لم يكن مستغرباً من زعيمي أكبر جماعتين دينيتين في السودان «الأنصار» و«الختمية» إعلان تأييدهما لأول انقلاب عسكري يقوم به إبراهيم عبود عام 1958، فالعبارة المتداولة والمنقولة عنهما «أن لعنة العسكر ستلاحقنا حتى القبر» وهذا ما ينطبق على حرب قائد التمرد وقوات الدعم السريع «دقلو» والفريق عبدالفتاح البرهان، فاللعنة مستمرة تحصد أرواح المدنيين، وتدمر العاصمة الخرطوم منذ شهرين دون أن تلوح في الأفق أي آمال في وقف التطاحن أو تسوية من شأنها إيقاف حمام الدم الذي ابتلي به هذا الشعب.

وكان تعبيراً عن واقع مأزوم ما كتبه المحلل السياسي اللبناني نبيه البرجي بأن ما يحصل على الأرض يشبه معركة تكسير عظام بين «الجنرالين»، وبالأصح بين قائد متمرد وزعيم ميليشيا في وجه الرئيس البرهان.

Ad

قبل فترة كتب الزميل حسين الشبكشي مقالة قيمة في «الشرق الأوسط» تناول فيها الدور الإسرائيلي الغامض في السودان وبعرض معلوماتي في غاية الأهمية، منهياً مقالته بالقول «إذا كان اسم اسرائيل غائباً عن أحداث السودان الحالية فلا يعني ذلك عدم وجود بصماتها فيها»، والمراقب المتابع ليس بعيداً عن الصورة التي يتحرك فيها هذا الإسرائيلي في الساحة السودانية.

ففي كتاب د. هبة جمال الدين «الديانة الإبراهيمية» مبحث كامل تحت عنوان «إسرائيل السودان.. وفصل آخر من صفقة القرن» تؤكد فيه: مخطئ من يظن أن السودان وما يجري فيه، يعني السودانيين فقط بل هناك من دخل إلى هذا البلد وعبر محطات مختلفة، وهي إسرائيل فقد نجح «الموساد» بانفصال الجنوب عن دولة السودان، واعتبره انتصاراً إسرائيلياً في الكتاب الذي أصدره تضمن ملامح الدور وأبعاد الأدوات التي استخدمتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي والتي أطلت برأسها عبر شحنات من الأدوية والمواد الغذائية. وانتهت بصفقات السلاح عبر أوغندا وإثيوبيا، بل إن حركة «ايانيا الانفصالية» تكونت بفضل ثلاثة ضباط من الموساد، منهم إيلي كوهين، وكانت أول دولة تعترف بجنوب السودان بعد أميركا والاتحاد الأوروبي..

فبيت القصيد أن دولة السودان وثرواتها كانت وما زالت أحد أهم المآرب، وقد استهدفتها عبر آلية التقسيم والتفتيت بدعاوى تقرير المصير واللعب بملفات الأقليات والطوائف العرقية، وضع السودان في غرفة العمليات الإسرائيلية لتحقيق هدف استراتيجي يقوم على التقسيم وألا مستقبل لهذا البلد سوى التقسيم!

تدرجت العلاقات بين إسرائيل والسودان مؤخراً في لقاءات عقدها البرهان مع نتنياهو في فبراير 2020 «بأوغندا تلاه فتح المجال الجوي السوداني للطيران الإسرائيلي، وقبلها التساهل بتهجير وعودة يهود الفلاشا وصولاً إلى مرحلة التطبيع التي شرعت الوجود الإسرائيلي وعبر قنوات مفتوحة كان من معالمها مبادرة نتنياهو استعداده «للتوسط» بين الفرقاء المتنازعين الآن وعدم التضحية بالقوى السياسية المدنية!

المخطط الذي يتم الحديث عنه وهذا هو الأهم، قيام «الولايات السودانية المتحدة» وهو مشروع يتم الترويج له وتسويقه باعتباره نموذجاً مدنياً للحياة الديموقراطية التي يحلم بها الشعب السوداني، مشروعاً ظاهره الرحمة وباطنه القضاء على الدولة المركزية السودانية.

وبالعربي الفصيح تقسيم السودان من خلال اتحاد كونفدرالي يجمع الولايات، على غرار الاتحاد الأوروبي، فالأرضية جاهزة وصالحة لتوليد دويلات عرقية وقبلية، تنتظر من يرعاها ويحتضنها...

السودان هذا البلد الذي يعاني الفقر ولا يزرع سوى ربع أراضيه الصالحة للزراعة ويستورد معظم السلع الأساسية من الخارج، هل ينزلق إلى التفتيت أم يعاود النهوض من جديد؟ وماذا سيكون دور العسكر؟