الحوكمة بشكل عام، هي تطبيق أعلى معايير الجودة في الإدارة، وإذا قُمنا بإسقاط ‏الحوكمة كعملية إصلاح إداري على القطاع العقاري، فإننا سنجد أنها تنطبق على محورين ‏أساسيين، هما:‏

‏حوكمة التخطيط العقاري: وهي العملية التي تنطلق من العقارات على أرض ‏الواقع، من حيث أبعادها ومواصفاتها واتجاهاتها وطبيعتها، بهدف وضع مخططات ‏عقارية مطابقة للواقع يمكن الرجوع إليها للاطلاع على أوصاف وحدود كل عقار بكل ‏دقة.‏

‏وحوكمة التصرفات العقارية: وهي عملية التطوير في إدارة التصرفات القانونية ‏التي تجري على العقارات، بحيث يكون كل حق قائم أو محتمل مسجلاً على ‏صحيفة كل عقار، بما يمنح صاحب الحق على العقار إثباتاً رسمياً للاحتجاج بحقه من ‏جهة، وبما يحمي الغير من أي تصرفات مخفية غير مسجلة على العقارات التي لهم ‏بها مصلحة من جهة أخرى.‏
Ad


فإذا انطلقنا من نقطة البداية - ألا وهي حوكمة العقارات- فإننا سنصل بالتأكيد إلى مرحلة ‏حوكمة التوثيق العقاري.‏

حوكمة التوثيق العقاري... المهمة الإدارية / القانونية الأصعب

المهمة الأساسية لأي دولة هي حفظ الأمن والحقوق والأموال العامة والخاصة، وفي ‏هذه النقطة الجوهرية تتبوأ العقارات مرتبة الصدارة من حيث الأولوية، نظراً لكون ‏العقارات ذات قيم مرتفعة وقدرة على الضمان، كما أن للعقارات أبعاداً جغرافية ‏واقتصادية أخرى، تصل إلى حد حماية السيادة الوطنية على العقارات الاستراتيجية ‏والحدودية.‏

لذا، فإن المأمول من إدارة السجل العقاري هو الانتقال من التوثيق الشخصي العام ‏إلى التوثيق العيني الخاص، كما يلي:‏

‏1. التوثيق العقاري الشخصي العام: وهي المرحلة التي يتم فيها إنشاء الخرائط ‏بغرض تسجيل المحررات، فيكون المسح وتحديد العقار بشكل تفصيلي تالياً للبيع ‏وطلب تسجيل المحرر.‏

‏2. التوثيق العقاري العيني الخاص: وهي المرحلة الأكثر أهمية وحساسية على ‏أصحاب الحقوق العقارية، حيث يتم من خلالها إنشاء خرائط تفصيلية قبل إجراء ‏التصرفات، ثم يتم التسجيل الرسمي للتصرفات، ابتداءً من ترخيص البناء للمالك ‏الأول، إلى البيع والشراء للمالكين المتعاقبين، كما يتم توثيق تصرفات الرهن، ‏والضمان، والحجز، وإشارات الدعوى العقارية، وغيرها من الحقوق التي قد يثقل بها ‏العقار.‏

كما قد يتم تطوير هذه المرحلة، عبر التصحيح على المخططات التنظيمية السابقة، ‏بما يتلافى العيوب وينهي أي منازعات على أجزاء من عقارات، وكذلك عبر تحويل ‏مناطق المخالفات إلى عقارات ذات صحائف عقارية رسمية. ويمكن استخدام ‏التطوير العقاري كمشروع استثماري يحوِّل المناطق العشوائية أو النائية إلى مشاريع ‏عقارية ضخمة ضمن المخطط التنظيمي المفصل.‏

آليات التوثيق العقاري في الكويت بين التركيز على الشخص أو العقار

عندما بدأ العمل على التوثيق العقاري في الكويت، كانت الدولة حديثة العهد بالعمل ‏المساحي، ولم تتوافر المخططات اللازمة لإصدار سجِّل يتضمن مخططات تفصيلية ‏تسمح بوجود صحيفة عقارية لكل عقار.‏

بناءً عليه، كان الاتجاه التشريعي في تبني آلية «الشهر العقاري»، وفق المرسوم ‏بقانون التسجيل العقاري رقم 5/ 1959، وهي آلية توثيق تعتمد على فكرة التركيز ‏على توثيق المحررات الشخصية التي يبرمها الناس، والتي يكون العقار محلها.‏

فقد اعتمد المشرّع في الكويت آلية تسجيل عقود البيع العقارية عبر توثيقها من موظف ‏رسمي، بعد التأكد من هوية وأهلية كل متعاقد بحضور شاهدين (م/17 مرسوم ‏‏5/ 1959)، وفق محضر للتصديق على التوقيعات (م31)، تحت طائلة عدم انتقال ‏الحق، في حين يتبقى الأثر القانوني للعقود العقارية غير المسجلة في حدود الالتزامات ‏الشخصية المتبادلة (م/7)، والتي تسمح للطرفين بإقامة دعوى تثبيت شراء.‏

وهكذا يصبح لعقد البيع العقاري صبغة رسمية، لأن العقد يتم بمعرفة موظف ‏رسمي مختص بتسجيل التصرفات العقارية، ثم يمكن استخراج صورة طبق الأصل ‏عن هذا التصرف كنوع من الإشهار للمعاملات.‏

وقد حاول المشرّع الكويتي أن يطوِّر آلية الشهر العقاري التقليدية، عندما سمح بقيد ‏الديون من طرف الدائن، بعد تعيين العقار بشكل دقيق (م/18)، كما فرض المشرّع ‏تسجيل الدعاوى العقارية على المحررات المسجلة لديه بموجب المرسوم ‏‏73/ 1979 الذي عدل المرسوم 5/ 1959 (م/11 مكرر 1).‏

لكن بعد أن تطور العمل على التوثيق العقاري المساحي، وأصبح الربط الإداري بين ‏جهات التخطيط الهيكلي والمسح العقاري ممثلة في بلدية الكويت (م/3 قانون ‏البلدية رقم 33/ 2016) مع إدارة التسجيل أكثر سهولة، مما سمح بقيد التصرفات ‏على المخططات التفصيلية مباشرة، وفي ظل الرغبة بإصدار مخططات تفصيلية ‏تدعم عملية التنمية والاستثمار والتطوير العقاري في الكويت، فقد أصدر المشرّع ‏قانون السجل العيني رقم 21/ 2019.‏

تبنى المشرع في قانون 21/ 2019 آلية «السجل العيني»، وهي الآلية التي تحتاج إلى ‏وجود مخططات عقارية محددة ومحررة قائمة بتفاصيل كل عقار على حدة، ‏بموجب صحيفة عقارية تتضمن أوصاف العقار والحقوق التي عليه، وهو ما يسمح ‏بدراسة قانونية دقيقة لكل عقار بكل دقة.‏

يرخي السجل العيني بآثار قانونية بالغة الأهمية، بما يختلف بشكل جذري عن آثار ‏الشهر العقاري.‏

الآثار القانونية... آلية التوثيق العقاري الشخصي أو العيني

إذا أردنا أن نقدِّم رؤية مقارنة بين آثار آليات التوثيق العقاري، فعلينا بتحديد ‏النقاط الأساسية التالية:‏

أولاً: المواصفات العقارية

ليس من مهام الشهر العقاري تقديم أوصاف ‏مساحية وخرائط دقيقة وجاهزة ودقيقة لتفاصيل العقار المساحية.‏

يقوم القسم الفني بدائرة التسجيل العقاري بمعاينة العقار وفق عملية خاصة ‏بمراجعة طلب تسجيل العقد على العقار من الناحية المساحية (م/16 مرسوم ‏‏5/1959، والمذكرة التفسيرية).‏

بينما تعتبر مسألة تقديم أوصاف العقار بشكل جاهز ودقيق أحد أركان السجل ‏العيني قبل تقديم أي طلب لقيد التصرفات العقارية على السجل.‏

ثانياً: التصرفات القانونية على العقارات

ينحصر دور الشهر العقاري بتوثيق ‏التصرف في قالب رسمي لا يمكن إثبات عكسه إلا بالتزوير، لكن الشهر العقاري لا ‏يضمن للمشتري أن يكون البائع هو المالك الحقيقي الأخير للعقار، أي أن آلية شهر ‏المحررات العقارية لا تضمن صحة العقد، رغم كونه مسجلاً بشكل رسمي، ولا يضمن ‏سلامة الملكية للشخص المتصرف إليه (راجع المذكرة التفسيرية لقانون السجل ‏العيني رقم 21/ 2019).‏

والسبب أن الشهر العقاري يركز على توثيق التصرف الشخصي المستقل ذاته ‏المتمثل بالمحرر - كعقد البيع- دون أن يمنح المشتري القدرة على معرفة المالك ‏الأخير للعقار وفق التسلسل الدقيق من المالك الأول حتى الأخير.‏

فعلى سبيل المثال، إذا كان العقار مملوكاً على الشيوع بين عدة شركاء، وكان عقد ‏شرائهم للعقار ونسبة ملكية كل منهم مسجلاً في عقد مسجل في الشهر العقاري، ثم ‏جاء هؤلاء حتى يبيعوا العقار، فلا توجد آلية دقيقة تضمن للمشتري أن جميع ‏المالكين على الشيوع مازالوا مالكين لحصصهم في العقار.‏

فقد يكون أحدهم قد باع حصته بموجب عقد جديد، وقام البائع بتسجيل البيع ‏بشكل مستقل عن باقي شركائه، وهكذا سيبقى اسم البائع موجوداً كمالك على الشيوع ‏في مستند الشراء القديم الذي يجمعه مع باقي الشركاء، وقد يصعب اكتشاف هذا ‏البيع، لأنه يحتاج إلى بحث في سجل الفهرس الشخصي للمحررات الذي قد تتشابه ‏فيه الأسماء أحياناً.‏

أما إذا كان بيع الحصة تم بموجب وكالة، مثلاً، فقد يصعب اكتشاف اسم البائع ‏الموكل في الفهارس الشخصية للمحررات في السجل العقاري، لذا يمكن للمشتري أن ‏يشتري العقار من شخص غير مالك.‏

أما بخصوص آلية السجل العيني، فمن أهم أسباب وجود هذا السجل هو إنشاء ‏صحيفة عقارية تحدد التسلسل التاريخي الصريح لمالكي كل عقار، بما يسمح ‏للمشتري معرفة المالك الأخير على الصحيفة العقارية، وهكذا يضمن المشتري حسن ‏النية صحة عقد البيع طالما كان قد اشترى من المالك الأخير المقيد على الصحيفة ‏العقارية، لأن حجة بيانات السجل العيني تكون تجاه الكافة من حيث المبدأ.‏