ملك بريطانيا الجديد، تم مسح الملك تشارلز الثالث بزيت مقدس جُلِب خصوصا من مدينة القدس لهذا الغرض، وبه يتم تنصيب حاكم المملكة رسميا في تقليد يمتد مئات السنين.

وبدأت رحلة الزيت بعد قطف زيتون بساتين كنيستي «مريم المجدلية» و«دير الصعود» في جبل الزيتون بالقدس، وذلك لقداسة الجبل مسيحياً، بالإضافة إلى مجاورة أشجار كنيسة مريم المجدلية لقبر جدة الملك لأبيه الأميرة أليس باتنبرغ التي توفيت بالمملكة المتحدة عام 1969 ونقل رفاتها إلى القدس.

عُصر الزيتون في مدينة بيت لحم جنوبي القدس، قريباً من كنيسة المهد التي شهدت ولادة السيد المسيح حسب الاعتقاد المسيحي، وفي 4 مارس الماضي نُقل إلى كنيسة القيامة في البلدة القديمة بالقدس لتقديسه، وذلك بإشراف لفيف من البطاركة ورؤساء كنائس القدس، ليصبح بعدها زيت «الميرون» المقدس. والزيت في التقاليد المسيحية المستمدة من العهد القديم اليهودي، يمسح به على النبي والملك والكاهن لتكريسهم، وجرى دهن الملك تشارلز من وراء حجاب بسبب قدسية اللحظة.

إلى ذلك، قال القصر إن عديداً من الأشياء التي استخدمت في الحفل، مثل التيجان والصولجانات، يعود تاريخها إلى قرون مضت، مضيفا أن تشارلز سيرتدي أيضا بعض الملابس التي ظهرت في مراسم التتويج منذ عام 1821 «من أجل الاستدامة والجودة».

ومن بين القطع التي ستظهر مرة أخرى، قفاز التتويج الذي صُنع لجده جورج السادس، وسيرتدي تشارلز أيضا ثوب جده المصنوع من الكتان الأبيض وحزام السيف الخاص به، ليتجنب مرة أخرى تقليد صنع ثوب جديد. كذلك، سيرتدي ملابس أخرى لأسلافه يعود تاريخها إلى ألف عام، وتشمل معطفا طويل الأكمام من الحرير الذهبي فُصّل عند تتويج الملك جورج الخامس، الجد الأكبر للملك تشارلز، وارتداه الملوك اللاحقون، ومن بينهم الملكة إليزابيث. ويرتدي كذلك الوشاح الإمبراطوري المصنوع من القماش الذهبي الذي صُنع في الأصل لاستخدامه في مراسم تتويج الملك جورج الرابع عام 1821.

كنيسة ويستمنستر تتوج الملوك وتدفنهم

تعد كنيسة ويستمنستر، وسط العاصمة البريطانية لندن، مركزاً سياسياً واجتماعياً مهماً لبريطانيا، وصارت «ملكية خاصة للملك» عام 1560 بعدما خرجت من تحت سلطة الكنيسة الكاثوليكية وأصبحت منذ عام 1066 مكانا لتتويج الملوك البريطانيين ومحطة أخيرة لوداعهم قبل الدفن.

بنيت الكنيسة الاولى عام 960 على يد رهبان قبل أن يبني الملك إدوارد الأول قربها قصره المعروف بـ «قصر ويستمنستر»، ثم يعيد الملك هنري الثالث بناءها في 1245. ويعد الباب الأثري في الكنيسة الذي يعتقد أنه بني في 1050 أحد الأجزاء القليلة المتبقية من البناء الأول. ضمت كنيسة ويستمنستر رفات أكثر من 3 آلاف شخص بينهم ملوك علماء ودبلوماسيون وشعراء وكهنة وكتّاب ومؤلفو موسيقى. كان أول من دُفن فيها الملك إدوارد الأول. من أبرز الشخصيات الأخرى التي دُفنت داخلها العالمان إسحاق نيوتن وستيف هوكينغ.

تيجان ورقية وبلاستيكية على رؤوس الآلاف

تجمّع عشرات الآلاف من الشبان وكبار السن من بريطانيا وشتى أنحاء العالم في وسط لندن، أمس، لمتابعة مراسم تتويج تشارلز الثالث ملكا لبريطانيا، قائلين إنها فرصة ليشهدوا لحظة فارقة في التاريخ ويستمتعوا بحفل فريد من نوعه.

واصطفت حشود ارتدت ملابس بالألوان الأحمر والأبيض والأزرق، ورفعت العلم البريطاني على جانبَي الشوارع، وارتدى الكثيرون التيجان الورقية والبلاستيكية ولوّحوا بالأعلام، لمشاهدة مراسم التتويج، وهي الأولى في بريطانيا منذ 70 عاما، وتتسم بالأبّهة والفخامة.

وتعددت أسباب الحضور، إذ أراد الكثيرون ممن هم أكبر سنّا إظهار دعمهم لتشارلز والنظام الملكي، فيما أشار آخرون إلى بداية عهد جديد. وتحدّث بعض الأصغر سنّا عن رغبتهم في إدراك لحظة تاريخية، ورغب آخرون في الاستمتاع بالأجواء الاحتفالية.

توقيف زعيم «ريبابليك» المناهضة للملكية

قال متحدث باسم جماعة ريبابليك المناهضة للملكية إن الشرطة البريطانية ألقت القبض على غراهام سميث زعيم الجماعة، قبيل انطلاق مراسم تتويج تشارلز الثالث ملكا لبريطانيا امس. وأظهرت صورة نُشرت على «تويتر» سميث جالسا على الأرض وتحيط به مجموعة من رجال الشرطة. وقال أحد رجال الشرطة في الموقع بالقرب من ميدان الطرف الأغر إنه تم القبض على ثلاثة من دعاة الجمهورية بسبب حيازتهم مواد طلاء. وحذر مفوض شرطة لندن مارك رولي أمس الأول من أن الشرطة ستتخذ إجراءات إذا حاول أي محتجين «تعكير صفو أجواء المتعة والاحتفال».