عنوان المقال هو استعارة محرّفة لعبارة معروفة بالتاريخ السياسي الحديث بما يسمى «المسألة الشرقية» أو ما يعرف بالإنكليزية بعبارة (Eastern Question) وهي تشير الى مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثورات التي نشأت في الشرق الأوسط وشرق أوروبا بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر في مرحلة بدء تفكك السلطنة العثمانية التي كانت تسيطر على المناطق الشاسعة المذكورة، وذلك قبل تحولها تدريجياً الى «رجل مريض» أثر باحتضاره ومن ثم بوفاته على كثير من الدول والمصالح الإقليمية والدولية، والتي كانت روسيا وبريطانيا وفرنسا من أهم المعنيين بها، هذا وقد تم استخدام عبارة «المسألة الشرقية» في الفترات اللاحقة للإشارة إلى المشاكل والصراعات التي واجهت دول الشرق الأوروبي والدول العربية.
وفي السياق نتفق مع ما ختم به الرائد علي يونس بحثه المميز في «المسألة الشرقية» بما يفيد أن الفهم الصحيح للعلاقة المعقدة بين الغرب والشرق بواقعها الراهن والتاريخي يتطلب عمقاً وحيادية في فهم الأحداث التاريخية وحسن تحليلها، فبنظره أن «السلطنة العثمانية» لم تكن في نهايات أيامها عظيمة ومخيفة الى حدّ يجهد الغرب نفسه في تشويه صورتها والتهويل منها تمهيداً لإرث مجدها وأراضيها، ولكنها كانت شمّاعة تعلّق عليها دول أوروبا الغربية كل الحجج المبررة لتدخلها العسكري ووجودها القوي في مناطق النفوذ الشرقية للسلطنة، إذ إن الأمر في حقيقته هو صراع متجذر بتاريخه وعميق بأبعاده بين مجموعتي دول شرق أوروبا وغربها منطلقاً من أسس واضحة من اختلاف التقاليد المجتمعية وتنافر القناعات الدينية وتضارب المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية.
فبرأي الباحث لم تكن القوى الأوروبية العظمى في وقتها تريد فعلياً أن تنهار الإمبراطورية العثمانية بسرعة، بل أرادت- قبل أن تنقض على إرثها- أن تصل الى الحد الأقصى الممكن من الـثأثير على المناطق العثمانية التي ترغب في ضمها بحرص شديد على التعامل الدقيق والمدروس مع توازن القوى، بين رغبة روسيا «الأرثوذوكسية» بالتوسع غرباً وجموح الدول الأوروبية «الكاثوليكية-البروتستانتية» التي أضحت، بعد قرون من التقاتل الداخلي الديني، تتقاتل فيما بينها على الموارد خارج أقاليمها، الأمر الذي كان من شأنه تغليف «المسألة الشرقية» بضبابية تخفي حقيقتها.
سواء أصدّقنا أن التاريخ يعيد نفسه أم لم نصدق هذه المقولة، فالحقيقة أن واقع الصراع المبطّن بين روسيا الشرقية والغرب الأوروبي لم يصبح بعد من التاريخ المنسي، بل ما زالت تداعياته تظهر للعلن في كل فرصة ومناسبة رغم محاولات الكثيرين من المؤثرين شرقاً وغرباً بلمّ الشمل وردم الهوة، ابتداء من محاولات التحديث التي قام بها «بطرس الأكبر» ومن ثم «كاثرين الثانية» في أوائل القرن الثامن عشر الى حركة «البيريسترويكا» الإصلاحية التي تبناها «ميخائيل غورباتشيف» والتي هي في حقيقة الأمر محاولة «تغريب» الاتحاد السوفياتي السابق.
حقيقة الموقف الغربي من الجبهة الشرقية لأوروبا والمتمثلة بروسيا التي تشكل الدولة الأقوى والأهم فيها، تلخصها مقولة «هنري كيسنجر» الذي اعتبر أن «التوسع الإقليمي لروسيا، وغموض دورها الدولي، وحقيقة أن حكامها لم يتم تربيتهم في إطار التقاليد الثقافية الأوروبية، جعلها تبدو لجيرانها على أنها الأكثر غرابة بين القوى الأوروبية».
وبعود على بدء، ليس بجديد الاستنتاج أن الصراع الروسي-الأوروبي المحتدم فصولاً على الأراضي الأوكرانية هو امتداد منطقي للخلاف التاريخي بين كنيستي أوروبا الشرقية والغربية، كما أنه صراع سياسي واقتصادي وتسابق على النفوذ والموارد، وهو أيضاً تنافر بين مجتمعين يبدو أنهما لا يلتقيان على كثير من القناعات، فما يلبثوا أن يلملموا جراح حرب حتى يدخلوا في نزاع جديد، وليس أدل على ذلك من تجدد صراع السيطرة على «القرم» ابتداء من القرن التاسع عشر، ومن ثم الحربان العالميتان اللتان تعارضت فيهما مواقف ومصالح الدول في جانبي أوروبا، مروراً بما قد يسمى صراع «الفيتو» في أروقة الأمم المتحدة، وليس انتهاء بالحرب الباردة.
فرغم المحاولات الجاهدة لضم وتقبّل «روسيا»- الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي- في منظومة «العولمة» وجهود ربطها- ولو ادعاء- بكل ما يتصل بمفاهيم «الديموقراطية» الغربية، بقيت نظرة الغرب الى الروس- ومجدداً وفق «كيسنجر»- على أنهم «ليسوا أوروبيين»، وهنا نقتبس ما قاله المفكر والكاتب الروسي نيكولا دانيلفسكي في كتابه الذي أصدره عام 1999 بعنوان «روسيا وأوروبا: إسهام في تاريخ الفكر الروسي»، معتبراً أن «المسألة الشرقية ليست مجرد مسألة سياسة أو دبلوماسية، بل هي مسألة حضارات، فالغرب والشرق مختلفان اختلافاً جوهرياً، ولا يمكن حل صراعاتهما بالقوة أو الإكراه. روسيا، كقوة سلافية وأرثوذكسية، عليها واجب خاص لحماية شعوب الشرق وتعزيز قيمها الثقافية والدينية».
احتدم الصراع الأوروبي-الروسي في أوكرانيا في القرن الحالي وبشكل علني عام 2014، عندما قرر الرئيس الأوكراني السابق «فيكتور يانوكوفيتش» تعليق الاتفاقية التجارية مع الاتحاد الأوروبي والاقتراب من روسيا، مما أدى إلى احتجاجات شعبية واسعة في البلاد بتأثير وتدخل مباشر من الإعلام الغربي وربما المخابراتي.
تداعيات هذا الصراع كانت واسعة النطاق ومتعددة الأوجه، فقد تسبب في تدهور العلاقات بين روسيا والغرب بشكل عام، مما عرض روسيا لعقوبات اقتصادية معلنة وخفية، كما أدت الى تدهور الأوضاع الأمنية في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا اليها دون اعتراف دولي، ناهيك عن تمدد النفوذ الروسي الى مقاطعات في شرق أوكرانيا ذات أغلبية تنتمي بأصولها ولغتها ووجدانها للثقافة الروسية، كما أراد ونجح بذلك «ستالين» في المرحلة السوفياتية.
الخشية اليوم- وربما التمني عند البعض- أن تحلّ «المسألة الغربية» محل «المسألة الشرقية» بمعنى أن عدم الحسم السريع للحرب الروسية-الأوروبية في أوكرانيا سيؤدي حتماً الى عدم استقرار القارة الأوروبية وتفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيها، لدرجة يصح أمام هذا الواقع الحديث لاحقاً في أروقة السياسة وفي صفحات التاريخ عن مجموعة أحداث وثورات وإرباكات وأزمات ترتبط باحتضار «القارة العجوز» التي ورثت «الرجل المريض»، ليؤكد لنا التاريخ مجدداً أن «الأيام دول والدول أيام».
* كاتب ومستشار قانوني