يجب أن تتعلم أميركا والصين كيف تعيشان معاً، وأن تتوقف كل منهما عن إقناع نفسها بأن الأخرى تمثل خطراً استراتيجياً عليها، وإلا فإن العالم سيواجه صداماً بين القوتين العظميين «وما يفصلنا عن ذلك هو أقل من 10 سنوات»... تحذير أطلقه وزير الخارجية الأميركي الأسبق والخبير الاستراتيجي المعروف هنري كيسنجر في مقابلة أجرتها معه مجلة إيكونوميست البريطانية، قدم فيها أفكاراً لما سماه «تفادي نشوب حرب عالمية ثالثة».

كيسنجر قال إن الصينيين توصلوا إلى أن أميركا لن تألو جهدا لإبقاء بلادهم متخلفة عنها، بينما يصر الأميركيون على أن الصين تخطط لتحل محل الولايات المتحدة كقوة رائدة بالعالم، وهو ما جعل كيسنجر يشعر بالقلق من أن هذه المنافسة الشديدة بين الدولتين لكسب رهان التفوق التكنولوجي والاقتصادي ستكون لها عواقب وخيمة «ولابد من خطة لمنع تطور ذلك لحرب لا تبقي ولا تذر».

Ad

يوم 27 الجاري سيبلغ كيسنجر عامه الـ100، ولا أحد على قيد الحياة حسب المجلة لديه خبرة أكبر من خبرته بالشؤون الدولية، أولاً بصفته باحثاً في دبلوماسية القرن 19، ولاحقًا بصفته مستشارًا للأمن القومي الأميركي ووزيرًا للخارجية، وعلى مدى السنوات الـ 46 الماضية كمستشار ومبعوث إلى ملوك ورؤساء ورؤساء حكومات عبر العالم.

يحذر كيسنجر في البداية من أن ميزان القوى والأساس التكنولوجي للحرب يتغير بسرعة كبيرة وبطرق عديدة، لدرجة أن البلدان تفتقر إلى أي مبدأ راسخ يمكنها على أساسه الحفاظ على النظام، وإذا فشلت في ذلك فربما يكون البديل هو اللجوء للقوة و«نحن في وضع شبيه لما كانت عليه الأمور قبل الحرب العالمية الأولى، حيث لا يتمتع أي من الجانبين بهامش كبير من التنازل السياسي، وحيث يمكن أن يؤدي أي اضطراب في التوازن إلى عواقب وخيمة».

ورغم أن الكثيرين يرون في كيسنجر مروجا للحروب فإنه يقول الآن إنه توصل إلى أن الطريقة الوحيدة لمنع حدوث صراع مدمر هو «الدبلوماسية العنيفة، المدعمة بشكل مثالي بالقيم المشتركة» فمصير البشرية وفقا لكيسنجر يتوقف على مدى استعداد أميركا والصين للتعايش، وهو يعتقد أن التقدم السريع للذكاء الاصطناعي، خصوصاً، لا يترك لهم سوى 5 - 10 سنوات لإيجاد طريق لذلك.

ويرى كيسنجر أن نقطة البداية لتجنب الحرب هي تحليل القلق المتزايد من الصين، فالعديد من مفكريها يعتقدون أن أميركا على منحدر. وبالتالي، فإنهم وفقا للتطور التاريخي «سوف يحلون محلنا». لكنه يعتقد أن القيادة الصينية تستاء من حديث صانعي السياسة الغربيين عن نظام قائم على القواعد العالمية، في حين أن ما يقصدونه حقًا هو قواعد ونظام أميركا، بل إن البعض في الصين يعتقدون أن واشنطن لن تعامل بلدهم أبدًا على قدم المساواة وأنه من الحماقة تخيل ذلك.

في المقابل، يحذر كيسنجر أيضا من إساءة تفسير طموحات الصين، إذ إن في واشنطن ثمة من هم مقتنعون بأن بكين تريد الهيمنة على العالم، لكنه يرى أن الحقيقة أن الصينيين يريدون أن يكونوا أقوياء لكنهم لا يتوقون للهيمنة على العالم بالمعنى «الهتلري» فذلك لا يتماشى حسب رأيه مع تفكيرهم.

لكن الخوف من الحرب يقيم أرضية للأمل حسب هذا الخبير الذي ينبه في ذات السياق إلى أن المشكلة أن أياً من الطرفين ليست لديه مساحة كبيرة لتقديم تنازلات، بالذات في مسألة تايوان، فكل الزعماء الذين تعاقبوا على حكم الصين من العقود الماضية أكدوا تمسك بلادهم بضم تايوان، كما أن تخلي أميركا عن هذه الجزيرة سيعني تقويض مكانتها في مواقع أخرى.

ويعتمد طريق كيسنجر للخروج من هذا المأزق على خبرته بالمنصب، إذ يقول إن البداية ستكون بخفض درجة حرارة التوتر، ومن ثم بناء الثقة التي تؤدي إلى ممارسة كلا الجانبين ضبط النفس عبر إنشاء مجموعة صغيرة من المستشارين من كلا الطرفين، يمكنهم التواصل مع بعضهم بعضا بشكل سلسل وإن ظل غير معلن.

النصيحة الثانية لكيسنجر بهذا الصدد هي «تحديد أهداف مقنعة للناس، والبحث عن وسائل واضحة لتحقيق تلك الأهداف، على أن تكون تايوان أول منطقة من بين عدة مناطق يمكن لبكين وواشنطن أن تجدا فيها أرضية مشتركة مما سيؤدي لتعزيز الاستقرار العالمي»، محذرا من أن سياسة الكل أو لا شيء تهديد في حد ذاتها لكل ما من شأنه تخفيض التوتر. وبدلاً من التصعيد، على أميركا الاعتراف بأن للصين مصالح، وخير مثال على ذلك هو أوكرانيا، حسب قوله.

النصيحة الثالثة لكيسنجر للقادة الطامحين هي «ربط كل هذه الأهداف بأهدافك المحلية، مهما كانت». وبالنسبة لأميركا، يتضمن ذلك تعلم كيفية أن تكون أكثر براغماتية، والتركيز على صفات القيادة. والأهم من ذلك كله، تجديد الثقافة السياسية للبلاد.

ونموذج كيسنجر للتفكير البراغماتي هو الهند. ويتذكر هنا ما أوضحه مسؤول هندي كبير سابق أن السياسة الخارجية يجب أن تستند إلى تحالفات غير دائمة موجهة نحو القضايا، بدلاً من ربط بلد في هياكل كبيرة متعددة الأطراف.

ويرى كيسنجر أن «من الممكن أن نتمكن من إنشاء نظام عالمي على أساس القواعد التي يمكن لأوروبا والصين والهند الانضمام إليها» وهو ما يمكن أن يجنب العالم الوقوع في كارثة.

ويختم السياسي الأميركي المخضرم بأن قادة العالم يتحملون مسؤولية جسيمة، ويحتاجون إلى الواقعية لمواجهة الأخطار المحدقة، وإلى رؤية تمكنهم من إدراك أن الحل يكمن في تحقيق التوازن بين قوات بلادهم، وضبط النفس للامتناع عن استخدام قوتهم الهجومية إلى أقصى حد، وهو ما يعتبر تحديا غير مسبوق و«فرصة عظيمة».