في الوقت الذي حصر أدباء روسيا الكبار، أمثال دوستويفسكي، وبوشكين، وتورغينيف، وغوغول، وغوركي وغيرهم، أنفسهم في غمار الحياة الروسية والخوض في آلامها وأحلامها، ولم يخرجوا عن الشأن الروسي أو يُشغلوا أنفسهم بالحياة خارج عالم روسيا، نجد أن ليو تولستوي يقول في روايته «الحرب والسلام»:
«إن الإنسان الذي لا يشغل نفسه بأحوال البشر في كل أنحاء العالم، ويحصر فكره في بلدهِ لا يُعتبر مُنتمياً انتماءً حقيقياً للمجموعة البشرية، لأن مشاكل روسيا الاجتماعية في الريف تُمثلها قرية واحدة، والحضرية تُمثلها مدينة واحدة... فماذا عن جزر المحيطات؟ ونحن نعرف المسيحية ونلتقي رجالها ليل نهار... ولكن ما أقل ما نعرف عن الإسلام والمسلمين، مع أننا نجاور دولاً إسلامية في أطراف بلادنا يعيش فيها كثيرون من المسلمين! فماذا نعرف عنهم وعن نبيهم وديانتهم؟ بل كيف نعرّفهم بالحياة الروسية والعقلية الروسية وأسلوب الحياة في روسيا؟».
***
هذه الفقرة على وجه التحديد وردت في حوارات أبطال رواية «الحرب والسلام» وأثارت عواصف في وجه الأديب تولستوي من جانب قيصر روسيا، لأنهُ أول كاتب يتعرض لذكر المسلمين الذين احتُلت بلادهم بقوة السلاح لتغدو تحت الهيمنة القيصرية التي صارت تبتز كل خيراتها... ولهذا كان موقف القيصر نقولا الثاني من تولستوي سلبياً وكان يرفض استقباله... وكذلك كانت زوجة القيصر تكره تولستوي لأنهُ قد بلغها أن الأديب يراها تؤمن بالشعوذة عندما مكنت القسيس المشعوذ راسبوتين من الهيمنة على القصر الرسمي لروسيا.
***
لقّب الناس أديبهم تولستوي بأبي الشعب الروسي، الأمر الذي أثار حفيظة القيصر، فبات معروفاً أن هناك عداء بين القصر وتولستوي لاسيما بعد توزيع أراضي الأخير على الفلاحين. وقد همس الأديب لطبيبه في الأيام التي كان يعاني سكرات الموت:
- احذروا أن يحرك راسبوتين القصر ليقيم عليكم دعوة جنائية؟
- ولمَ يقيم مثل هذه الدعوة؟
- لأنني أوصيت ابنتي ساشا ألا تسمح لقسيس القصر بالدخول عليّ.
- لمَ أيها الأديب؟
- لأنه يريد أن يلقنني هراءً، وأنا لست بحاجة إلى كلام يُلقنني إياه قسيس دجال... فأنا أعرف كيف أخاطب ربي.
- وما مسوغات الدعوة الجنائية؟
- أعرف أن زوجتي صوفيا سوف تطرد رجال الكنيسة من جنازتي... وقد طلبتُ من ابنتي ساشا ألا أُدفن في مقابرهم، فقد اخترت مكاناً في مزرعتي.
***
هذه المواقف المعلنة لرأي تولستوي في المؤسسة الدينية حالت بينه وبين جائزة نوبل التي أنشئت عام 1901، وكان هو أكثر الأدباء شهرة في العالم، حتى لقي ربه في عام 1910 ولكنه لم يُرشح لنيلها... وقد تعددت الأقوال في عدم ترشيحه للجائزة، غير أن هذا الأديب الإنسان حظي بتقدير الإنسانية كلها، وهذا أكثر بكثير من جائزةٍ تتحكم في منحها الأمزجة ذات التوجهات المختلفة.