احترام أحكام القضاء جوهر استقلاله

إن من عناصر استقلال القضاء وحماية العدالة واحترام مبدأ سيادة القانون والدولة ألقانونية احترام أحكام القضاء، فلا يجوز وقف تنفيذها أو الامتناع عن تنفيذها أو تعديلها إلا من خلال الإجراءات التي وضعها القانون للطعن عليها من خلال درجات التقاضي المختلفة.

Ad

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن الدستور عزز مبدأ سيادة القانون بنص المادة (72) التي صاغها بوصفها ضماناً جوهرياً لتنفيذ الأحكام القضائية من قبل الموظفين المختصين، واعتبر امتناعهم عن أعمال مقتضاها، أو تعطيل تنفيذها جريمة معاقبا عليها قانونا، وما ذلك إلا توكيد من الدستور القوة الحقيقة الراجحة التي يقوم عليها الحكم القضائي، وهي تعد حقيقة قانونية لا تجوز المماراة فيها (جلسة 1995/4/15 ق27 لسنة 16 ق)، وهو الضمان الجوهري الذي كفله قانون الجزاء الكويتي بتجريم فعل امتناع من تنفيذ أحكام القضاء من قبل الموظفين المختصين.

وتعتبر قاعدة حجية الأمر المقضي من القواعد المتعلقة بالنظام العام، وتعني هذه القاعدة أن ما قال به الحكم القضائي أياً كانت درجة المحكمة التي أصدرته صار باتّاً، أي غير قابل للطعن فيه بأي وجه من الوجوه عنوانا للحقيقة، بمعنى أن ما قال به الحكم هو الحق بعينه، وأن ما يناقضه بعيد عن الحقيقة، وإذا كان من الممكن أن يأتي الحكم القضائي مجافيا للحقيقة لهذا السبب أو ذلك، فإن البشرية على الرغم من ذلك قد ارتضت قبول قاعدة حجية الحكم القضائي لأسباب أهمها الرغبة في وضع حد للخصومات، ولأن الحكم هو الأقرب إلى الحق وإلى الصواب في الأغلب من الحالات.

ويقول الصديق العزيز الراحل د.عبد المنعم عبد العظيم جيرة، طيب الله ثراه، في كتابه «آثار حكم الإلغاء دراسة مقارنة في القانونين المصري والفرنسي»: «إن القضاء إذا قال كلمته فإنه يقولها منزهاً عن الميل والهوى، وإن ما نطق به هو الحق والصواب أو هو الأقرب إلى الحق والصواب، وإن الحكم عندما يصير باتّاً فإنه لا يقبل طعنا ولا مراجعة، وإنه يمثل وفقا لقاعدة حجية الأمر المقضي الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل جدلاً ولا نقاشاً».

ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا يجوز بعد هذا القول من سيد الخلق جميعا أن نخلع على أحكام يصدرها قضاة من البشر عصمة لم يعصم النبي نفسه منها، فنسدل ستار الصمت على أحكامهم، أصابت أو أخطأت فى الوقت الذي يعتبر فيه الدستور علانية الجلسات من الضمانات الأساسية للمحاكمة، وهي ضمانة لم تشرع عبثاً، وإنما شرعت لإخضاع هذه الأحكام لرقابة الشعب، وحتى في الأحوال التي تقرر فيها المحاكم عقد جلساتها سرية مراعاة للنظام العام أو للآداب العامة، فإن النطق بالحكم يكون فى جلسة علنية، ليخضع الحكم لرقابة الشعب، لأن السلطة القضائية شأنها شأن أي سلطة أخرى لا يجوز أن تكون أعمالها بمنجاة من رقابة الأمة مصدر السلطات جميعا.

دعوة ببطلان الحكم أصلية

وبالرغم من نهائية الأحكام القضائية وحجبتها وقوة الأمر المقضي فيه، وأنها واجبة الاحترام، وأن أحكام المحكمة الدستورية ملزمة للكافة، إعمالا لأحكام المادة الأولى من القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية، فإن أحكام هذه المحكمة استقرت على أن أحكامها لا يجوز الطعن عليها حتى بالتماس إعادة النظر، مثلها مثل أحكام محكمة التمييز، وإن كان هناك اختلاف كبير بينهما- في رأيي- فإن المحكمة الدستورية هي محكمة موضوع في الطعون الانتخابية ومحكمة التمييز محكمة قانون.

الا أن المحكمة الدستورية في قضائها في دعوى بطلان أصلية قيدت أمامها رقم 46 لسنة 2008، على الحكم الصادر في الطعنين رقمي (39) (49) لسنة 2008 في الانتخابات العامة لمجلس الأمة (2008) قررت في حكمها الصادر في هذه الدعوى بجلستها المعقودة بتاريخ 2008/11/25، «بأن هذه المحكمة بما تحمله من أمانة القضاء وعظيم رسالته وما وسد لها من اختصاص استنادا الى الدستور حارسة على أحكامه رقيبة على الالتزام بقواعده، قوامة على إرساء مبادئه، إعمالا لمبدأ الشرعية وضمانا لحقوق الناس من أن تنتهك، لا سبيل معه الى نسبة الخطأ الجسيم الذي يهوي بقضائها الى البطلان، إلا أن يكون الحكم المدعى ببطلانه انتفت عنه صفته القضائية.

بطلان الحكم ببطلان الحل

الأمر الذي كان يمكن معه للحكومة أن ترفع دعوى بطلان أصلية في الحكم الصادر بإبطال الانتخابات العامة التي أجريت عام 2022 لبطلان مرسوم حل مجلس الأمة، أن تقيم دعوى بطلان أصلية في هذا الحكم، وقد انتفت عن هذا الحكم صفته القضائية لخروجه عن ولاية القضاء بوجه عام بالفصل في الطعن ببطلانه على مرسوم حل مجلس الأمة، وهو عمل سياسي وسيادي، وتحظر المادة (2) من قانون تنظيم القضاء رقم 33 لسنة 1999 على المحاكم نظر أعمال السيادة.

إلا أن الحكومة يبدو أنها اتخذت خيارا صعبا هو تنفيذ حكم القضاء، فاستعاد مجلس الأمة سلطاته الدستورية، حيث حدد المجلس المنحل العائد دعوة لاجتماع المجلس ورفعت لعدم حضور الحكومة، واتخذ رئيس المجلس المنحل والعائد بعض القرارات منها إحالة بعض موظفي المجلس إلى التقاعد.

وأعقب ذلك استصدرت الحكومة مرسوما بحل مجلس الأمة العائد رقم 62 لسنة 2023 بحل مجلس الأمة العائد، وهو ما أوقع الحكومة في مخالفة حقيقية للمادة (107) من الدستور التي حظرت تكرار الحل لذات السبب، ويبدو أن الحكومة قد أدركت بعد أكثر من عشر سنوات أن مرسوم حل مجلس الأمة لا رقابه قضائية عليه، وأن الاحتكام الى الأمة مصدر السلطات جميعا، بدعوة الناخبين لانتخابات عامة لانتخاب مجلس جديد بالمرسوم رقم 64 لسنة 2023، هو حصنها الحصين وملاذها الأمين.

وجدير بالذكر أنني نبهت إلى عدم اختصاص المحكمة الدستورية ولائيا بالطعن على مرسوم الحل، في مقالي المنشور على هذه الصفحة في عدد»الجريدة«الصادر في 8 يوليو سنة 2012 تحت عنوان «على هامش حكم المحكمة الدستورية ببطلان مرسوم الحل».

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.