مؤخراً بدأ الاعتراف بالتاريخ الشفوي كأحد المصادر المهمة في كتابة التاريخ التقليدي، هذا النوع يجعلك تعيش تفاصيل الحياة للأفراد والمجتمعات، وبتعبير أوضح إعادة إحياء أصوات تم تجاهلها في الماضي، قد تكون أقرب إلى شعار جريدة «السفير» اللبنانية «صوت الذين لا صوت لهم» في كتابة التاريخ.

إن للتاريخ المروي أصولاً وأساليب باتت متداولة ويؤخد بها، تأتي التسجيلات الصوتية أو الفيديو أو الشهادات بالمقام الأول، ففيها معلومات وحكايات قد لا تكون متوافرة في التاريخ المدون.

Ad

حقل جديد بدأ في أميركا وانتقل إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومؤخراً دخل إلى العالم العربي، أي في مطلع الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، في السعودية وليبيا وبيروت وهناك تجارب وكيانات أكاديمية تعمل في هذا المجال.

كنت أحد الذين شملهم مشروع توثيق التاريخ الشفوي الذي تبنته الجامعة الأميركية في الكويت، مع عدد من الشخصيات ذات السجل الحافل بمعاصرة الأحداث، وشعرت بأهمية شخصي المتواضع أثناء إجراء التسجيل الصوتي الذي قامت به السيدة ريم العلي، وهي الشغوفة بإتمام هذا العمل الذي بدأ لأول مرة عام 2012 على يد الدكتورة فرح النقيب واستغرق إنجازه أكثر من عشر سنوات، وهو الأول من نوعه على مستوى الكويت نظراً لاختصاصه في إجراء مقابلات شخصية وبهدف «بناء أرشيف من المقابلات الصوتية وإتاحتها للمؤرخين والباحثين وأفراد المجتمع».

أساتذة التاريخ ما زال الكثير منهم ينظر إلى «التاريخ الشفهي» بشيء من عدم الاكتراث، لاعتبارات تدخل في نطاق التمسك بالموروث القديم، كما تلقوه في الجامعات التي درسوا فيها.

وحصيلة المقابلات التي شاهدتها في المعرض الذي أقيم في «منصة كاب» تعطي صورة حية وواقعية عن «التاريخ الشفهي»، فثمة جوانب مضيئة في حياة وواقعية الأفراد ممن كانوا شهوداً ومعاصرين لأحداث مرت فيها الكويت قبل مرحلة النفظ أو بعدها وصولاً إلى فترة الغزو العراقي.

التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط كما درجت عليه الأدبيات السياسية، والمسألة ليست كذلك، فهناك من نحتاج إلى أن نسمع صوته، صوت الناس بما يمكلون من مقومات الرواية والشهادة والمستوى الثقافي والعلمي، وهؤلاء لا بد أن يكون لهم مكان في الكتابة التاريخية، فهم نبض المجتمع الذي ينتمون إليه.

عايشت فترة من أيام الغزو العراقي ولي فيها مواقف ومشاهد وحكايات مثل غيري بالطبع، فهي في النهاية «تسجيل حي وصوتي» يعكس حياة الناس كان من الضروري حفظه قبل أن يشيخ ويسقط من الذاكرة.

أعتقد أن هناك مقومات في عملية تسجيل الشهادات بالتاريخ الشفهي غير موجودة في أي مصدر آخر، منها العفوية والصدقية بالوصف وبشريط الوقائع والذكريات، هو أعلى مراتب «الشهادات المروية» دون أن يطولها رقيب أو جهة تتدخل في الرواية وتهندسها بحسب ما تراه!

استعنت بالباحثة التاريخية الزميلة عبير ريدان التي كان لها تجربتها الخاصة في هذا الشأن، فروت لي ما كان خافياً من المشهد التاريخي، تقول إن للتاريخ الشفهي أهمية كبيرة لا تقل عن التاريخ المكتوب، خصوصاً تاريخ الشعوب التي تفتقر لثقافة التدوين، فهناك الكثير من الحقائق العالقة في ذاكرة الناس لم يدونها التاريخ أو تغافل عنها رغم أهميتها، بل في أحيان كثيرة تكون أكثر مصداقية مما سطره التاريخ المكتوب الذي لحقه الكثير من التزوير.

«فمن خلال تجربتي في كتابة تأريخ منطقة راشيا الوادي في لبنان وجدت أن عدداً كبيرا من الأفراد كانت لهم تضحياتهم أثناء الانتداب الفرنسي والحكم العثماني، دفعوا بأرواحهم فداء لوطنهم وأرضهم ماتوا شهداء ولم يذكرهم التاريخ، بل لم يذكرهم إلا قلة من أبناء بلدتهم أو منطقتهم، تعطينا صورة أكثر وضوحا عن الماضي ومن وجهة نظر شواهد تاريخية عاشوا عن قرب الحدث».

الشكر لجميع القائمين على هذا المشروع والداعمين له، بدءاً من رئيسة الجامعة وإلى السيدة أسماء كنعان مديرة المكتبة، وبالأخص الناشطة ريم العلي وزميلها عبدالعزيز المحميد المنسق العام، فقد أتاحوا لي ولغيري المجال، ومنحوني الفرصة لتسجيل شريط أحداث من حياتي.