الفوزان والصرّاف ودرب الجبل اللبناني
في إطار الأنشطة الثقافية الدورية للسفارة اللبنانية في الكويت استضافت ديوانية السفارة باقة من محبي لبنان وأهله في فعاليتين متتاليتين تمحورتا حول عشق الطبيعة اللبنانية ومتانة العلاقة الإنسانية بين مكونات الشعبين الشقيقين.
ففي الفعالية الأولى التي خصصت للتعريف بأنشطة وأهداف «جمعية درب الجبل اللبناني» المعنية برياضة المشي في مختلف المناطق والتضاريس اللبنانية، لم يكن مستغرباً وليس جديداً اكتشاف التعلق المتجذر في وجدان كثير من الكويتيين ببلدهم الثاني الذي ترعرعوا في ضيعه ومدنه، وساحوا في سهوله ووديانه، وصعدوا قمم جباله، وشربوا من رقراق مائه، وتذوقوا من شهي أطباقه، إلا أن ما كان لافتاً هو عمق الصدق وحجم الشغف وشدة الحماسة التي تحدث بها رجل الأعمال «فريد الفوزان» عن طبيعة لبنان وعن ارتباطه بتفاصيلها، فشكّل بحق خير سفير لـ«جميعة درب الجبل اللبناني» وخير مروّج للريف اللبناني الذي- على حد قوله- يضاهي في سحره الطبيعي وتنوعه البيولوجي وإرثه الحضاري أجمل مناطق العالم رونقاً وجمالاً وتميزاً وأماناً.
أما نجم الفعالية الثانية فكان الكاتب المعروف الأستاذ أحمد الصرّاف الذي- بشخصيته المعهودة وصراحته المشهودة- قدّم للحاضرين كتابه «70 نصاً في 11 سنة عن 70 عاماً من الولع»، وهو كتاب خصص للإضاءة على علاقة مؤلفه المتميزة بلبنان وشعبه، والممتدة عمقاً لسنين طويلة، والمتسعة أفقاً لتشمل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفنية كافة، والذي وصفه بأنه ليس «رواية ولا مجموعة مقالات أو نصوصا متفرقة، بل قصة حب بدأت قبل سبعين عاماً بين كويتي وبين وطن اسمه لبنان، ولا تزال علاقة الحب مستمرة». ففي حين ركّز «الفوزان» على جمال الطبيعة اللبنانية، تعمّق «الصرّاف» في شرح أسباب تعلّقه بالشخصية اللبنانية الكريمة والمحبّة والعاشقة للحياة والأناقة والجمال.
وفي كلا الفعاليتين لم ألحظ في عيون اللبنانيين إلا وافر الامتنان وجزيل العرفان وكثير التأثّر والحنين وكمية كبيرة من المحبة التي يبادلون بها الكويت وأهلها وكل الأوفياء لوطنهم الذي كلما حكمت عليه الأقدار بأزمة أو شدّة قام من كبوته بإرادة صلبة لأبنائه، وبدعم غير مشروط من محبيه، ولا سيما الكويت حكومة وشعباً ومؤسسات عامة وخاصة.
وقد عبّر لبنان الرسمي وأفراد الجالية اللبنانية المقيمة في الكويت عن شديد امتنانهم ووافر عرفانهم لكل الأوفياء والمخلصين على لسان القائم بأعمال السفارة الأستاذ أحمد عرفة الذي كان صادقاً ومميزاً بالتعبير وواضحاً في التأثر والتأثير بكلمات الشكر والتقدير.
***
تعتبر «جميعة درب الجبل اللبناني» التي بلغت عامها الخامس عشر رائدة ومؤسسة لنشاط المشي في لبنان، وتبعها في ذلك كثير من الجمعيات والمجموعات المحلية التي ركبت موجة هذه الرياضة في لبنان من أدناه الى أقصاه.
وقد تميّزت هذه الجمعية عن غيرها بشغف وجدية القائمين عليها والمنتسبين اليها وولائهم لكل ما يحيط برياضة المشي ويرتبط بها، فقاموا أولاً بتجهيز وصيانة ممشى طويل من شمال لبنان الى جنوبه بواقع 440 كم، ويمرّ في أكثر من 80 بلدة تتنوع بطبيعتها الساحرة وعمرانها المميز وإرثها الحضاري وتقاليدها الشعبية، إضافة إلى ثلاث محميات طبيعية على ارتفاعات تتراوح بين 600 إلى 2000 متر فوق مستوى سطح البحر، وحمى مميزة لعبور الطيور المهاجرة والمستوطنة.
ومن ثم تطورت أنشطة الجمعية لتشمل في اهتمامها ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال تصميم كرسي خاص لمرافقة المهتمين منهم بدروب المشي والسياحة البيئية المختلفة، ناهيك عن تدريب المرشدين والمتطوعين المحليين، إضافة الى تحريك الاقتصاد الريفي من خلال تشجيع الإنتاج القروي والحرفي والمساهمة مع أصحاب بيوت الضيافة والمطاعم والمقاهي المحلية في تجهيزها والترويج لها.
درب الجبل اللبناني هو درب اكتشاف مثير ومغامرة آمنة، فشيمة الناس الترحاب وميزتهم الضيافة، والطبيعة الخلابة ما زالت في أعالي الريف اللبناني محافظة على ما منحه الخالق العظيم لبلاد الأرز من جمال وبهاء، كما أن للثقافة والموروث الحضاري وجوداً مميّزاً، إذ لا تنحصر متعة السائح البيئي وممارس رياضة المشي بالانتعاش من مياه الينابيع الباردة ولا بالتمتع بمذاق المطبخ التقليدي، بل تشمل متعة الاكتشاف مجموعة كبيرة من المواقع الأثرية والقلاع التاريخية والطرق والمعابد والبيوت العتيقة المغطاة بالقرميد الأحمر في مسقط رأس كثير من رواد الأدب والفكر والعلوم.
***
يرتبط كل من لبنان والكويت بوشائج علاقة متينة تمتد جذروها في أرضية مشتركة من التاريخ والجغرافيا والقومية، حيث بلغ عدد اللبنانيين في الكويت أكثر من 40 ألف مساهم في مختلف الأنشطة العمرانية والتنموية والمصرفية والاقتصادية والتجارية والتعليمية والحرفية، بتميز مشهود له وباحترام ملحوظ للخصوصية المجتمعية وبالتزام شديد بالقوانين والأعراف والتقاليد، وبالمقابل لا تكاد أسرة من الأسر الكويتية الكريمة تخلو من شخص يرتبط بعلاقة معينة بلبنان وأهله، ويشمل ذلك السياحة والتجارة والتملك والروابط الاجتماعية.
وبتجاوز لعموم الإيجابية في علاقة الشعبين الشقيقين، يشكل السياق فرصة للإضاءة- بواقعية وألم- على التراجع الملحوظ في عدد الكويتيين الذين كلما ذكر أي منهم تبادر اسم لبنان الى الأذهان بسبب ارتباطهم الوجداني ومعرفتهم للتفاصيل اللبنانية السلبية منها قبل الإيجابية، والسبب وراء هذا التراجع معروف وواضح، ولكنه محزن في الوقت نفسه، حيث إن معظم هؤلاء الكويتيين هم من الأجيال التي عهدت لبنان «كسويسرا الشرق» قبل أن تلوّثه قذارة الحروب وتنهكه شدة الأزمات وتكرارها، فكانوا من رواد مدارسه وخريجي جامعاته ومن عشّاق السياحة في ربوعه ومالكي البيوت في ضيعه، وقد بدأ عددهم بالتراجع تدريجياً لعدة أسباب أبرزها تقادم السنين ومن ثم التفات الأجيال الكويتية المتعاقبة الى وجهات أخرى أكثر أماناً واستقراراً، وليس بالضرورة أكثر جمالاً وترحاباً وضيافة!
***
ما بين الشعوب الشقيقة أكثر من أخوّة وأشمل من علاقة وأصلب من أي اهتزازات ظرفية تنحصر المسؤولية عنها بمجموعة صغيرة من المتغافلين عن ثوابت التاريخ والمتنكرين لواقع الجغرافيا والضالين عن حقيقة الانتماء.
فإذا ما تخطّينا تميّز العلاقة السياسية والاقتصادية بين البلدين الشقيقين، وتغاضينا لحظياً عن المواقف المشرفة لكلا الحكومتين في المراحل العصيبة كافة التي مرّ بها الوطنان المتشابهان ظروفاً وحجماً وأطماعاً بخيراتهما وأزمات، يثبت الواقع أن السفراء الشعبيين من كلا البلدين- غير المنصّبين رسمياً- شكلوا في فترات عديدة ومختلفة شبكة أمان للعلاقة المميزة بين البلدين، ومدّوا جذور ارتباط وجداني لا نجد غضاضة بالتذكير بسموها وصدقها وتميزها الإنساني والحضاري.
* كاتب ومستشار قانوني.