لسنوات طويلة، كان يصعب أن تجد أحداً في مجتمع المال والأعمال يختلف على أهمية بنك الكويت المركزي كمؤسسة مهنية كفؤة تتولى رسم وتنفيذ السياسات النقدية والمالية في البلاد، بما يحافظ على استقرار ورفع جاذبية العملة الوطنية والنظامين المصرفي والمالي، فضلاً عن تقديم المعلومات والبيانات والسياسات اللازمة للمستثمرين لتحديد قراراتهم الاقتصادية والمالية، بل وحتى قدرتها على معالجة أي إخفاق أو تجاوز، غير أن هذا التوافق حول كفاءة ومهنية تحوّل الى انقسام بين العديد من المهتمين بالشأن الاقتصادي والمالي والمصرفي، لا سيما مع تنامي الغموض في إجراءات وسياسات البنك المركزي تجاه العديد من الملفات المهمة، والتي نتج عنها ارتباك في تحديد خيارات المستثمرين، لا سيما الصغار منهم أو أدخل البلاد في أزمة سياسية كان بالإمكان تلافيها.

فمسألة الغموض في سياسات بنك الكويت المركزي النقدية خلال السنة الأخيرة كمقياس لتقييم إدارته الجديدة تتجاوز مجرّد التخلي عن مواكبة قرارات المجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، الذي رفع أسعار الفائدة لـ 10 مرات خلال 14 شهرا منذ مارس 2022، لترتفع من هامش ما بين 0.25 و0.50 بالمئة، الى هامش 5 الى 5.25 بالمئة، ليصل الهامش ما بين الفائدة على الدينار والدولار، لأول مرة، الى 1 الى 1.25 بالمئة، وهذا لا يتطلب من بنك الكويت المركزي رفع سعر الخصم على الدينار، أو التدخل في قراراته التي يجب أن تتخذ بدرجة عالية من الوضوح والمهنية، بل إزالة الغموض في سياساته النقدية وبيان الأسباب التي سمحت بأن تكون الفائدة على الدولار أعلى من الدينار، ومدى تأثير هذه السياسة على جاذبية الدينار مقابل الدولار أو العملات الخليجية المرتبطة بالأخير، فضلا عن مدى تأثير الغموض في السياسة النقدية للمركزي على نمو بند ودائع القطاع الخاص بالعملات الأجنبية بواقع 13.3 بالمئة، بما يمثّل أكثر من ضعف نمو ودائع هذا البند بالدينار، بواقع 6.14 بالمئة منذ بداية رفع «الفدرالي الأميركي» أسعار الفائدة في مارس 2022.

Ad

إعلان سياسات

ولا شك في أن التحول في هامش الفائدة بين الدولار والدينار من مارس 2022، والذي كان 1 الى 1.25 بالمئة لمصلحة الدينار، لينقلب بنفس النسبة لمصلحة الدولار يستدعي إعلانا لكيفية تدخُّل بنك الكويت المركزي في سياساته الخاصة بالمحافظة على استقرار سعر صرف الدينار مقابل العملات الأخرى، وأهمها الدولار، لا سيما أن الكويت تعتمد في مجمل استهلاكها على الاستيراد بنسب مرتفعة تتجاوز 90 بالمئة، خصوصاً في قطاعَي الأغذية والأدوية، وبالتالي فإن ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار يجعل مؤشر أسعار السلع في الكويت أكثر غلاء، ويفتح مجالاً للتساؤل عن هدف أولوية المحافظة على سعر خصم منخفض، هل يستهدف المحافظة على أسعار الأصول كالأسهم والعقار، أم يراعي احتياجات السوق من السلع، لا سيما الأدوية والأغذية والعديد من المواد والبضائع الاستهلاكية؟

روزنامة كويتية

وفي كل الأحوال، فإن بيان بنك الكويت المركزي عن مواعيد اجتماعاته الخاصة بالتعامل مع سعر الخصم على الدينار، سواء اتفقت مع روزنامة «الفدرالي الأميركي» أم مع ضرورة تحديد مستهدفاته الخاصة للتضخم أو الاستقرار النقدي أو الحفاظ على جاذبية الدينار، سيزيل جانباً من الغموض لدى العديد من المستثمرين وأصحاب المدخرات - وجلّهم من متوسطي الدخل والمتقاعدين - في حسم خياراتهم الاستثمارية المرتبكة لعدم وضوح السياسة النقدية في البلاد.

ولا يتوقف الغموض في سياسات «المركزي» عند سياسته النقدية، بل في العديد من مناحي أعماله الإشرافية والرقابية، لا سيما في سياسات الاندماج والتحول والاستحواذ بالقطاع المصرفي، كعدم إصدار أي بيان يتعلق بموافقته على صفقة استحواذ بيت التمويل الكويتي على البنك الأهلي المتحد البحريني، أو توضيح مصير الشروط التي حددها «المركزي» نفسه عام 2019 لإتمام الصفقة أو خطوات صفقة الاندماج بين بنكَي الخليج والأهلي الكويتي، أو التعليق على طلب البنك التجاري الكويتي للتحول من بنك تقليدي الى مصرف إسلامي، فضلا عن مصير طلبات إنشاء البنوك الرقمية.

غموض في القروض

بل إن الغموض في سياسات «المركزي» شكّل عاملا من عوامل خلق أزمة حكومية - برلمانية عندما شهد مجلس الأمة، بداية العام الحالي، جولة جدية كادت تنجح لإسقاط القروض أو ما يُعرف بشرائها، وسط تسويق أرقام مغلوطة عديدة، أبرزها عن حجم القروض المراد إسقاطها بقيمة 1.8 مليار دينار فقط، دون أن يبادر «المركزي» لتوضيح هذه الأرقام، وبيان أن الرقم أعلاه مرتبط بالقروض الاستهلاكية فقط، وأن قروض المواطنين لدى البنوك (الشخصية أو المقسّطة) تبلغ 12 مليارا، أي بإجمالي يقارب 14 ملياراً لكل قروض المواطنين في البنوك، وأن سداد أو شراء هذه القروض من المواطنين سيتطلب دخول الدولة في الدَّين العام بفوائد تصل إلى 7 مليارات دينار، أي أن كلفة السداد الكامل لقروض المواطنين في البنوك ستصل إلى 23 ملياراً، وهذا فضلا عن الأضرار الاقتصادية والمالية الأخرى المتعلقة بالتضخم أو الضغط على مالية الدولة وأصولها، وهي إيضاحات لو أُعدت ضمن حملة توعية مدروسة لتمكّنت من استقطاب شرائح واسعة من المجتمع ضلّلتها الأرقام والمعلومات المغلوطة.

مؤتمر مفتوح

ولا شك في أن انتقاد أي سياسة لبنك الكويت المركزي ليس هدفا بذاته، إنما ذلك من ضمن مسعى لإزالة الغموض عن سياسات تهمّ مجتمع الأعمال والمواطنين والاقتصاد عموما، لذلك يمكن إزالة اللبس الحاصل حاليا من خلال عقد مؤتمر اقتصادي مفتوح بحضور وسائل الإعلام والمعنيين بالشأن الاقتصادي، ليكون مناسبة جيدة لشرح السياستين النقدية والمالية تجاه سعر الخصم وسعر الدينار، والضغوط التي تواجهه، إضافة إلى مناقشة أوضاع الجهاز المصرفي، بل وأيضا التعليق على الواقع الاقتصادي والمالي للبلاد من منظور مؤسسة مهنية متخصصة.