نادتني الموجة *
أولئك الذين ولدوا وكبروا بالقرب من الماء لا بد أن يفهموا مناداة البحر لهم، وهم وحدهم قادرون على معرفة كم هو أساس في حياتهم اليومية، كالدواء والماء والغذاء والصلاة أيضا، ففي الغطس في البحر طقس من طقوس العبادة أيضاً ليس عند بعض الأديان كالهندوس فقط، بل عند كل من يدينون بدين البحر ويغتسلون به.
وهؤلاء نفسهم يعرفون معنى الصيف في حضن البحر أينما كان هو في المعمورة أو في سان ستيفانو أو شاطئ جليم أو بلاج المنتزه، وهناك في بلدان لا تبعد كثيراً عن البحر كالإسكندرية رغم أنه بحر آخر كان الموج الراكد ينادي مريديه والصيف يقترب أو حتى قبله وبعده، فكان أن يجهز الأطفال ملابس البحر، كانت البنات الصغار يلبسن المايوه قبل أن يصار إلى تحجيب البنت عند البلوغ! ويحملون ضحكهم ويرحلون إلى أحد الشواطئ أو يستأجرون «بانوش» يأخذهم إلى إحدى الجزر القريبة، بقي شاطئ الزلاق في البحرين هو الأكثر استقبالا للقادمين لا شاليهات كانت ولا حتى أي تسهيلات للمصطافين، فقط تأتي العائلة أو العائلات بعرباتهم ويختارون أي بقعة ليفترشوهاعند الشاطئ المترامي الذي كان كله، نعم كله، مفتوحاً لأي عاشق للبحر، وكان العرف أن تترك كل عائلة بينها وبين العائلة الأخرى مسافة احتراماً لخصوصية العائلات، هذا الأمر الذي تلاشى مع الزمن بحكم تغير الأخلاق قبل العادات، فلم يعد هناك من يرى أي أهمية لاحترام الخصوصية في أي تفصيل من تفاصيل الحياة.
يجري الأطفال ليرتموا في حضن البحر الذي يستقبلهم بكثير من المحبة ويعلو ضحكهم وصراخهم وهم يصارعون الموجة أو عندما يكون البحر هادئا يبحثون عن القواقع وفرسان البحر بين الصخور، كانت لعبتهم المفضلة من يسبح أسرع ليصل إلى نقطة ما، أو يبقى تحت الماء بعض الدقائق، أو حتى يجد صخرة بألوان نادرة وكل خيرات البحر. لم يكن هناك من يستغل هذه الصداقة في حضن البحر ليصطاد أسماكه وهو يستمتع بالاغتسال به، ولم يكن من يترك مخلفات الأكل والشرب بعد الانتهاء من السباحة، بل يجمع كل فرد الفضلات وتُحمل لتوضع في مكانها الصحيح.
يلتئم اللقاء بعد الظهر وعند اقتراب الغروب، ليهدأ الصغار ويتحول الكبار الى جلسة مع الشمس، وهي تعود إلى بيتها وهم يحتسون الشاي والقهوة، ويغتسلون بهدوء وجمال لا مثيل له، أو هكذا بدا لهم، ويمر زمن فيكبر الصغار، وينتقل الكبار إلى حيوات أخرى رغم أنهم أكثر حضوراً من كثير من الذين لا يزالون بيننا ومعنا، يمضون اللحظات بحثا عن المزيد من المادة أو الشهرة، وحتى عندما يهربون إلى البحر يلفظهم هو فيرحلون إلى بحور لا تشبههم ولا تناديهم في غيابهم كما هنا!!! هناك ميتون كما قال ذاك الكاتب هم أكثر حضوراً من الأحياء.
تسكنك اللحظة تلك... نعم اللحظة التي ناداك فيها البحر، وتبقى معك كما كل الأشياء أم هي كما كتبت غادة السمان لغسان كنفاني في رسائلهما: «أي هرب ما دامت الأشياء تسكننا... وما دمنا حين نرحل هربا منها نجد أنفسنا معها وجهاً لوجه...».
هكذا تجد نفسك وجها لوجه مع شاطئ المعمورة مرة في ذات صيف هربت فيه العائلة من حر الخليج إلى نسماته العليلة، ومرة أخرى في بورسعيد هناك أيضا مرت العائلة أو في الزلاق عندما تعود إلى سكنها الأول، تداهمك صور الزلاق بعنف وأنت تقترب منه في رحلة بدأت فقط بحثا عن ساعة غروب تشبه تلك التي لا تزال محفورة في الذاكرة، علّ بحره وموجه وملحه يعيدهم إلى الحياة لحظة فيغتسل القلب قبل العين بهم، تتفاجأ بحجم الدمار الذي حصل له كثير من الأسوار لبيوت بل قصور، لم يعد البحر لنا بل هو الآخر نالته الخصخصة كما حال كل تلك الشواطئ، وكم القبح المنتشر يفسر حتما كم كان ما تبقى من فسحة للبحر ولنا لنلتقي، كم هو البحر لا يشبه ما كان عليه عندما كان فرحاً بنا وينادينا، لماذا تصرون على تدمير كل جميل حتى لو كان ذكرى أو صورة هنا أو هناك؟ لماذا تجعلوننا ضعافا ومنكسرين أمام مناداته لنا؟ ولماذا كل هذا القبح الذي لا يشبه أي شيء من ذاكرتنا؟ كم نخجل كلما ينادينا البحر لأننا أعجز من أن ننقذه أو نرحل له لنكون في حضنه.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.