لا اختلاف في قيام الشركات المساهمة العامة المدرجة في البورصة بالمساهمة بصفة تبرعية بمبالغ مالية أو مساعدات عينية فيما يعرف بالمسؤولية المجتمعية للشركات Corporate Social Responsibility، والتي يهدف جوهرها إلى أن تقوم هذه الشركات من أجل التخفيف من غلواء هدفها الرئيس بتحقيق وتعظيم الأرباح على وجه الدوام بدور فعال في المجتمع كتخصيص جزء من هذه الأرباح لمد يد العون للمشاريع والمبادرات الداعمة التي تحقق النفع للمجتمع وأفراده. وصور ذلك كثيرة، كدعم المبادرات الخيرية المختلفة، إعادة بناء مساكن المتضررين من الكوارث الطبيعية، تمويل مشاريع حيوية لحماية البيئة، المساهمة في تجميل المرافق العامة، وغيرها، وهي جميعها بلا شك ذات غايات محمودة.
إلا أنه يثور التساؤل حول الصور الأخرى للدعم المقدم من الشركات، وعلى وجه الخصوص الدعم المقدم للحملات الانتخابية. فمن الناحية الأخلاقية، والقانونية أيضاً في بعض الدول كالولايات المتحدة، لا يجوز للشركات مباشرة دعم مرشحي الحملات الانتخابية على مختلف أنواعها - رئاسية، برلمانية كانت، أو بلدية - درءاً للشبهات التي قد تثار بعد الفوز بالانتخابات من قيام المرشح الفائز بتسهيل تنفيذ أجندات الشركات الداعمة، وحتى لا تسيطر الشركات على مؤسسات صنع القرار. إلا أن لبعض الشركات طرقاً أخرى غير مباشرة لدعم مرشحيها المحتملين ليس من شأنها التسبب في أي مخالفة قانونية، وهذا ما حصل بالولايات المتحدة في العقدين الآخرين. ففي عام 2008 قامت إحدى المنظمات غير الربحية المساندة للحزب الجمهوري، والتي تعرف بالمواطنون المتحدون Citizens United بتقديم المال لإنتاج فيلم وثائقي يعري التوجهات السياسية والإصلاحية لأحد مرشحي الحزب الديموقراطي آنذاك - هيلاري كلينتون - والذي أثار الضجة حينها باعتبار أن المنظمة مولت إنتاج الفيلم من أموال تبرعت بها شركات مساهمة عامة ربحية ذات توجه جمهوري سبق لها تلقيها منها، مما يعد تدخلاً في الانتخابات الرئاسية وإن كان بطريقة غير مباشرة.
وأسدل الستار على هذه الضجة بصدور حكم المحكمة العليا الأميركية Supreme Court of the United States في الدعوى المرفوعة من قبل منظمة المواطنون المتحدون ضد لجنة الانتخابات الفدرالية، وهي دعوى Citizens United v. Federal Election Commission التي انتهى فيها حكم الأغلبية إلى اعتبار المنظمة بتمويلها للفيلم الوثائقي لم تخالف القانون، فما قامت به هو استخدامها لحق التعبير عن الرأي Freedom of Speech المحمي بنصوص دستور الولايات المتحدة الفدرالي. وبالتالي، فإن محض تلقي هذه المنظمة الأموال من شركات مساهمة عامة ربحية ومن ثم تمويلها لإنتاج مرئي ضد المرشحة الديموقراطية لا يعد دعماً لمنافسيها الجمهوريين، لأن المنظمة استخدمت حقها الدستوري بالتعبير عن الرأي بغض النظر عمن ساندها مالياً في الإنتاج. بعبارة أخرى، لا يجوز وضع قيود على حق حرية التعبير عن الرأي للكيانات المعنوية لتلقيها أموالا من شركات لديها أجندة في الانتخابات، حتى وإن كان هذا الكيان المعنوي هو الوسيط الذي تستخدمه الشركات لدعم مرشحيها أو للحط من حظ مرشحي الحزب المنافس. جاء حكم المحكمة العليا مخالفاً لأحكام المحاكم الأدنى التي نظرت الدعوى في واشنطن العاصمة، والتي رأت أن ما قامت به منظمة المواطنون المتحدون من تصرف يمثل صورة من صور التدخل المحظور في الانتخابات لا محالة.
في واقع الأمر، أسال حكم المحكمة العليا الأميركية هذا الكثير من الحبر. لأنه فتح الباب على مصراعيه للشركات لتقديم دعم انتخابي بصورة غير مباشرة عبر وسيط يتبنى توجهات الشركات الممولة، ويتذرع بعدها بالحق الدستوري بالتعبير عن الرأي. إلا أن رأي القضاة المعارضين اختلف عن رأي قضاة الأغلبية. فاستند القضاة المعارضون إلى أن رأي الأغلبية نسف أبسط مبادئ الديموقراطية وأعطى الشركات اليد العليا للمشاركة في نسج خيوط السياسات العامة التي من المفترض أن يقوم بها أفراد منتخبون ذوو نزاهة من قبل الشعب. نتيجة لذلك، قد تكون نزاهة المؤسسات المنتخبة بالدولة في خطر عندما يرى معها النواب المنتخبون من قبل الشعب أن عملية صناعة القوانين قد تباع وتشترى من قبل الشركات وغيرها التي لا تمانع في إرخاء يدها بالدعم اللامحدود. وتعهد ممثلو الحزب الديموقراطي بتقديم تعديلات دستورية من شأنها نسخ حكم المحكمة العليا شروطاً أكثر تشدداً لتمويل الشركات للحملات الانتخابية، ولكن لم يكتب لأي منها النجاح حتى الآن.
في الكويت وعلى الرغم من وجود آلية رقابية للمساهمين في الشركات المساهمة العامة عبر المشاركة في إبداء رأيهم في اجتماعات الجمعية العامة بنوعيها، وبدعوى المسؤولية وقواعد الإفصاح معاً، فإن المنظومة القانونية ما زالت قاصرة حتى الآن لإغلاق كل الثغرات التي قد تشوب تدخل الشركات في استخدام أموال المساهمين للدعم الانتخابي، فقد يتبرع مجلس الإدارة لكيانات ما بحجة المسؤولية المجتمعية كغطاء للدعم الانتخابي. وبدورها تكون هذه الكيانات هي الوسيط عن الشركات التي تمكن هذه الأخيرة من التدخل في العملية الانتخابية بصورة غير مباشرة، بل وحتى الإفلات من ثمة مسؤولية قانونية هنا لاعتبارات متعلقة بمصالح الشركة. فالشركة في نهاية الأمر كيان يسعى إلى تحقيق الربح، وراغب بذات الوقت في بناء شبكة عميقة من المصالح التي تذيل لها عقبات ممارسة نشاطها في حدود القانون.
في الحقيقة، الأمر أكبر بكثير من مجرد الاكتفاء بالقول بأن القواعد الواردة في قانون الشركات الكويتي تسعف بحد ذاتها في إيجاد حلول لهذا الموضوع. فالرقابة السابقة أجدى من اللاحقة. فمع الرقابة اللاحقة، قد ينجح المساهمون في إدانة أعضاء مجلس الإدارة عبر رفع دعوى المسؤولية بصورها المحددة قانوناً، لكن لا ينفع البكاء على اللبن المسكوب بعد وقوع التدخل الانتخابي على أرض الواقع لتحقيق مكاسب شخصية لأعضاء مجلس الإدارة من وراء ذلك أو حتى للشركة بعد استخدام أموال المساهمين ذوي التوجهات السياسية المختلفة بالضرورة. لكن من جانب آخر، فمن شأن وجود رقابة سابقة منظمة بقواعد صارمة وضع مجلس الإدارة في مركز تأهب يوقعه في المحظور بمجرد التفكير في استخدام أموال الشركة في تبرعات أو رعايات من شأنها تقديم دعم انتخابي لفئات معينة لا يوافق عليها جمهور المساهمين. والأمر ذاته في الولايات المتحدة، فحتى مع الأمر الواقع الذي يعطي الشركات مكنة لوضع تصور لنتائج خارطة الانتخابات النهائية، فلا زالت الأصوات المساندة لحماية المستثمرين تنادي بتدخل هيئة سوق المال الأميركية Securities & Exchange Commission United States لتشديد قواعد تقديم التبرعات للكيانات الوسيطة. فما يجب أن نتطلع إليه في الكويت من تنظيم مقترح ينبغي أن يكون متوازناً. فمن ناحية، يراعي مصالح المساهمين في الشركات المساهمة العامة من أن يتم استخدام أموال الشركة في دعم الانتخابات عبر أفراد وكيانات لا تتفق وتوجهاتهم السياسية، خصوصاً المساهمين الأفراد الذين يعرفون بالمساهمين السلبيين Passive Shareholders وهم كثر، الذين لا خبرة قانونية لهم في القوانين المنظمة للشركات وإدارتها، حيث جل اهتمامهم ينصب على تملك الأسهم بقصد الربح دون أدنى اهتمام بمراقبة الشركة لأسباب كثيرة. ومن ناحية أخرى، يمنح ضمانات تكفل ممارسة العملية الديموقراطية بكل شفافية ويسر، تلك التي وإن تعثرت فسرعان ما تجمع قواها لتواصل استمرارها، والتي جبل عليها الكويتيون منذ ما يقارب قرنا من الزمان ليس فقط في مجلسهم البرلماني المنتخب، بل في سلسلة أعم تشمل انتخاباتهم البلدية، انتخابات نواديهم الرياضية، انتخابات جمعياتهم التعاونية، انتخابات جمعيات النفع العام، وانتخابات طلبة جامعاتهم وغيرها من مؤسسات التعليم العالي.
* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال د. عبدالله أحمد الخياط.
* كلية الحقوق – جامعة الكويت.