منذ عدة سنوات والباحث «خالد عبدالقادر عبدالعزيز الرشيد» منهمك في أعمال الحفر والتنقيب اللغوي، بحثا عن المزيد من المعلومات حول اللهجة الكويتية وما يتعلق بها! وما إن يسمع بكلمة من كلمات هذه اللهجة المتعددة المنابع حتى يبدأ البحث والتحري من جديد حول أصولها وجغرافيتها، من أين أتت الكلمة، وكيف تطورت، وما مدى أصالتها أو غربتها، وسط آلاف الكلمات في لهجتنا التي يعتقد الكثيرون، ما عدا الباحث «الرشيد»، أننا نعرف كل شيء عنها.
ويرى كما يقول في مقدمة معجمه عن ألفاظ اللهجة الكويتية أن اللهجة ليست مجرد أدوات تفاهم بين البشر، بل «تعد اللهجة حدودا جغرافية دولية شفهية» و«الرشيد» يتابع منذ أكثر من عشرين سنة البحث اللغوي وتأليف المعاجم في اللهجة الكويتية ودراسة كتب التراث الكويتي ذات الاهتمام «اللهجوي» واستقصاء ما بين الباحثين من وجهات نظر وخلافات في هذا المجال.
يقدر «الرشيد» في مقدمة موسوعته المعروفة، أن كلمات اللهجة الكويتية أكثر بقليل من ثلاثة آلاف كلمة (ص16ج1) ولكن، يضيف، علينا أن نأخذ بالحسبان أن «للسيارة اسم، ولكن لكل جزء منها اسم أيضا». ولا يقول الرشيد كم إجمالي الكلمات!
ويعارض الرشيد اعتبار اللهجة الكويتية لهجة واحدة، أو لهجتين، «حضرية وبدوية»، ويرى أن ثمة فروقا بين لهجة «أهل جبلة ولهجة أهل شرق، وأيضا بين لهجة أهل الفنطاس وأهل الجهراء، ولهجة أهل فيلكا ولهجة البادية». ستة مصادر على الأقل! في كتابه الجديد «البدلية»، ط3,2022.
يواصل «الرشيد» بحثه في جنبات اللهجة واستكشاف «كهوفها» وربما كان توالي طبعات كتاب «البدلية»، رغم خصوصية موضوعه «وأكاديمية» مادته، يحمل دلالات، منها أن القارئ الكويتي متعطش لمعرفة المزيد عن لهجته ومصادر ثقافته المحلية، ومنها حقيقة أن كل اللهجات العربية بحاجة إلى دراسة على ضوء العلوم اللغوية المعاصرة، الزاحفة عبر وسائل الاتصال المختلفة، وتوحي بعض مخاوف الرشيد «اللهجة»، بأنه شديد الخشية من المخاطر التي تهدد اللهجة بالتغيير، غير أنه يبدي المرونة في مقدمة كتابه «البدلية» بقوله: «إن اللغات واللهجات في تلاقح وتداخل مستمر مرتبط بتطور الإنسان واكتشافاته».
ويعدّد الرشيد عوامل التأثير في اللهجة الكويتية من الهجرة النجدية، ومن بر فارس، وعبر الأوبئة التي فتكت بآلاف الزوجات، واضطرار الكويتيين إلى التزوج من خارج البلاد، ثم تأثير الهجرة للعمل في الكويت بعد اكتشاف النفط من قبل القوى العاملة العربية والآسيوية، و«تهجير أهالي فيلكا»، وعدوان 2 أغسطس 1990 الذي دفع الكويتيين إلى البقاء بعشرات الآلاف وبشكل جماعي خارج بلادهم، فتأثر البعض من الحياة هناك، من الكلمات التي يأتي «الرشيد» لها بمعنى غير مألوف كلمة «نوخذة»، فيقول إنها تعني «مالك السفينة والمتصرف بها وليس بالضرورة قائدها». (البدلية ص31) فالمعروف والمتداول أن كلمة «نوخذة» فارسية من مقطعين هما «ناو» أي سفينة، و«خدا»، أي رب. وقد توحي بعض معاني كلمة «نوخذة» بصحة رأي الأستاذ الباحث، بمعنى أن «رب السفينة» أو «ناوخدا» كذلك مالكها بحكم «الربوبية»، لا مجرد قائدها أو ربانها المؤقت في البحر.
ويستشهد بقاموس (تاج العروس) فيقول عن جمع «نوخذا» بأنهم «ملاك سفن البحر أو وكلاؤهم عليها، والمشهور أن الناخذاه هو المتصرف في السفينة المتولي لأمرها، سواء كان يملكها أو كان أجيرا على النظر فيها وتسييرها، وقد اشتقوا منها الفعل، وقالوا: تنخّذَ فلان، كترأس، إذا صار ناخُداة أو رئيسا في السفينة، ومنها أيضا «نوخذا شراع» تلفظ «نوخذا اشراع»، يقول الرشيد «وهو شخص ذو خبرة في إدارة شراع السفينة، ولا يوجد نوخذا شراع في كل السفن». (الموسوعة الميسرة لألفاظ البيئة الكويتية، ج3 ص1182).
وربما كان خلط ملكية السفينة بإدرة شؤونها أو الإشراف على بحارتها ناجم عن استخدام المصطلح بمعناه المتداول في الكويت والمنطقة الخليجية، وبين معناه في زمن مؤلف «تاج العروس» قبل ثلاثة قرون، وهو العالم اللغوي اليمني الذي عاش في القاهرة وتوفي فيها «مرتضى الزبيدي» (1732- 1790) (المنجد) فربما كان مالك السفينة في مصر أو اليمن يبحر ويتاجر بها ويتولى بنفسه أمورها وشؤون البحارة، وربما كانت تلك السفن كذلك أصغر حجما، أو لا تقطع مسافة مماثلة أو تحمل الكمية نفسها من البضائع والمواد التي يحملها «البوم» الكويتي مثلا، مما جعل مُلّاك السفن في الكويت يسندون وظيفة قيادة السفينة الى ربان ماهر مشهود له بحسن التصرف والمعرفة الجيدة بالطرق البحرية ومخاطرها.
ولكن كيف تحولت كلمة «ناوخدا» الفارسية الى «نوخذة»؟ من المألوف في اللغة الفارسية قلب الألف الممدوة في بعض الكلمات إلى واو، فيتحول اسم العاصمة الإيرانية «طهران» الى «تِهرون»، وإيران نفسها إلى «إِيرون» وهكذا «ناوخدا» تتحول إلى «نوخذة»! ويقول قاموس تركي قديم لشمس الدين سامي بك أفندي، تركيا 1899، في تعريف كلمة «ناخدا» إن أصل الكلمة «ناوخدا»، وأنها كلمة فارسية، ويوضح معناها القاموس بكلمات عربية هي «رئيس سفينة». (قاموس تركي- هكذا اسم القاموس- تأليف ش.سامي، تركيا 1899).
والخلاصة أن كلمة «نوخذة» الكويتية أو الخليجية كلمة قديمة في التداول البحري، وأنها في أصلها كلمة فارسية مركبة من «ناو» و«خدا» بمعنى رب السفينة، وكانت تعني في بعض البلاد مالك السفينة وربانها والمتاجر بها، والكلمة في الكويت والمنطقة الخليجية لقب لقائد السفينة الذي لا يكون مالكها في أغلب الأحوال ولكن له سيادة كاملة عليها وعلى بحارتها في البحر.
«في اللغة العربية 28 حرفا وفي اللهجة الكويتية ثلاثون حرفا»، يقول «الرشيد»، ويضيف «إن حرف الضاد «مهجور» في اللهجة الكويتية» (ص34) ربما بسبب استخدام الكويتيين حرف الظاء في كلمات مثل «ضحك» و«ضحى» ولا تزيد كلمات حرف الضاد في الموسوعة الميسرة عن تسع منها ضب وضيم، وكلمة ربما لم تعد مستخدمة هي «ضرّاب»، ويقول في معناها: «هو شخص مختص في دق المسامير في جسد السفينة بمختلف أنواعها وأحجامها».
(الموسوعة الميسرة لألفاظ الحياة الاجتماعية في البيئة الكويتية ج 2، ص685) ولا يرى «الرشيد» أن استخدام حرف الظاء بدلا من الضاد، مما انفردت به اللهجة الكويتية، بل إن له أصلا في اللغة العربية عامة ولهجات قبائل العراق خاصة، فيقول عن تجاهل العرب لحرف الضاد، رغم مكانة حرف «الضاد»، والتصاقه كما هو معروف بالعرب، وتبديله بحرف الظاء القليل الاستخدام!
يقول عن «حرف الظاء» ما يلي: «هو أقل حرف استخدم في اللغة العربية وذلك لثقله على اللسان، وأكثر الحروف استعمالا عند العرب الواو والياء والهمزة وأقل ما يستعملون على ألسنتهم لثقلها الظاء. والغريب في الأمر أن أهل الجزيرة العربية بالغوا في استخدام هذا الحرف في لهجاتهم العامية حتى حذفوا حرف الضاد تماما من لهجات الجزيرة واستبدلوه بالظاء فيقول «بيظ، ظرب، ظرس- يريد: بيض، ضرب، ضرس» وهذا جدير في التمعن والبحث، وعادة القلب هذه هي من عادات قبيلة بني ضبة التي سكنت بالنواحي الشمالية التهامية من نجد قبل الإسلام ثم انتقلوا الى العراق بعد الإسلام». (البدلية، ص65). ولكن قد نتساءل: كيف يكون حرف الظاء «ثقيلا وأقل استخداما عند العرب»، بينما يقول إن أهل الجزيرة العربية «بالغوا في استخدام هذا الحرف؟».
ويؤكد الباحث «تعدد اللهجات الكويتية»، وهو الوضع الطبيعي، والحال المألوف في العالم العربي وأوروبا وربما كل مكان ومع سائر اللهجات.
وفي الولايات المتحدة وغيرها قواميس للعامية Slang، فيما كان البعض في العالم العربي ينظر بارتياب الى كل مهتم باللهجات العامية العربية أو الأدب الشعبي إلى وقت قريب.
ومن الباحثين في هذا المجال مثلا «حفني ناصف» (1890-1919) في مصر، ومن مؤلفاته رسالة عنوانها «المقابلة بين لهجات بعض سكان القطر المصري»، ولا شك أن الكثير من الباحثين واللغويين وأساتذة الجامعات تخصصوا الآن باللهجات العربية المختلفة، بل ثمة من يبحث اليوم في لهجات بعض القبائل، ومواضع الفتحة والضمة في كلامهم في أوراق ترقيتهم الجامعية.
ولا يفوتنا أن نؤكد أن ملاحظة «الرشيد» حول عدم نطق أو عدم استخدام الكويتيين حرف الضاد، إن أيّد ذلك اللغويون «واللهجويون»، قد تكون ملاحظة مهمة وبمنزلة اكتشاف، في «لغة الضاد»!
يتحدث الباحث في هذا القسم من كتاب «البدلية» عن انقسام الكويت الى منطقتي «القبلة» و«الشرق»، ويقتبس ما ورد في تاريخ عبدالعزيز الرشيد وغيره عن التركيبة السكانية للمنطقتين السكنيتين، إلا أن الباحث «خالد عبدالقادر عبدالعزيز الرشيد» ينقل عن غير قصد تعابير وتعريفات قديمة قد لا تصلح للبحوث اليوم، كما لا يمكن استخدامها في الصحافة والإعلام المعاصرين، فهو يشير في الاقتباس إلى «المجتمع الشرقي» بأنه كان «يضم أخلاطا من الفرس» و«طائفة من الأعاجم السنيين والشيعيين»، و«ثلة من اليهود». (البدلية، 36).
وهي مصطلحات وتعابير ربما كانت متداولة في المراجع والكتب القديمة، ولكننا لا نستطيع استخدام الكلمات نفسها اليوم في البحث والمقالات مثل «أخلاط من الفرس»، «طائفة من الأعاجم»، و«ثلة من اليهود» لما قد يُفهم منها من تحقير الآخر والاستعلاء والابتعاد عن الحياد العلمي، وقد قرأت لآخرين في كتب التاريخ والجغرافيا تعابير من قبيل «علوج الأفغان» و«فلول العربان»، وكلها كلمات مشحونة بمشاعر غير مناسبة للبحث العلمي وما يتطلبه من عدم انحياز.
وقد رجعت الى قاموس «لسان العرب» في كلمة «أخلاط» مثلا، فوجدته يقول: «وبها أخلاط من الناس وخليط وخُلَيطي أي أوباش مجتمعون مختلطون، والخِلاط اختلاط الإبل والناس والمواشي». (مادة خلط في لسان العرب). وفي قاموس (المنجد)، ط 1973، «أخلاط القوم: الأوباش، خليط من الناس أي الأوباش» وهذا ما أدركه الباحث «الرشيد» لحسن الحظ في حديثه عن بدايات مناطق الكويت الحديثة فأشاد بالخطوة التي أقدم عليها الشيخ «عبدالله السالم الصباح» في منطقة الشويخ وتركيبتها السكانية، ويقول في هامش الكتاب «فطن الشيخ عبدالله السالم في عنصرية وطبقية بعض الكويتيين- آنذاك- وأمر بإنشاء منطقة شويخ السكنية وجمع بها كل الأطياف حتى خرج بعضهم من ظلمات العنصرية إلى نور المساواة، ففي هذه المنطقة سكن من هو ذو أصل إيراني ونجدي وهندي وعربي، وكل من حمل جنسية كويتية لا أصل أو فصل يميزه». (ص 40).
إن الاقتباس من اللغات واللهجات الأخرى أمر مألوف كما ذكرنا وكما هو معروف، تتغير معاني واستخدامات الكثير من الكلمات في اللغة العربية وغيرها من اللغات، وتكون الكلمة ذات دلالة إيجابية ممدوحة في عصر ثم تتحول إلى صفة سلبية واستخدام غير ممدوح، ومن هذه الكلمات كلمة «عصابة» مثلا، فـ«العصابة» في معجم (لسان العرب) هي (العمامة)، وكانت «التيجان للملوك، والعمائم الحمر للسادة من العرب»، و«كان يحمل الى البادية من هراة- بأفغانستان الحالية- عمائم حمر يلبسها أشرافهم». كما يضيف.
وفي الحديث النبوي: «عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار عصابة تغزو الهند وعصابة تكون مع عيسى بن مريم». (أحمد والنسائي - المعجم الوجيز من أحاديث الرسول العزيز، السيد عبدالله ميرغني، بيروت 1988، ص204). وتطلق كلمة عصابة اليوم على شيء آخر تماما!
ويتوجه إلينا الباحث الرشيد بسؤال طريف: «هل اللهجة الكويتية صعبة»؟! ويورد نماذج من كلمات اللهجة وما بينها من اختلاف كالفرق بين كلمتي «أواريك»، و«أراويك»، وبعد إيراد عدة أمثلة من كلمات اللهجة، يقول: «عن نفسي أقول إنه ليس من السهل أن تتقن هذه اللهجة إلا بشروط، لأن اللهجة الكويتية دقيقة جدا في شرح الحدث أو وصف صورة». (ص 46).